اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَيَٰقَوۡمِ ٱسۡتَغۡفِرُواْ رَبَّكُمۡ ثُمَّ تُوبُوٓاْ إِلَيۡهِ يُرۡسِلِ ٱلسَّمَآءَ عَلَيۡكُم مِّدۡرَارٗا وَيَزِدۡكُمۡ قُوَّةً إِلَىٰ قُوَّتِكُمۡ وَلَا تَتَوَلَّوۡاْ مُجۡرِمِينَ} (52)

ثم قال : { ويا قوم استغفروا رَبَّكُمْ } آمنوا به ، والاستغفارُ - ههنا - بمعنى الإيمان .

وقال الأصمُّ : { استغفروا رَبَّكُمْ } أي : سلُوه أن يغفر لكم ما تقدَّم من شرككم ، ثم توبوا من بعده بالنَّدم على ما مضى ، وبالعزمِ على أن لا تعودوا إلى مثله ، فإذا فعلتُم ذلك فالله يكثرُ النّعْمَة عليكم .

قوله : { يُرْسِلِ السمآء عَلَيْكُمْ مِّدْرَاراً } نصب " مِدْرَاراً " على الحالِ ، ولم يُؤنِّثْهُ وإن كان من مُؤثَّث لثلاثةِ أوجهٍ :

أحدها : أنَّ المراد بالسَّماء السحاب ، فذكَّر على المعنى .

الثاني : أنَّ مفعالاً للمبالغةِ فيستوي فيه المذكَّر والمؤنث ك : صَبُور ، وشكُور ، وفعيل .

الثالث : أنَّ الهاءَ حذفت من " مِفْعَال " على طريقِ النَّسَب قاله مكيٌّ ، وقد تقدَّم إيضاحه في الأنعام .

والمعنى : يُرسل عليكم المطر متتابعاً مرةً بعد أخرى في أوقات الحاجةِ . { وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إلى قُوَّتِكُمْ } أي : شدة مع شدَّتكم . وقيل : المراد بالقوَّة : المال وذلك أنَّ الله تعالى لمَّا بعث هوداً إليهم ، وكذَّبُوهُ حبس الله المطر عنهم ثلاث سنين ، وأعقم أرحام نسائهم ، فقال لهم هودٌ : إنْ آمنتم بالله أحْيَا اللهُ بلادَكم ورزقكم المالَ ، والولدَ ، فذلك قوله تعالى : { يُرْسِلِ السمآء عَلَيْكُمْ مِّدْرَاراً } والمِدْرَارُ : بالكسر الكثير الدرّ وهو من أبنية المبالغة .

فإن قيل : إنَّ هوداً - عليه الصلاة والسلام - قال : لو اشتغلتم بعبادةِ الله لانفتحت عليكم أبوابُ الخيرات الدنيوية ، وليس الأمرُ كذلك لقوله - عليه الصلاة والسلام - " خُصَّ البلاءُ بالأنبياءِ ثُمَّ الأولياءِ ثُمَّ الأمثلِ ، فالأمْثل " {[18838]} فكيف الجمعُ بينهما ؟ وأيضاً فقد جرتْ عادةُ القرآنِ بالتَّرغيب في الطَّاعاتِ بسبب ترتيب الخيرات الدنيويَّة ، والأخرويَّةِ عليها ، فأمَّا التَّرغيبُ في الطَّاعَاتِ لأجل ترتيب الخيرات الدنيوية عليها ؛ فذلك لا يليقُ بالقرآن .

فالجوابُ : لمَّا كثر التَّرغيب في سعاداتِ الآخرة لم يتغيَّر بالتَّرغيب أيضاً في خير الدنيا بقدر الكفايةِ .

قوله : { إلى قُوَّتِكُمْ } يجوز أن يتعلق ب " يَزِدْكُم " على التَّضمين ، أي : يُضيف إلى قُوَّتكم قُوَّةً أخرى ، أو يجعل الجار والمجرور صفة ل " قُوَّة " فيتعلَّق بمحذوفٍ .

وقدَّرهُ أبو البقاءِ : " مُضافةً إلى قُوَّتِكُم " ، وهذا يأباهُ النحاةُ ، لأنَّهُم لا يقدِّرُون إلاَّ الكون المطلق في مثله ، أو تجعل " إلى " بمعنى " مع " أي : مع قُوَّتكم ، كقوله : { إلى أَمْوَالِكُمْ } [ النساء : 2 ] .

ثم قال : { وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ } أي : ولا تدبروا مشركين مصرِّين على الكفر .


[18838]:ذكره المتقي الهندي في "كنز العمال" (6783) بلفظ أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل وعزاه لابن حبان عن أبي سعيد.