قوله تعالى : { ويا قوم استغفروا ربكم } ، أي : آمنوا به ، والاستغفار هاهنا بمعنى الإيمان ، { ثم توبوا إليه } ، من عبادة غيره ومن سالف ذنوبكم ، { يرسل السماء عليكم مدراراً } ، أي : يرسل المطر عليكم متتابعا ، مرة بعد أخرى في أوقات الحاجة ، { ويزدكم قوة إلى قوتكم } ، أي : شدة مع شدتكم . وذلك أن الله عز وجل حبس عنهم القطر ثلاث سنين ، وأعقم أرحام نسائهم فلم يلدن ، فقال لهم هود عليه السلام : إن آمنتم أرسل الله عليكم المطر ، فتزدادون مالا ، ويعيد أرحام الأمهات إلى ما كانت ، فيلدن فتزدادون قوة بالأموال والأولاد . وقيل تزدادون قوة في الدين إلى قوة البدن . { ولا تتولوا مجرمين } ، أي : لا تدبروا مشركين .
{ وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ } عما مضى منكم { ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ } فيما تستقبلونه ، بالتوبة النصوح ، والإنابة إلى الله تعالى .
فإنكم إذا فعلتم ذلك { يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا } بكثرة الأمطار التي تخصب بها الأرض ، ويكثر خيرها .
{ وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ } فإنهم كانوا من أقوى الناس ، ولهذا قالوا : { من أشد منا قوة } ؟ ، فوعدهم أنهم إن آمنوا ، زادهم قوة إلى قوتهم .
{ وَلَا تَتَوَلَّوْا } عنه ، أي : عن ربكم { مُجْرِمِينَ } أي : مستكبرين عن عبادته ، متجرئين على محارمه .
ثم يوجههم إلى الاستغفار والتوبة . ويكرر السياق التعبير ذاته الذي ورد في أول السورة على لسان خاتم الأنبياء ، ويعدهم هود ويحذرهم ما وعدهم محمد وحذرهم بعد ذلك بآلاف السنين :
( ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه ، يرسل السماء عليكم مدرارا ، ويزدكم قوة إلى قوتكم . ولا تتولوا مجرمين ) . .
استغفروا ربكم مما أنتم فيه ، وتوبوا إليه فابدأوا طريقا جديدا يحقق النية ويترجمها إلى عمل يصدق النية . .
( يرسل السماء عليكم مدرارا ) . .
وكانوا في حاجة إلى المطر يسقون به زروعهم ودوابهم في الصحراء ، ويحتفظون به بالخصب الناشئ من هطول الأمطار في تلك البقاع .
مرتكبين لجريمة التولي والتكذيب .
وننظر في هذا الوعد . وهو يتعلق بإدرار المطر ومضاعفة القوة . وهي أمور تجري فيها سنة الله وفق قوانين ثابتة في نظام هذا الوجود ، من صنع الله ومشيئته بطبيعة الحال . فما علاقة الاستغفار بها وما علاقة التوبة ؟
فأما زيادة القوة فالأمر فيها قريب ميسور ، بل واقع مشهود ، فإن نظافة القلب والعمل الصالح في الأرض يزيدان التائبين العاملين قوة . يزيدانهم صحة في الجسم بالاعتدال والاقتصار على الطيبات من الرزق وراحة الضمير وهدوء الأعصاب والاطمئنان إلى الله والثقة برحمته في كل آن ؛ ويزيدانهم صحة في المجتمع بسيادة شريعة الله الصالحة التي تطلق الناس أحرارا كراما لا يدينون لغير الله على قدم المساواة بينهم أمام قهار واحد تعنو له الجباه . . كما تطلقان طاقات الناس ليعملوا وينتجوا ويؤدوا تكاليف الخلافة في الأرض ؛ غير مشغولين ولا مسخرين بمراسم التأليه للأرباب الأرضية وإطلاق البخور حولها ودق الطبول ، والنفخ فيها ليل نهار لتملأ فراغ الإله الحق في فطرة البشر !
