127- وإذ يرفع إبراهيم هو وابنه إسماعيل قواعد البيت وهما يدعوان الله : ربنا يا خالقنا وبارئنا تقبل منا هذا العمل الخالص لوجهك ، فأنت السميع لدعائنا العليم بصدق نياتنا{[5]} .
قوله تعالى : { وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل } . قال الرواة : إن الله تعالى خلق موضع البيت قبل الأرض بألفي عام ، وكانت زبدة بيضاء على الماء ، فدحيت الأرض من تحتها . فلما أهبط الله آدم إلى الأرض ، استوحش فشكا إلى الله تعالى ، فأنزل الله البيت المعمور من ياقوتة من يواقيت الجنة له بابان من زمرد أخضر ، باب شرقي وباب غربي ، فوضعه على موضع البيت وقال : يا آدم إني أهبطت لك بيتاً تطوف به كما يطاف حول عرشي ، تصلي عنده كما يصلي عند عرشي ، وأنزل الحجر وكان أبيض فاسود من لمس الحيض في الجاهلية ، فتوجه آدم من أرض الهند إلى مكة ماشياً ، وقيض الله له ملكاً يدله على البيت ، فحج البيت وأقام المناسك ، فلما فرغ تلقته الملائكة وقالوا : بر حجك يا آدم ، لقد حججنا هذا البيت قبلك بألفي عام . قال ابن عباس رضي الله عنه : حج آدم أربعين حجة من الهند إلى مكة على رجليه ، فكان على ذلك إلى أيام الطوفان ، فرفعه الله تعالى إلى السماء الرابعة يدخله كل يوم سبعون ألف ملك ، لا يعودون إليه يوم القيامة ، وبعث جبريل عليه السلام حتى خبأ الحجر الأسود في جبل أبي قبيس صيانة له من الغرق ، فكان موضع البيت خالياً إلى زمن إبراهيم ، ثم إن الله تعالى أمر إبراهيم بعدما ولد له إسماعيل وإسحاق ببناء بيت يذكر فيه ، فسأل الله عز وجل أن يبين له موضعه ، فبعث الله السكينة لتدله على موضع البيت ، وهي ريح خجوج لها رأسان شبه الحية ، فأمر إبراهيم أن يبني حيث تستقر السكينة ، فتبعها إبراهيم حتى أتيا مكة فتطوقت السكينة على موضع البيت كتطوق الجحفة هذا قول علي والحسن . وقال ابن عباس : بعث الله سحابة على قدر الكعبة فجعلت تسير وإبراهيم يمشي في ظلها إلى أن وافق مكة ووقفت على موضع البيت ، فنودي منها إبراهيم أن ابن على ظلها لا تزداد ولا تنقص ، وقيل : أرسل الله جبريل ليدله على موضع البيت فذلك قوله تعالى ( وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت ) فبنى إبراهيم وإسماعيل البيت فكان إبراهيم يبنيه وإسماعيل يناوله الحجر ، فذلك قوله تعالى : ( وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ) يعني أسسه واحدتها قاعدة . وقال الكسائي : جدر البيت ، قال ابن عباس : إنما بني البيت من خمسة أجبل ، طور سيناء وطور زيتا ولبنان وهو جبل بالشام ، والجودي وهو جبل بالجزيرة وبنيا قواعده من حراء وهو جبل بمكة فلما انتهى إبراهيم إلى موضع الحجر الأسود قال لإسماعيل ائتني بحجر حسن يكون للناس علماً ، فأتاه بحجر فقال : ائتني بأحسن من هذا ، فمضى إسماعيل يطلبه فصاح أبو قبيس : يا إبراهيم إن لك عندي وديعة فخذها ، فأخذ الحجر الأسود فوضعه مكانه . وقيل : إن الله تعالى بنى في السماء بيتاً وهو البيت المعمور ويسمى ضراح ، وأمر الملائكة أن يبنوا الكعبة في الأرض بحياله على قدره ومثاله ، وقيل : أول من بنى الكعبة آدم واندرس في زمن الطوفان ثم أظهره الله لإبراهيم حتى بناه .
