{ إنا نخاف من ربنا يوماً عبوساً } تعبس فيه الوجوه من هوله وشدته ، نسب العبوس إلى اليوم ، كما يقال : يوم صائم وليل قائم . وقيل : وصف اليوم بالعبوس لما فيه من الشدة ، { قمطريراً } قال قتادة ، ومجاهد ، ومقاتل : القمطرير : الذي يقبض الوجوه والجباه بالتعبيس . قال الكلبي : العبوس الذي لا انبساط فيه ، والقمطرير : الشديد ، قال الأخفش : القمطرير : أشد ما يكون من الأيام وأطوله في البلاء ، يقال : يوم قمطرير وقماطر ، إذا كان شديداً كريهاً ، واقمطر اليوم فهو مقمطر .
( إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا . إنا نخاف من ربنا يوما عبوسا قمطريرا ) . .
فهي الرحمة الفائضة من القلوب الرقيقة الرفيقة ، تتجه إلى الله تطلب رضاه . ولا تبتغي بها جزاء من الخلق ولا شكرا ، ولا تقصد بها استعلاء على المحتاجين ولا خيلاء . كما تتقي بها يوما عبوسا شديد العبوس ، تتوقعه وتخشاه ، وتتقيه بهذا الوقاء . وقد دلهم رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] عليه وهو يقول : " اتق النار ولو بشق تمرة " . .
وقد كان إطعام الطعام هكذا مباشرة هو وسيلة التعبير عن هذه العاطفة النبيلة الكريمة ، ووسيلة الإشباع لحاجات المحاويج . ولكن صور الإحسان ووسائله قد تتغير بحسب البيئات والظروف ، فلا تظل في هذه الصورة البدائية المباشرة . إلا أن الذي يجب الاحتفاظ به هو حساسية القلوب ، وحيوية العاطفة ، والرغبة في الخير ابتغاء وجه الله ، والتجرد عن البواعث الأرضية من جزاء أو شكر أو نفع من منافع الحياة !
ولقد تنظم الضرائب ، وتفرض التكاليف ، وتخصص للضمان الاجتماعي ، ولإسعاف المحاويج ، ولكن هذا إنما يفي بشطر واحد من مزايا الاتجاه الإسلامي الذي ترمز إليه تلك الآيات ، والذي توخاه بفريضة الزكاة . . هذا الشطر هو كفاية حاجة المحتاجين . . هذا شطر . . والشطر الآخر هو تهذيب أرواح الباذلين ، ورفعها إلى ذلك المستوى الكريم . وهو شطر لا يجوز إغفاله ولا التهوين من شأنه فضلا على أن تنقلب المعايير فيوصم ويقبح ويشوه ، ويقال : إنه إذلال للآخذين وإفساد للواهبين .
إن الإسلام عقيدة قلوب ، ومنهج تربية لهذه القلوب . والعاطفة الكريمة تهذب صاحبها وتنفع من يوجهها إليه من إخوانه . فتفي بشطري التربية التي يقصد إليها هذا الدين .
{ إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا } أي : إنما نفعل هذا لعل الله أن يرحمنا ويتلقانا بلطفه ، في اليوم العبوس القمطرير .
قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس { عَبُوسًا } ضيقا ، { قَمْطَرِيرًا } طويلا .
وقال عكرمة وغيره ، عنه ، في قوله : { يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا } أي : يعبس الكافر يومئذ حتى يسيل من بين عينيه عَرَق مثل القَطرَان .
وقال مجاهد : { عَبُوسًا } العابس الشفتين ، { قَمْطَرِيرًا } قال : تقبيض الوَجه بالبُسُور .
وقال سعيد بن جبير ، وقتادة : تعبس فيه الوجوه من الهول ، { قَمْطَرِيرًا } تقليص الجبين وما بين العينين ، من الهول .
وقال ابن زيد : العبوس : الشر . والقمطرير : الشديد .
وأوضح العبارات وأجلاها وأحلاها ، وأعلاها وأولاها - قولُ ابن عباس ، رضي الله عنه .
