قوله تعالى : { قال } ، جبريل : { كذلك } ، قيل : معناه كما قلت يا مريم ولكن ، { قال ربك } . وقيل هكذا قال ربك ، { هو علي هين } ، أي : خلق ولد بلا أب ، { ولنجعله آيةً } ، علامة ، { للناس } ، ودلالة على قدرتنا ، { ورحمةً منا } ، ونعمة لمن تبعه على دينه ، { وكان } ذلك ، { أمراً مقضياً } ، محكوماً مفروغاً عنه لا يرد ولا يبدل .
{ قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ ْ } تدل على كمال قدرة الله تعالى ، وعلى أن الأسباب جميعها ، لا تستقل بالتأثير ، وإنما تأثيرها بتقدير الله ، فيري عباده خرق العوائد في بعض الأسباب العادية ، لئلا يقفوا مع الأسباب ، ويقطعوا النظر عن مقدرها ومسببها { وَرَحْمَةً مِنَّا ْ } أي : ولنجعله رحمة منا به ، وبوالدته ، وبالناس .
أما رحمة الله به ، فلما خصه الله بوحيه ومن عليه بما من به على أولي العزم ، وأما رحمته بوالدته ، فلما حصل لها من الفخر ، والثناء الحسن ، والمنافع العظيمة . وأما رحمته بالناس ، فإن أكبر نعمه عليهم ، أن بعث فيهم رسولا ، يتلو عليهم آياته ، ويزكيهم ، ويعلمهم الكتاب والحكمة ، فيؤمنون به ، ويطيعونه ، وتحصل لهم سعادة الدنيا والآخرة ، { وَكَانَ ْ } أي : وجود عيسى عليه السلام على هذه الحال { أَمْرًا مَقْضِيًّا ْ } قضاء سابقا ، فلا بد من نفوذ هذا التقدير والقضاء ، فنفخ جبريل عليه السلام في جيبها .
( قال : كذلك قال ربك : هو علي هين . ولنجعله آية للناس ، ورحمة منا ) . .
فهذا الأمر الخارق الذي لا تتصور مريم وقوعه ، هين على الله . فأمام القدرة التي تقول للشيء كن فيكون ، كل شيء هين ، سواء جرت به السنة المعهودة أو جرت بغيره . والروح يخبرها بأن ربها يخبرها بأن هذا هين عليه . وأنه أراد أن يجعل هذا الحادث العجيب آية للناس ، وعلامة على وجوده وقدرته وحرية إرادته . ورحمة لبني إسرائيل أولا وللبشرية جميعا ، بإبراز هذا الحادث الذي يقودهم إلى معرفة الله وعبادته وابتغاء رضاه .
بذلك انتهى الحوار بين الروح الأمين ومريم العذراء . . ولا يذكر السياق ماذا كان بعد الحوار ، فهنا فجوة من فجوات العرض الفني للقصة . ولكنه يذكر أن ما أخبرها به من أن يكون لها غلام وهي عذراء لم يمسسها بشر ، وأن يكون هذا الغلام آية للناس ورحمة من الله . أن هذا قد انتهى أمره ، وتحقق وقوعه : ( وكان أمرا مقضيا )كيف ? لا يذكر هنا عن ذلك شيئا .
{ قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ } أي : فقال لها الملك مجيبًا لها عما سألت : إن الله قد قال : إنه سيوجد منك غلامًا ، وإن لم يكن لك بعل ولا توجد{[18739]} منك فاحشة ، فإنه على ما يشاء قادر{[18740]} ؛ ولهذا قال : { وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ } أي : دلالة وعلامة للناس على قدرة بارئهم وخالقهم ، الذي نوع{[18741]} في خلقهم ، فخلق أباهم آدم من غير ذكر ولا أنثى ، وخلق حواء من ذكر بلا أنثى ، وخلق بقية الذرية من ذكر وأنثى ، إلا عيسى فإنه أوجده من أنثى بلا ذكر ، فتمت القسمة الرباعية الدالة على كمال قدرته وعظيم سلطانه فلا إله غيره ولا رب سواه .
وقوله : { وَرَحْمَةً مِنَّا } أي ونجعل{[18742]} هذا الغلام رحمة من الله نبيًّا من الأنبياء يدعو إلى عبادة الله تعالى وتوحيده ، كما قال تعالى في الآية الأخرى : { إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلا وَمِنَ الصَّالِحِينَ } [ آل عمران : 45 ، 46 ] أي : يدعو إلى عبادة الله ربه في مهده{[18743]} وكهولته .