والملحوظ دائما أن الأرباب الأرضية تحتاج ويحتاج معها سدنتها وعبادها أن يخلعوا عليها بعض صفات الألوهية من القدرة والعلم والإحاطة والقهر والرحمة . . أحيانا . . كل ذلك ليدين لها الناس ! فالربوبية تحتاج إلى ألوهية معها تخضع بها العباد ! وهذا كله يحتاج إلى كد ناصب من السدنة والعباد وإلى جهد ينفقه من يدينون لله وحده في عمارة الأرض والنهوض بتكاليف الخلافة فيها ، بدلا من أن ينفقه عباد الأرباب الأرضية في الطبل والزمر والتراتيل والتسابيح لهذه الأرباب المفتراة !
ولقد تتوافر القوة لمن لا يحكمون شريعة الله في قلوبهم ولا في مجتمعهم ، ولكنها قوة إلى حين . حتى تنتهي الأمور إلى نهايتها الطبيعية وفق سنة الله ، وتتحطم هذه القوة التي لم تستند إلى أساس ركين . إنما استندت إلى جانب واحد من السنن الكونية كالعمل والنظام ووفرة الإنتاج . وهذه وحدها لا تدوم . لأن فساد الحياة الشعورية والاجتماعية يقضي عليها بعد حين .
فأما إرسال المطر . مدرارا . فالظاهر للبشر أنه يجري وفق سنن طبيعية ثابتة في النظام الكوني . ولكن جريان السنن الطبيعية لا يمنع أن يكون المطر محييا في مكان وزمان ، ومدمرا في مكان وزمان ؛ وأن يكون من قدر الله أن تكون الحياة مع المطر لقوم ، وأن يكون الدمار معه لقوم ، وأن ينفذ الله تبشيره بالخير ووعيده بالشر عن طريق توجيه العوامل الطبيعية ؛ فهو خالق هذه العوامل ، وجاعل الأسباب لتحقيق سنته على كل حال . ثم تبقى وراء ذلك مشيئة الله الطليقة التي تصرف الأسباب والظواهر بغير ما اعتاد الناس من ظواهر النواميس وذلك لتحقيق قدر الله كيفما شاء . حيث شاء . بالحق الذي يحكم كل شيء في السماوات والأرض غير مقيد بما عهده الناس في الغالب .
ثم أمرهم بالاستغفار الذي فيه تكفير الذنوب السالفة ، وبالتوبة عما يستقبلون [ من الأعمال السابقة ]{[14675]} ومن اتصف بهذه الصفة يسر الله عليه رزقه ، وسهل عليه أمره وحفظ [ عليه ]{[14676]} شأنه [ وقوته ]{[14677]} ؛ ولهذا قال : { يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا } [ نوح : 11 ] ، و[ كما جاء ]{[14678]} وفي الحديث : " من لزم{[14679]} الاستغفار جعل الله له من كل هَم فرجا ، ومن كل ضيق مخرجا ، ورزقه من حيث لا يحتسب " .
{ ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه } اطلبوا مغفرة الله بالأيمان ثم توسلوا إليها بالتوبة وأيضا التبري من الغير إنما يكون بعد الإيمان بالله والرغبة فيما عنده . { يُرسل السماء عليكم مدرارا } كثير الدر . { ويزدكم قوة إلى قوتكم } ويضاعف قوتكم ، وإنما رغبهم بكثرة المطر وزيادة القوة لأنهم كانوا أصحاب زروع عمارات . وقيل حبس الله عنهم القطر وأعقم أرحام نسائهم ثلاثين سنة فوعدهم هود عليه السلام على الإيمان والتوبة بكثرة الأمطار وتضاعف القوة بالتناسل . { ولا تتولّوا } ولا تعرضوا عما أدعوكم إليه . { مجرمين } مصرين على إجرامكم .