قال ابن جرير : والقمطرير هو : الشديد ؛ يقال : هو يوم قمطرير ويوم قُماطِر ، ويوم عَصِيب وعَصَبْصَب ، وقد اقمطرّ اليومُ يقمطرّ اقمطرارا ، وذلك أشد الأيام وأطولها في البلاء والشدة ، ومنه قول بعضهم :
بنَي عَمّنا ، هل تَذكُرونَ بَلاءنَا? *** عَلَيكم إذَا ما كانَ يومٌ قُمَاطرُ{[29596]}
ووصف اليوم بعبوس هو على التجوز ، كما تقول ليل نائم أي فيه نوم ، و «القمطرير » والقماطر : هو في معنى العبوس والارتداد ، تقول اقمطر الرجل إذا جمع ما بين عينيه غضباً ، ومنه قول الشاعر [ القرطبي ] : [ الطويل ]
بني عمنا هل تذكرون بلاءنا*** عليكم إذا ما كان يوم قماطر{[11513]}
ففروا إذا ما الحرب ثار غبارها*** ولج بها اليوم العبوس القماطر{[11514]}
وقال ابن عباس : يعبس الكافر يومئذ حتى يسيل من بين عينيه مثل القطران . وعبر ابن عباس عن «القمطرير » بالطويل . وعبر عنه ابن الكلبي بالشديد ، وذلك كله قريب في المعنى .
وجملة { إنا نخاف من ربنا } إلى آخرها واقعة موقع التعليل لمضمون جملة { لا نريد منكم جزاء ولا شكوراً } .
والمعنى : إنهم يقولون ذلك لهم تأنيساً لهم ودفعاً لانكسار النفس الحاصل عند الإِطعام ، أي ما نطعمكم إلاّ استجابة لما أمر الله ، فالمطعم لهم هو الله .
فالقول قول باللسان ، وهم ما يقولونه إلاّ وهو مضمر في نفوسهم . وعن مجاهد أنه قال : ما تكلموا به ولكن عَلِمه الله فأثَنى به عليهم .
فالقصر المستفاد من { إنما } قصر قلب مبني على تنزيل المطعَمين منزلة من يظن أن من أطعمهم يمنّ عليهم ويريد منهم الجزاء والشكر بناء على المتعارف عندهم في الجاهلية . والمراد بالجزاء : ما هو عوض عن العطية من خدمة وإعانة ، وبالشكور : ذكرهم بالمزية .
والشُكور : مصدر بوزن الفُعول كالقُعود والجلوس ، وإنما اعتبر بوزن الفُعول الذي هو مصدر فعَل اللازم لأن فعل الشكر لا يتعدى للمشكور بنفسه غالباً بل باللام يقال : شكرت لك قال تعالى : { واشكروا لي } [ البقرة : 152 ] .
وأما قوله : { إنّا نخاف من ربنا يوماً عبوساً قمطريراً } فهو مقول لقول يقولونه في نفوسهم أو ينطق به بعضهم مع بعض وهو حال من ضمير { يخافون } [ الإنسان : 7 ] أي يخافون ذلك اليوم في نفوسهم قائلين : { إنا نخاف من ربنا يوماً عبوساً قمطريرا } ، فحكي وقولهم : { إنما نطعمكم لوجه الله } وقولهم : { إنا نخاف } الخ . على طريقة اللف والنشر المعكوس والداعي إلى عكس النشر مراعاة حسن تنسيق النظم ليكون الانتقال من ذكر الإِطعام إلى ما يقولونه للمطعمين ، والانتقال من ذكر خوف يوم الحساب إلى بشارتهم بوقاية الله إياهم من شر ذلك اليوم وما يلقونه فيه من النضرة والسرور والنعيم .
فيجوز أن يكون { من ربنا } ظرفاً مستقراً وحرف { مِن } ابتدائية وهو حال من { يوماً } قُدم عليه ، أي نخاف يوماً عبوساً قمطريراً حال كونه من أيّام ربنا ، أي من أيام تصاريفه .
ويجوز أن تكون { مِن } تجريدية كقولك : لي من فلان صديق حميم . ويكون { يوماً } منصوباً على الظرفية وتنوينه للتعظيم ، أي نخافه في يوم شديد .
و { عَبوساً } : منصوباً على المفعول لفعل { نخاف } ، أي نخاف غضبان شديدَ الغضب هُو ربنا ، فيكون في التجريد تقوية للخوف إذ هو كخوف من شيْئيننِ ( وتلك نكتة التجريد ) ، أو يكون { عبوساً } حالاً { من ربنا } .