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عبد الرحيم بن إبراهيم - دُحَيْم - حدثنا مروان ، حدثنا العلاء بن الحارث الكوفي ، عن مجاهد قال : قالت مريم ، عليها السلام : كنت إذا خلوت حدثني عيسى وكلمني وهو في بطني وإذا كنت مع الناس سبح في بطني وكبر .
وقوله : { وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا } يحتمل أن هذا من كلام جبريل لمريم ، يخبرها أن هذا أمر مقدر في علم الله تعالى وقدره ومشيئته . ويحتمل أن يكون من خبر الله تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم وأنه كنى بهذا عن النفخ في فرجها ، كما قال تعالى : { وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا } [ التحريم : 12 ] وقال { وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا } [ الأنبياء : 91 ]
قال محمد بن إسحاق : { وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا } أي : أن الله قد عزم على هذا ، فليس منه بد ، واختار هذا أيضًا ابن جرير في تفسيره ، ولم يحك غيره ، والله أعلم .
{ قال كذلك قال ربك هو علي هين ولنجعله } أي ونفعل ذلك لنجعله آية أو لنبين به قدرتنا ولنجعله ، وقيل عطف على ليهب على طريقة الالتفات . آية للناس علامة لهم وبرهانا على كمال قدرتنا . { ورحمة منا } على العباد يهتدون بإرشاده . و { وكان أمرا مقضيا } أي تعلق به قضاء الله في الأزل ، أو قدر وسطر في اللوح أو كان أمرا حقيقيا بأن يقضى ويفعل لكونه آية ورحمة .
جواب المَلَك معناه : أن الأمر كما قلت ، نظير قوله في قصة زكرياء : { كذلك قال ربك هو علي هين ، } وهو عدول عن إبطال مرادها من المراجعة إلى بيان هون هذا الخلق في جانب القدرة على طريقة الأسلوب الحكيم .
وفي قوله { هو علي هين } توجيه بأن ما اشتكته من توقع ضدّ قولها وطعنهم في عرضها ليس بأمر عظيم في جانب ما أراد الله من هدي الناس لرسالة عيسى عليه السلام بأن الله تعالى لا يصرفه عن إنفاذ مراده ما عسى أن يعرض من ضر في ذلك لبعض عبيده ، لأنّ مراعاة المصالح العامة تقدم على مراعاة المصالح الخاصة .
فضمير { هو علي هين } عائد إلى ما تضمنه حوارها من لحاق الضر بها كما فسرنا به قولها { ولم يَمْسَسني بَشَر ولم أكُ بَغِياً } . فبين جواب الملك إياها وبين جواب الله زكرياء اختلاف في المعنى .
والكلام في الموضعين على لسان المَلك من عند الله ، ولكنه أسند في قصة زكرياء إلى الله لأن كلام المَلك كان تبليغَ وحي عن الله جواباً من الله عن مناجاة زكرياء ، وأسند في هذه القصة إلى الملَك لأنه جواب عن خطابها إياه .
وقوله { ولنجعله } عطف على { فأرسلنا إليها روحنا } باعتبار ما في ذلك من قول الرُّوح لها { لأهب لك غلاماً زكياً ، } أي لأن هبة الغلام الزكي كرامة من الله لها ، وجعله آية للناس ورحمة كرامة للغلام ، فوقع التفات من طريقة الغيبة إلى طريقة التكلم .
وجملة { وكان أمراً مقضياً } يجوز أن تكون من قول الملك ، ويجوز أن تكون مستأنفة . وضمير { كان عائد إلى الوهْب المأخوذ من قوله لأهب لك غلاماً } .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
"قالَ كَذلكِ قالَ رَبّكِ هُوَ عَليّ هَيّنٌ" يقول تعالى ذكره: قال لها جبريل: هكذا الأمر كما تصفين، من أنك لم يمسسك بشر ولم تكوني بغيا، ولكن ربك قال: "هو عليّ هين": أي خَلْق الغلام الذي قلت أن أهبه لك عليّ هين لا يتعذّر عليّ خلقه وهبته لك من غير فحل يفتحلك.
"وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً للنّاسِ" يقول: وكي نجعل الغلام الذي نهبه لك علامة وحجة على خلقي أهبه لك. "وَرَحْمَةً مِنّا" يقول: ورحمة منا لك، ولمن آمن به وصدّقه أخلقه منك.
"وكانَ أمْرا مَقْضِيّا" يقول: وكان خلقه منك أمرا قد قضاه الله، ومضى في حكمه وسابق علمه أنه كائن منك...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{قال كذلك قال ربك} أي أخلق بسبب وبلا سبب.
وقوله تعالى: {هو علي هين} أي خلق الشيء بسبب وبغير سبب هين علي. وقال بعضهم: قوله: {كذلك قال ربك} للأنبياء الذين كانوا من قبل: إنه يخلق ولدا بلا أب ولا أم.
وقوله تعالى: {ولنجعله آية للناس} أي نجعل ولادته بلا أب على ما أخبر الأنبياء من قبل آية للناس لرسالتهم لأنهم أُخبروا أنه يولد بلا أب، فكان ما أخبروا. فدل ذلك أنهم إنما عرفوا ذلك بالله، فيكون ذلك آية لصدقهم، ويكون قوله: {وكان أمرا مقضيا} أي ذلك الخبر الذي أخبر الأنبياء من قبل، والوعد الذي وعد لهم (كان) أمرا مقضيا كائنا. وقال أهل التأويل في قوله: {ولنجعله آية للناس} أي نجعل عيسى آية للناس حين ولد بلا أب، وكلم الناس في المهد (وفي) غير ذلك من الآيات التي كانت فيه. وجائز أن يكون آية للناس للبعث لأنه أنشأه بلا أب ولا سبب، وهم إنما أنكروا البعث لما لم يعاينوا الولد بغير أب أيضا، ثم كان. فعلى ذلك البعث؛ إذ لا فرق بينهما، لأن من قدر على إنشاء الولد بلا أب قادر على الإحياء بعد الموت، بل هو أولى.
وقوله تعالى: {ورحمة منا} أي رحمة منا للخلق لأن من اهتدى، واتبعه، كان له به نجاة، وهو ما قال الله عز وجل لرسوله: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} (الأنبياء: 107) وعلى ذلك جميع الأنبياء والرسل الذين بعثهم الله إلى خلقه؛ كان ذلك رحمة منه إلى خلقه.
وقوله تعالى: {وكان أمرا مقضيا} أي كان أمرا كائنا. وعلى التأويل الذي ذكره أبو بكر الأصم في قوله: {قال كذلك قال ربك هو علي هين ولنجعله آية للناس} يكون قوله: {وكان أمرا مقضيا} أي كان وعدا وخبرا معلوما على ما أخبر الأنبياء عن نبأ عيسى وأمه...
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
(وكان أمرا مقضيا) أي: محكوما [محتما] لا يرد ولا يبدل.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{مَّقْضِيّاً} مقدراً مسطوراً في اللوح... أو كان أمراً حقيقاً بأن يكون ويقضي لكونه آية ورحمة، والمراد بالآية: العبرة والبرهان على قدرة الله [تعالى]. وبالرحمة: الشرائع والألطاف، وما كان سبباً في قوّة الاعتقاد والتوصل إلى الطاعة والعمل الصالح، فهو جدير بالتكوين.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{ورحمة منا} معناه طريق هدى لعالم كثير، فينالون الرحمة بذلك، ثم أعلمها بأن الأمر قد قضي وانتجز، و «الأمر» هنا واحد الأمور وليس بمصدر أمر يأمر.
الكناية في: {هو علي هين} وفي قوله: {ولنجعله آية للناس} تحتمل وجهين:
الأول: أن تكون راجعة إلى الخلق أي أن خلقه علي هين ولنجعل خلقه آية للناس إذ ولد من غير ذكر، ورحمة منا يرحم عبادنا بإظهار هذه الآيات حتى تكون دلائل صدقه أبهر فيكون قبول قوله أقرب.
الثاني: أن ترجع الكنايات إلى الغلام وذلك لأنها لما تعجبت من كيفية وقوع هذا الأمر على خلاف العادة أعلمت أن الله تعالى جاعل ولدها آية على وقوع ذلك الأمر الغريب.