و «الاستغفار » طلب المغفرة ، وقد يكون ذلك باللسان ، وقد يكون بإنابة القلب وطلب الاسترشاد والحرص على وجود المحجة الواضحة{[6385]} ، وهذه أحوال يمكن أن تقع من الكفار ، فكأنه قال لهم : اطلبوا غفران الله بالإنابة ، وطلب الدليل في نبوتي ، ثم توبوا بالإيمان من كفركم ؛ فيجيء الترتيب على هذا مستقيماً وإلا احتيج في ترتيب التوبة بعد الاستغفار إلى تحيل كثير فإما أن يكون : { توبوا } أمراً بالدوام ، و «الاستغفار » طلب المغفرة بالإيمان ، وإلى هذا ذهب الطبري ، وقال أبو المعالي في الإرشاد : «التوبة » في اصطلاح المتكلمين هي الندم ، بعد أن قال : إنها في اللغة الرجوع ، ثم ركب على هذا أن قال إن الكافر إذا آمن ليس إيمانه توبة وإنما توبته ندمه بعد .
قال القاضي أبو محمد : والذي أقول : إن التوبة عقد في ترك متوب منه يتقدمها علم بفساد المتوب منه وصلاح ما يرجع إليه ، ويقترن بها ندم على فارط المتوب منه لا ينفك منه وهو من شروطها ؛ فأقول إن إيمان الكافر هو توبته من كفره ، لأنه هو نفس رجوعه ، و «تاب » في كلام العرب معناه رجع إلى الطاعة والمثلى من الأمور ، وتصرف اللفظة في القرآن ب «إلى » يقتضي أنها الرجوع لا الندم ، وإنما لا حق لازم للتوبة كما قلنا ، وحقيقة التوبة ترك مثل ما تيب منه عن عزمة معتقدة على ما فسرناه ، والله المستعان .
و «مدراراً » هو بناء تكثير وكان حقه أن تلحقه هاء ، ولكن حذفت على نية النسب وعلى أن { السماء } المطر نفسه ، وهو من در يدر ؛ ومِفعال قد يكون من اسم الفاعل الذي هو من ثلاثي ، ومن اسم الفاعل الذي هو من رباعي : وقول من قال : إنه ألزم للرباعي غير لازم{[6385]} .
ويروى أن عاداً كان الله تعالى قد حبس عنها المطر ثلاث سنين ، وكانوا أهل حرث وبساتين وثمار ، وكانت بلادهم شرق جزيرة العرب ، فلهذا وعدهم بالمطر ، ومن ذلك فرحهم حين رأوا العارض ، وقولهم : { هذا عارض ممطرنا }{[6387]} وحضهم على استنزال المطر بالإيمان والإنابة ، وتلك عادة الله في عباده ، ومنه قول نوح عليه السلام «استغفروا ربكم إنه كان غفاراً يرسل السماء عليكم مدراراً »{[6388]} ، ومنه فعل عمر رضي الله حين جعل جميع قوله في الاستسقاء ودعائه استغفاراً فسقي ، فسئل عن ذلك ، فقال : لقد استنزلت المطر بمجاديح السماء{[6389]} .
وقوله : { ويزدكم قوة إلى قوتكم } ، ظاهره العموم في جميع ما يحسن الله تعالى فيه إلى العباد ، وقالت فرقة : كان الله تعالى قد حبس نسلهم ، فمعنى قوله : { ويزدكم قوة إلى قوتكم } أي الولد ، ويحتمل أن خص القوة بالذكر إذ كانوا أقوى العوالم فوعدوا بالزيادة فيما بهروا فيه ، ثم نهاهم عن التولي عن الحق والإعراض عن أمر الله . و { مجرمين } حال من الضمير في { تتولوا } .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ويا قوم استغفروا ربكم} من الشرك، {ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارا} يعني المطر متتابعا... {ويزدكم قوة إلى قوتكم}، يعني عددا إلى عددكم وتتوالدون وتكثرون، ثم قال لهم هود: {ولا تتولوا مجرمين} يقول: ولا تعرضوا عن التوحيد مشركين...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل هود لقومه:"وَيا قَوْم اسْتَغْفِرُوا رَبّكُمْ" يقول: آمنوا به حتى يغفر لكم ذنوبكم. والاستغفار: هو الإيمان بالله في هذا الموضع، لأن هودا صلى الله عليه وسلم إنما دعا قومه إلى توحيد الله ليغفر لهم ذنوبهم، كما قال نوح لقومه: "اعْبُدُوا اللّهَ واتّقُوهُ وأطِيعُونِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبكُمْ وَيُؤخّرْكُمْ إلى أجَلٍ مُسَمّى".