ويجوز أن تجعل { مِن } لتعدية فعل { نخاف } كما عدي في قوله تعالى : { فمن خاف مِن موصصٍ جَنفَاً } [ البقرة : 182 ] . وينتصب { يوماً } على المفعول به لفعل { نخاف } فصار لفعل { نخاف } معمولاننِ . و { عبوساً } صفة ل { يوماً } ، والمعنى : نخاف عذاب يوم هذه صفته ، ففيه تأكيد الخوف بتكرير متعلِّقه ومرجع التكرير إلى كونه خوف الله لأن اليوم يوم عدل الله وحكمه .
والعبوس : صفة مشبهة لمن هو شديد العبس ، أي كُلُوحُ الوجه وعدم انطلاقه ، ووصف اليوم بالعبوس على معنى الاستعارة . شُبه اليوم الذي تحدث فيه حوادث تَسُوءهم برجل يخالطهم يكون شرس الأخلاق عبوساً في معاملته .
والقمطرير : الشديد الصعب من كل شيء . وعن ابن عباس : القمطرير المقبض بين عينيه مشتق من قمطر القاصر إذا اجتمع ، أو قمطر المتعدي إذا شد القربة بوكاء ونحوه ، ومنه سمي السفط الذي توضع فيه الكتب قمطرا وهو كالمحفظة . وميم قمطرير أصلية فوزنه فعلليل مثل خَنْدَرِيس وزَنْجبيل ، يقال : قمطر للشر ، إذا تهيأ له وجمع نفسه .
والجمهور جعلوا { قمطريراً } وصف { يوماً } ومنهم من جعلوه وصف { عبوساً } أي شديد العبوس .
وهذه الآية تعمّ جميع الأبرار وعلى ذلك التحم نسجها ، وقد تلقفها القصاصون والدعاة فوضعوا لها قصصاً مختلفة وجاؤوا بأخبار موضوعة وأبيات مصنوعة فمنهم من زعم أن هذه الآية نزلت في علي بن أبي طالب وفاطمة رضي الله عنهما في قصة طويلة ذكرها الثعلبي والنقاش وساقها القرطبي بطولها ثم زيفها . وذكر عن الحكيم الترمذي أنه قال في « نوادر الأصول » : هذا حديث مروّق مزيف وأنه يشبه أن يكون من أحاديث أهل السجون .
وقيل نزلت في مُطعم بن ورقاء الأنصاري ، وقيل في رجل غيره من الأنصار ، وقد استوفى ذلك كله القرطبي في تفسيره فلا طائل تحت اجتلابه ، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله أهل لأن ينزل القرآن فيهم إلاّ أن هذه الأخبار ضعيفة أو موضوعة .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{إنا نخاف من ربنا يوما عبوسا} يعني يوم الشدة. قال الفراء، وأبو عبيدة: هو المنتهى في الشدة.
{قمطريرا} يعنى إذا عرق الجبين فسال العرق بين عينيه من شدة الهول، فذلك قوله: {قمطريرا}.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره مخبرا عن هؤلاء القوم الذين وصف صفتهم أنهم يقولون لمن أطعموه من أهل الفاقة والحاجة: ما نطعمكم طعاما نطلب منكم عوضا على إطعامناكم جزاء ولا شكورا، ولكنا نطعمكم رجاء منا أن يؤمننا ربنا من عقوبته في يوم شديد هوله، عظيم أمره، تعبِس فيه الوجوه من شدّة مكارهه، ويطول بلاء أهله، ويشتدّ. والقمطرير: هو الشديد، يقال: هو يوم قمطرير، وذلك أشدّ الأيام وأطوله في البلاء والشدّة، فقال بعضهم: هو أن يعبِس أحدهم، فيقبض بين عينيه حتى يسيل من بين عينيه مثل القطران. يوم يقبّض فيه الرجل ما بين عينيه ووجهه. يُقْبّض الوجه بالبسور.
وقال آخرون: العبوس: الضيق، والقمطرير: الطويل.