فأما قوله تعالى: {ورحمة منا} فيحتمل أن يكون معطوفا على {ولنجعله آية للناس} أي فعلنا ذلك: {ورحمة منا} فعلنا ذلك ويحتمل أن يكون معطوفا على الآية أي: ولنجعله آية ورحمة فعلنا ذلك.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما بنيت هذه السورة على الرحمة واللطف والإحسان بعباد الرحمن، عبر باسم الرب الذي صدرت به بخلاف سورة التوحيد آل عمران المصدرة بالاسم الأعظم فقال: {ربك هو} أي المذكور وهو إيجاد الولد على هذه الهيئة {عليّ} أي وحدي لا يقدر عليه أحد غيري {هين} أي خصصناك به ليكون شرفاً به لك. ولما كان ذلك من أعظم الخوارق، نبه عليه بالنون في قوله، عطفاً على ما قدرته مما أفهمه السياق: {ولنجعله} بما لنا من العظمة {ءاية للناس} أي علامة على كمال قدرتنا على البعث أدل من الآية في يحيى عليه السلام، وبه تمام القسمة الرباعية في خلق البشر، فإنه أوجده من أنثى بلا ذكر، وحواء من ذكر بلا أنثى وآدم عليه السلام لا من ذكر ولا أنثى، وبقية أولاده من ذكر وأنثى معاً {ورحمة منا} لمن آمن به في أول زمانه، ولأكثر الخلق بالإيمان والإنجاء من المحن في آخر زمانه، لا كآية صالح عليه السلام لأنها كانت آية استئصال لأهل الضلال {وكان} ذلك كله {أمراً مقضياً} أي محكوماً به مبتوتاً هو في غاية السهولة لا مانع منه أصلاً...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
تدل على كمال قدرة الله تعالى، وعلى أن الأسباب جميعها، لا تستقل بالتأثير، وإنما تأثيرها بتقدير الله، فيري عباده خرق العوائد في بعض الأسباب العادية، لئلا يقفوا مع الأسباب، ويقطعوا النظر عن مقدرها ومسببها {وَرَحْمَةً مِنَّا ْ} أي: ولنجعله رحمة منا به، وبوالدته، وبالناس. أما رحمة الله به، فلما خصه الله بوحيه ومن عليه بما من به على أولي العزم، وأما رحمته بوالدته، فلما حصل لها من الفخر، والثناء الحسن، والمنافع العظيمة. وأما رحمته بالناس، فإن أكبر نعمه عليهم، أن بعث فيهم رسولا، يتلو عليهم آياته، ويزكيهم، ويعلمهم الكتاب والحكمة، فيؤمنون به، ويطيعونه، وتحصل لهم سعادة الدنيا والآخرة، {وَكَانَ ْ} أي: وجود عيسى عليه السلام على هذه الحال {أَمْرًا مَقْضِيًّا ْ} قضاء سابقا، فلا بد من نفوذ هذا التقدير والقضاء، فنفخ جبريل عليه السلام في جيبها...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
فهذا الأمر الخارق الذي لا تتصور مريم وقوعه، هين على الله. فأمام القدرة التي تقول للشيء كن فيكون، كل شيء هين، سواء جرت به السنة المعهودة أو جرت بغيره. والروح يخبرها بأن ربها يخبرها بأن هذا هين عليه. وأنه أراد أن يجعل هذا الحادث العجيب آية للناس، وعلامة على وجوده وقدرته وحرية إرادته. ورحمة لبني إسرائيل أولا وللبشرية جميعا، بإبراز هذا الحادث الذي يقودهم إلى معرفة الله وعبادته وابتغاء رضاه. بذلك انتهى الحوار بين الروح الأمين ومريم العذراء.. ولا يذكر السياق ماذا كان بعد الحوار، فهنا فجوة من فجوات العرض الفني للقصة. ولكنه يذكر أن ما أخبرها به من أن يكون لها غلام وهي عذراء لم يمسسها بشر، وأن يكون هذا الغلام آية للناس ورحمة من الله. أن هذا قد انتهى أمره، وتحقق وقوعه: (وكان أمرا مقضيا) كيف؟ لا يذكر هنا عن ذلك شيئا...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
جواب المَلَك معناه: أن الأمر كما قلت، نظير قوله في قصة زكرياء: {كذلك قال ربك هو علي هين،} وهو عدول عن إبطال مرادها من المراجعة إلى بيان هون هذا الخلق في جانب القدرة على طريقة الأسلوب الحكيم...