"ثُمّ تُوبُوا إلَيْهِ "يقول: ثم توبوا إلى الله من سالف ذنوبكم وعبادتكم غيره بعد الإيمان به.
"يُرْسلِ السّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارا" يقول: فإنكم إن آمنتم بالله وتبتم من كفركم به، أرسل قَطْرَ السماء عليكم يُدِرّ لكم الغيث في وقت حاجتكم إليه، وتحيا بلادكم من الجدب والقحط...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
(استغفروا ربكم) معلوم أن هودا لم يرد بقوله: (استغفروا ربكم) أن يقولوا: نستغفر الله، ولكن أمرهم أن يطلبوا السبب الذي يوجب لهم المغفرة، ويحق، وهو التوحيد. كأنه قال: وحدوا ربكم، وآمنوا به، ثم توبوا إليه أو يقول: اطلبوا المغفرة بالانتهاء عن الكفر...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
إنما قدم الاستغفار قبل التوبة، لأنه طلب المغفرة التي هي الغرض، ثم بين ما به يتوصل إليها هو التوبة، والغرض مقدم في النفس، لأن الحاجة إليه ثم السبب، لأنه يحتاج إليه من أجله...
وقيل إن المعنى استغفروا ربكم من الوجه الذي يصح، من الإيمان به وتصديق رسله، والإقلاع عن معاصيه، والتوبة من القبائح "ثم توبوا إليه "بمعنى استديموا على ذلك وجددوا التوبة بعد التوبة، لئلا يكونوا مصرين. وكل ذلك جائز وظاهر هذه الآية يقتضي أن الله تعالى يجعل الخير بالتوبة ترغيبا فيها، لأنه وعد متى تاب العاصي يرسل السماء عليهم مدرارا وهو الدرر الكثير المتتابع على قدر الحاجة إليه دون الزائد المفسد المضر...
" ويزدكم قوة إلى قوتكم ولا تتولوا مجرمين "معناه إن الله تعالى إذا تبتم" يرسل السماء عليكم مدرارا ويزدكم قوة إلى "القوة التي فعلها فيكم، ويجوز أن يريد بذلك تمكينهم من النعم التي ينتفعون بها ويلتذون باستعمالها، فإن ذلك يسمى قوة...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
استغفروا ربكم ثم توبوا إليه بعد الاستغفار، مِنْ توهمكم أن نجاتَكم باستغفاركم. بل تَحقَّقُوا بأنكم لا تجدون نجاتَكم إلا بفضلِ ربِّكم؛ فَبِفَضْلِه وبتوفيقه توصَّلْتُم إلى استغفاركم لا باستغفاركم وصلتم إلى نجاتكم، وبرحمته أهَّلَكُم إلى استغفاركم، وإلاَّ لَمَا وصلتم إلى توبتكم ولا إلى استغفاركم. والاستغفار قَرْع باب الرزق، فإذا رجع العبد إلى الله بحسن تضرعه، فتح عليه أبوابَ رحمته، وَيَّسرَ له أسبابَ نعمته. ويقال يُنَزِّل على ظواهركم أمطارَ النِّعمة، وعلى ضمائرِكم وسرائركم يُنَزِّل أنواعَ المِنَّة، ويزيدكم قوة على قوة؛ قوة تحصلون بها توسعة أنواع الرِزْقِ، وقوةً تحصلون بها تحسين أصناف الخُلُقِ...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