وقال آخر: العَبوس: الشرّ، والقَمْطَرير: الشديد.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
[{يوما عبوسا قمطريرا}]؛ فمنهم من جعل هذا نعتا لذلك اليوم، فيكون معناه: أن هذا اليوم، وهو يوم القيامة من بين سائر الأيام، كالإنسان العبوس من بين غيره. ومنهم من صرفه إلى الخلائق، فيكون معنى قوله تعالى: {يوما عبوسا قمطريرا} أي يوما تعبس فيه وجوه الخلائق، لا أن يكون اليوم نفسه عبوسا.
{إنا نخاف من ربنا} يحتمل وجهين:
(أحدهما): أن إحساننا إليكم للخوف من شدة ذلك اليوم لا لإرادة مكافأتكم.
(والثاني): أنا لا نريد منكم المكافأة لخوف عقاب الله على طلب المكافأة بالصدقة. فإن قيل: إنه تعالى حكى عنهم الإيفاء بالنذر وعلل ذلك بخوف القيامة فقط، ولما حكى عنهم الإطعام علل ذلك بأمرين بطلب رضاء الله وبالخوف عن القيامة فما السبب فيه؟
قلنا: الإيفاء بالنذر دخل في حقيقة طلب رضاء الله تعالى، وذلك لأن النذر هو الذي أوجبه الإنسان على نفسه لأجل الله فلما كان كذلك لا جرم ضم إليه خوف القيامة فقط، أما الإطعام، فإنه لا يدخل في حقيقة طلب رضا الله، فلا جرم ضم إليه طلب رضا الله وطلب الحذر من خوف القيامة.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا. إنا نخاف من ربنا يوما عبوسا قمطريرا).. فهي الرحمة الفائضة من القلوب الرقيقة الرفيقة، تتجه إلى الله تطلب رضاه. ولا تبتغي بها جزاء من الخلق ولا شكرا، ولا تقصد بها استعلاء على المحتاجين ولا خيلاء. كما تتقي بها يوما عبوسا شديد العبوس، تتوقعه وتخشاه، وتتقيه بهذا الوقاء. وقد دلهم رسول الله [صلى الله عليه وسلم] عليه وهو يقول: "اتق النار ولو بشق تمرة".. وقد كان إطعام الطعام هكذا مباشرة هو وسيلة التعبير عن هذه العاطفة النبيلة الكريمة، ووسيلة الإشباع لحاجات المحاويج. ولكن صور الإحسان ووسائله قد تتغير بحسب البيئات والظروف، فلا تظل في هذه الصورة البدائية المباشرة. إلا أن الذي يجب الاحتفاظ به هو حساسية القلوب، وحيوية العاطفة، والرغبة في الخير ابتغاء وجه الله، والتجرد عن البواعث الأرضية من جزاء أو شكر أو نفع من منافع الحياة! ولقد تنظم الضرائب، وتفرض التكاليف، وتخصص للضمان الاجتماعي، ولإسعاف المحاويج، ولكن هذا إنما يفي بشطر واحد من مزايا الاتجاه الإسلامي الذي ترمز إليه تلك الآيات، والذي توخاه بفريضة الزكاة.. هذا الشطر هو كفاية حاجة المحتاجين.. هذا شطر.. والشطر الآخر هو تهذيب أرواح الباذلين، ورفعها إلى ذلك المستوى الكريم. وهو شطر لا يجوز إغفاله ولا التهوين من شأنه فضلا على أن تنقلب المعايير فيوصم ويقبح ويشوه، ويقال: إنه إذلال للآخذين وإفساد للواهبين. إن الإسلام عقيدة قلوب، ومنهج تربية لهذه القلوب. والعاطفة الكريمة تهذب صاحبها وتنفع من يوجهها إليه من إخوانه. فتفي بشطري التربية التي يقصد إليها هذا الدين. ومن ثم كان ذلك التصوير الكريم لذلك الشعور الكريم.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وجملة {إنا نخاف من ربنا} إلى آخرها واقعة موقع التعليل لمضمون جملة {لا نريد منكم جزاء ولا شكوراً}. والمعنى: إنهم يقولون ذلك لهم تأنيساً لهم ودفعاً لانكسار النفس الحاصل عند الإِطعام، أي ما نطعمكم إلاّ استجابة لما أمر الله، فالمطعم لهم هو الله. فالقول قول باللسان، وهم ما يقولونه إلاّ وهو مضمر في نفوسهم.