فكلمة هين وأهون بالنسبة للحق تبارك وتعالى لا تؤخذ على حقيقتها؛ لأن هين وأهون تقتضي صعب وأصعب، وهذه مسائل تناسب فعل الإنسان في معالجته للأشياء على قدر طاقته وإمكاناته، أما بالنسبة للخالق سبحانه فليس عنده هين وأهون منه؛ لأنه سبحانه لا يفعل الأفعال معالجة، ولا يزاولها، وإنما بقوله تعالى (كن) فالحق سبحانه يخاطبنا على قدر عقولنا، فقوله: {هو على هين} أي: بمنطقكم أنتم إن كنت قد خلقتكم من غير شيء، فإعادتكم من شيء موجود أمر هين...
والآية هنا أن الخالق تبارك وتعالى كما خلق آدم عليه السلام من غير أب أو أم، وخلق حواء من غير أم، خلق عيسى عليه السلام من أم دون أب، ثم يخلقكم جميعاً من أب وأم، وقد يوجد الأب والأم ولا يريد الله لهما فيجعل من يشاء عقيماً. إذن: فهذا أمر لا يحكمه إلا إرادة المكون سبحانه. فالآية للناس في أن يعلموا طلاقة قدرته تعالى في الخلق، وأنها غير خاضعة للأسباب، وليست عملية ميكانيكية، بل إرادة للخالق سبحانه أن يريد أو لا يريد. لكن، أكانت الآية في خلق عيسى عليه السلام أم في أمه؟ كان من الممكن أن يوجد عيسى من أب وأم، فالآية إذن في أمه، إنما هو السبب الأصيل في هذه الآية؛ لذلك يقول تعالى في آية أخرى: {وجعلنا ابن مريم وأمه آية.. "50 "} (سورة المؤمنون). فعيسى ومريم آية واحدة، وليسا آيتين؛ لأنهما لا ينفصلان. ثم يقول تعالى: {ورحمة منا} ووجه الرحمة في خلق عيسى عليه السلام على هذه الصورة، أنه سبحانه يرحم الناس من أن يشكوا في أن قدرة الله منوطة بالأسباب ومتوقفة عليها، ولو كان هذا الشك مجرد خاطر، فإنه لا يجوز ولا يصح بالنسبة للخالق سبحانه وكأنه تبارك وتعالى يرحمنا من مجرد الخواطر بواقع يؤكد أن طلاقة القدرة تأتي في الخلق من شيء، ومن بعض شيء، ومن لا شيء. وقوله: {وكان أمراً مقضياً} أي: مسألة منتهية لا تقبل المناقشة، فإياك أن تناقش في كيفيتها؛ لأن الكلام عن شيء في المستقبل إن كان من متكلم لا يملك إنفاذ ما يقول فيمكن ألا يتم مراده لأي سبب من الأسباب كأن تقول: سأفعل غداً كذا وكذا، ويأتي غد ويحول بينك وبين ما تريد أشياء كثيرة ربما تكون خارجة عن إرادتك، إذن: فأنت لا تملك كل عناصر الفعل. أما إذا كان الكلام من الله تعالى الذي يملك كل عناصر الفعل فإن قوله حق وواقع، فقال تعالى: {وكان أمراً مقضياً}.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{قَالَ كَذلِكَ قَالَ رَبُّكَ} فهي رسالةٌ موجهةٌ إليك في ما يعبرِّ عنه قول الله من إرادته التكوينية التي يقول فيها للشيء كن فيكون، {هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ} فلا يعجزني شيء في وجوده، ولا في خصوصياته، لأنني القادر الذي لا يعجزه شيء مهما كان عظيماً، {وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلْنَّاسِ} يدركون فيها سر القدرة من خلال عظمة الخلق، {وَرَحْمَةً مِّنَّا} في ما نريد أن نعدَّه له من دور في حمل الرسالة للناس، وفي رفع مستواهم الروحي والفكري والحياتي... وتلك هي الإرادة الإلهية الحاسمة التي لا مجال للشك فيها، ولا للتراجع عنها، {وَكَانَ أَمْراً مَّقْضِيّاً} فلا مجال للمناقشة أو الاعتراض لأنها إرادة الله وقضاؤه، وعلى العباد الخضوع له.