قيل {استغفروا رَبَّكُمْ} آمنوا به {ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ} من عبادة غيره، لأن التوبة لا تصلح إلا بعد الإيمان... وإنما قصد استمالتهم إلى الإيمان وترغيبهم فيه بكثرة المطر وزيادة القوّة؛ لأنّ القوم كانوا أصحاب زروع وبساتين وعمارات، حرّاصاً عليها أشد الحرص، فكانوا أحوج شيء إلى الماء. وكانوا مدلين بما أوتوا من شدّة القوّة والبطش والبأس والنجدة، مستحرزين بها من العدوّ، مهيبين في كل ناحية...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
«الاستغفار» طلب المغفرة، وقد يكون ذلك باللسان، وقد يكون بإنابة القلب وطلب الاسترشاد والحرص على وجود المحجة الواضحة، وهذه أحوال يمكن أن تقع من الكفار، فكأنه قال لهم: اطلبوا غفران الله بالإنابة، وطلب الدليل في نبوتي، ثم توبوا بالإيمان من كفركم؛ فيجيء الترتيب على هذا مستقيماً وإلا احتيج في ترتيب التوبة بعد الاستغفار إلى تحيل كثير فإما أن يكون: {توبوا} أمراً بالدوام، و «الاستغفار» طلب المغفرة بالإيمان، وإلى هذا ذهب الطبري... والذي أقول: إن التوبة عقد في ترك متوب منه يتقدمها علم بفساد المتوب منه وصلاح ما يرجع إليه، ويقترن بها ندم على فارط المتوب منه لا ينفك منه وهو من شروطها؛ فأقول إن إيمان الكافر هو توبته من كفره، لأنه هو نفس رجوعه، و «تاب» في كلام العرب معناه رجع إلى الطاعة والمثلى من الأمور، وتصرف اللفظة في القرآن ب «إلى» يقتضي أنها الرجوع لا الندم، وإنما لا حق لازم للتوبة كما قلنا، وحقيقة التوبة ترك مثل ما تيب منه عن عزمة معتقدة على ما فسرناه، والله المستعان...
ويروى أن عاداً كان الله تعالى قد حبس عنها المطر ثلاث سنين، وكانوا أهل حرث وبساتين وثمار، وكانت بلادهم شرق جزيرة العرب، فلهذا وعدهم بالمطر، ومن ذلك فرحهم حين رأوا العارض، وقولهم: {هذا عارض ممطرنا} وحضهم على استنزال المطر بالإيمان والإنابة، وتلك عادة الله في عباده، ومنه قول نوح عليه السلام «استغفروا ربكم إنه كان غفاراً يرسل السماء عليكم مدراراً»، ومنه فعل عمر رضي الله حين جعل جميع قوله في الاستسقاء ودعائه استغفاراً فسقي، فسئل عن ذلك، فقال: لقد استنزلت المطر بمجاديح السماء. وقوله: {ويزدكم قوة إلى قوتكم}، ظاهره العموم في جميع ما يحسن الله تعالى فيه إلى العباد...
إنه عليه السلام قال: « إنكم متى فعلتم ذلك فالله تعالى يكثر النعم عندكم ويقويكم على الانتفاع بتلك النعم» وهذا غاية ما يراد من السعادات، فإن النعم إن لم تكن حاصلة تعذر الانتفاع وإن كانت حاصلة، إلا أن الحيوان قام به المنع من الانتفاع بها لم يحصل المقصود أيضا، أما إذا كثرت النعمة وحصلت القوة الكاملة على الانتفاع بها، فههنا تحصل غاية السعادة والبهجة فقوله تعالى: {يرسل السماء عليكم مدرارا} إشارة إلى تكثير النعم لأن مادة حصول النعم هي الأمطار الموافقة، وقوله: {ويزدكم قوة إلى قوتكم} إشارة إلى كمال حال القوى التي بها يمكن الانتفاع بتلك النعمة، ولا شك أن هذه الكلمة جامعة في البشارة بتحصيل السعادات، وأن الزيادة عليها ممتنعة في صريح العقل، ويجب على العاقل أن يتأمل في هذه اللطائف ليعرف ما في هذا الكتاب الكريم من الأسرار المخفية، وأما المفسرون فإنهم قالوا القوم كانوا مخصوصين في الدنيا بنوعين من الكمال: أحدهما: أن بساتينهم ومزارعهم كانت في غاية الطيب والبهجة، والدليل عليه قوله: {إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد} والثاني: أنهم كانوا في غاية القوة والبطش ولذلك قالوا: {من أشد منا قوة}، ولما كان القوم مفتخرين على سائر الخلق بهذين الأمرين وعدهم هود عليه السلام، أنهم لو تركوا عبادة الأصنام واشتغلوا بالاستغفار والتوبة فإن الله تعالى يقوي حالهم في هذين المطلوبين ويزيدهم فيها درجات كثيرة...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما دعاهم مشيراً إلى ترهيبهم مستدلاً على الصدق بنفي الغرض، رغبهم في إدامة الخوف مما مضى بقوله: {ويا قوم} ومن هم أعز الناس عليّ ولهم قدرة على ما طلب منهم {استغفروا ربكم} أي اطلبوا غفرانه بطاعتكم له لما يجب له بإحسانه إليكم. وأشار إلى علو رتبة التوبة بأداة التراخي فقال: {ثم توبوا إليه} أي تسموا عالي هذه الرتبة بأن تطلبوا ستر الله لذنوبكم ثم ترجعوا إلى طاعته بالندم والإقلاع والاستمرار {يرسل السماء} أي الماء النازل منها أو السحاب بالماء {عليكم مدراراً} أي هاطلة بمطر غزير متتابع {ويزدكم قوة} أي عظيمة مجموعة {إلى قوتكم} ثم عطف على قوله {استغفروا} قوله: {ولا تتولوا} أي تكلفوا أنفسكم غير ما جبلت عليه من سلامة الانقياد فتبالغوا في الإعراض -بما أشار إليه إثبات التاء {مجرمين} أي قاطعين لأنفسكم- ببناء أمركم على الظنون الفاسدة عن خيرات الدنيا والآخرة...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه} تقدم هذا الأمر بلفظه في الآية الثالثة من هذه السورة {يرسل السماء عليكم مدرارا} هذا الجزاء الأول للأمر قبله، والسماء هنا المطر أو السحاب الممطر، وإرساله إمطاره، والمدرار الكثير الدرور، وأصله كثرة در اللبن يقال: درت الشاة تدر درا ودرورا فهي دارّ [بغير هاء] أي كثر فيض لبنها ولعل نكتة التعبير به الإشارة إلى الكثرة النافعة، فإن بعضه قد يكون ضارا وقد يكون عذابا، وكانت بلادهم الأحقاف [جمع حقف وهو الرمل المائل] شديدة الحاجة إلى المطر لزرعها وشجرها لأن الرمل يسرع إليه الجفاف إذا قل المطر، وروي عن الضحاك أن الله أمسك عنهم المطر ثلاث سنين فأجدبت بلادهم وقحطت بسبب كفرهم، ولا أدري من أين جاءت هذه الرواية، ولكن يدل على شدة حاجتهم إلى المطر أنهم لما رأوا بادرة العذاب الذي أنذروا به استبشروا إذ ظنوا أنه سحاب يمطرهم. قال تعالى في سورة الأحقاف: {فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم تدمر كل شيء بأمر ربها فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم كذلك نجزي القوم المجرمين} [الأحقاف: 24، 25].
{ويزدكم قوة إلى قوتكم} هذا الجزاء الثاني للأمر وهو مما كانوا يطلبونه ويعنون به ويفخرون على الناس، إذ كانوا قد بسط لهم في الأجسام وأعطوا القوة فيها كما تراه في قوله تعالى: {فأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق وقالوا من أشد منا قوة أو لم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة وكانوا بآياتنا يجحدون فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا في أيام نحسات لنذيقهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا ينصرون} [فصلت: 15، 16] وقوله: {وإذا بطشتم بطشتم جبارين} [الشعراء: 130] فيا ليت دول أوروبا المستكبرة بقوتها التي يهدد بها بعضها بعضا تعتبر بهذا، وأنى وهم أشد من قوم عاد كنودا؟ {ولا تتولوا مجرمين} أي ولا تنصرفوا معرضين عما أدعوكم إليه مما يكون سببا لنعمة المعيشة وسعة الرزق وزيادة القوة وهي جزاء الاستقامة على الحق.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ننظر في هذا الوعد. وهو يتعلق بإدرار المطر ومضاعفة القوة. وهي أمور تجري فيها سنة الله وفق قوانين ثابتة في نظام هذا الوجود، من صنع الله ومشيئته بطبيعة الحال. فما علاقة الاستغفار بها وما علاقة التوبة؟ فأما زيادة القوة فالأمر فيها قريب ميسور، بل واقع مشهود، فإن نظافة القلب والعمل الصالح في الأرض يزيدان التائبين العاملين قوة. يزيدانهم صحة في الجسم بالاعتدال والاقتصار على الطيبات من الرزق وراحة الضمير وهدوء الأعصاب والاطمئنان إلى الله والثقة برحمته في كل آن؛ ويزيدانهم صحة في المجتمع بسيادة شريعة الله الصالحة التي تطلق الناس أحرارا كراما لا يدينون لغير الله على قدم المساواة بينهم أمام قهار واحد تعنو له الجباه.. كما تطلقان طاقات الناس ليعملوا وينتجوا ويؤدوا تكاليف الخلافة في الأرض؛ غير مشغولين ولا مسخرين بمراسم التأليه للأرباب الأرضية وإطلاق البخور حولها ودق الطبول، والنفخ فيها ليل نهار لتملأ فراغ الإله الحق في فطرة البشر! والملحوظ دائما أن الأرباب الأرضية تحتاج ويحتاج معها سدنتها وعبادها أن يخلعوا عليها بعض صفات الألوهية من القدرة والعلم والإحاطة والقهر والرحمة.. أحيانا.. كل ذلك ليدين لها الناس! فالربوبية تحتاج إلى ألوهية معها تخضع بها العباد! وهذا كله يحتاج إلى كد ناصب من السدنة والعباد وإلى جهد ينفقه من يدينون لله وحده في عمارة الأرض والنهوض بتكاليف الخلافة فيها، بدلا من أن ينفقه عباد الأرباب الأرضية في الطبل والزمر والتراتيل والتسابيح لهذه الأرباب المفتراة! ولقد تتوافر القوة لمن لا يحكمون شريعة الله في قلوبهم ولا في مجتمعهم، ولكنها قوة إلى حين. حتى تنتهي الأمور إلى نهايتها الطبيعية وفق سنة الله، وتتحطم هذه القوة التي لم تستند إلى أساس ركين. إنما استندت إلى جانب واحد من السنن الكونية كالعمل والنظام ووفرة الإنتاج. وهذه وحدها لا تدوم. لأن فساد الحياة الشعورية والاجتماعية يقضي عليها بعد حين. فأما إرسال المطر. مدرارا. فالظاهر للبشر أنه يجري وفق سنن طبيعية ثابتة في النظام الكوني. ولكن جريان السنن الطبيعية لا يمنع أن يكون المطر محييا في مكان وزمان، ومدمرا في مكان وزمان؛ وأن يكون من قدر الله أن تكون الحياة مع المطر لقوم، وأن يكون الدمار معه لقوم، وأن ينفذ الله تبشيره بالخير ووعيده بالشر عن طريق توجيه العوامل الطبيعية؛ فهو خالق هذه العوامل، وجاعل الأسباب لتحقيق سنته على كل حال. ثم تبقى وراء ذلك مشيئة الله الطليقة التي تصرف الأسباب والظواهر بغير ما اعتاد الناس من ظواهر النواميس وذلك لتحقيق قدر الله كيفما شاء. حيث شاء. بالحق الذي يحكم كل شيء في السماوات والأرض غير مقيد بما عهده الناس في الغالب...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والاستغفار: طلب المغفرة للذنب، أي طلب عدم المؤاخذة بما مضى منهم من الشرك، وهو هنا مكنى به عن ترك عقيدة الشرك، لأن استغفار الله يستلزم الاعتراف بوجوده ويستلزم اعتراف المستغفر بذنب في جانبه ولم يكن لهم ذنب قبل مجيء هود عليه السّلام إليهم غير ذنب الإشراك إذ لم يكن له شرع من قبل. وأما ذنب الإشراك فهو متقرر من الشرائع السابقة جميعها فكان معلوماً بالضرورة فكان الأمر بالاستغفار جامعاً لجميع هذه المعاني تصريحاً وتكنية. والتوبة: الإقلاع عن الذنب في المستقبل والندم على ما سلف منه. وفي ماهية التوبة العزم على عدم العود إلى الذنب فيؤول إلى الأمر بالدّوام على التوحيد ونفي الإشراك...
ساعة تطلب المغفرة من الله تعالى، فهذا إعلان منك بالإيمان، واعتراف بأن تكليف الحق لك هو تكليف حق. ومادام الإنسان قد طلب من الله تعالى أن يغفر له الذي فات من ذنوب، فعليه ألا يرتكب ذنوبا جديدة، وبعد التوبة على العبد أن يحرص على تجنب المعاصي. وعلى الإنسان أن يتذكر أن ما به من نعمة فمن الله، وأن الكائنات المسخرة هي مسخرة بأمر الله تعالى، فلا تنسيك رتابة الحياة عن مسببها الواهب لكل النعم. والحق سبحانه وتعالى حين يرسل رسولا، فأول ما ينزل به الرسول إلى الأمة هو أن يصحح العقيدة في قمتها، ويدعوهم إلى الإيمان بإله واحد يتلقون عنه "افعل "و "لا تفعل". وهنا يكون الكلام من هود عليه السلام إلى قومه" قوم عاد"، والدعوة إلى الإيمان بإله واحد وعبادته، والأخذ بمنهجه لا يمكن أن يقتصر على الطقوس فقط من الشهادة بوحدانية الله تعالى، والصلاة، والصيام، والزكاة، والحج. ولكن عبادة الله تعالى هي أن تؤدي الشعائر والعبادات، وتتقن كل عمل في ضوء منهج الله، فلا تعزل الدين عن حركة الحياة...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ} فقد انحرفتم كثيراً عن طريقه، وتمرّدتم على إرادته، وعصيتم أحكامه، مما يستتبع الابتعاد عن ساحة رحمته، والوقوع في ساحة غضبه، فارجعوا إليه في وقفة استغفار، ليغفر لكم ذنوبكم إذا عرف منكم صدق النيّة، وإخلاص الموقف، وتوبوا إليه توبةً نصوحاً تعلن الندم عما مضى، وتقرّر التغيير في ما يأتي، فهو وليّ الإنسان والحياة، فمنه قوّته، ومنه نعمته، ومنه قبل ذلك كله، سرّ حياته، فلا يستطيع الإنسان الانفصال عنه، بل لا بد من الرجوع إليه في كل الأمور، فإذا كنتم تريدون زيادة القوّة، لتواجهوا كل تحديات الآخرين من حولكم بشكل أقوى، وإذا كنتم تريدون خصب الأرض التي تسكنونها، ووفرة الماء الذي تشربونه، فارجعوا إليه، بخشوع وخضوع، {يُرْسِلِ السَّمَآءَ عَلَيْكُمْ مِّدْرَاراً} في هطول متتابع، فيحيي زرعكم وأنعامكم، {وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ} لأنه خالق القوة كلها، فمنه وجودها ومنه حركتها ونموّها، {وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ} أي لا تُعرضوا عن هذه الدعوة، وعن الله، لتسيروا في خط الجريمة في العقيدة وفي السلوك...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
أنّ القرآن يقيم رابطة بين المسائل المعنوية والماديّة، فيعدّ الاستغفار من الذنب والتوبة إلى الله أساس العمران والخصب والخضرة والنضرة وزيادة في القوة والاقتدار...