قوله تعالى : { ربنا تقبل منا } . فيه إضمار أي ويقولان : ربنا تقبل منا بناءنا .
{ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }
أي : واذكر إبراهيم وإسماعيل ، في حالة رفعهما القواعد من البيت الأساس ، واستمرارهما على هذا العمل العظيم ، وكيف كانت حالهما من الخوف والرجاء ، حتى إنهما مع هذا العمل دعوا الله أن يتقبل منهما عملهما ، حتى يحصل{[99]} فيه النفع العميم .
ثم يرسم مشهد تنفيذ إبراهيم وإسماعيل للأمر الذي تلقياه من ربهما بإعداد البيت وتطهيره للطائفين والعاكفين والركع السجود . . يرسمه مشهودا كما لو كانت الأعين تراهما اللحظة وتسمعهما في آن :
( وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل : ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم . ربنا واجعلنا مسلمين لك ، ومن ذريتنا أمة مسلمة لك ، وأرنا مناسكنا وتب علينا ، إنك أنت التواب الرحيم . ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ، ويعلمهم الكتاب والحكمة ، ويزكيهم ، إنك أنت العزيز الحكيم ) . . إن التعبير يبدأ بصيغة الخبر . . حكاية تحكى :
( وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ) . .
وبينما نحن في انتظار بقية الخبر ، إذا بالسياق يكشف لنا عنهما ، ويرينا إياهما ، كما لو كانت رؤية العين لا رؤيا الخيال . إنهما أمامنا حاضران ، نكاد نسمع صوتيهما يبتهلان :
( ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم . ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم . . ربنا . . )
فنغمة الدعاء ، وموسيقى الدعاء ، وجو الدعاء . . كلها حاضرة كأنها تقع اللحظة حية شاخصة متحركة . . وتلك إحدى خصائص التعبير القرآني الجميل . رد المشهد الغائب الذاهب ، حاضرا يسمع ويرى ، ويتحرك ويشخص ، وتفيض منه الحياة . . إنها خصيصة " التصوير الفني " بمعناه الصادق ، اللائق بالكتاب الخالد .
وماذا في ثنايا الدعاء ؟ إنه أدب النبوة ، وإيمان النبوة ، وشعور النبوة بقيمة العقيدة في هذا الوجود . وهو الأدب والإيمان والشعور الذي يريد القرآن أن يعلمه لورثة الأنبياء ، وأن يعمقه في قلوبهم ومشاعرهم بهذا الإيحاء :
( ربنا تقبل منا . إنك أنت السميع العليم ) . .
إنه طلب القبول . . هذه هي الغاية . . فهو عمل خالص لله . الاتجاه به في قنوت وخشوع إلى الله . والغاية المرتجاة من ورائه هي الرضى والقبول . . والرجاء في قبوله متعلق بأن الله سميع للدعاء . عليهم بما وراءه من النية والشعور .
فالقواعد : جمع قاعدة ، وهي السارية والأساس ، يقول تعالى : واذكر - يا محمد - لقومك بناء إبراهيم وإسماعيل ، عليهما السلام ، البيت ، ورفْعَهما القواعدَ منه ، وهما يقولان : { رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } فهما في عمل صالح ، وهما يسألان الله تعالى أن يتقبل منهما ، كما روى ابن أبي حاتم من حديث محمد بن يزيد بن خنيس المكي ، عن وهيب بن الورد : أنه قرأ : { وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا } ثم يبكي ويقول : يا خليل الرحمن ، ترفع قوائم بيت الرحمن وأنت مُشْفق أن لا يتقبل منك . وهذا كما حكى الله تعالى عن حال المؤمنين المخلصين{[2699]} في قوله تعالى : { وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا } أي : يعطون ما أعطوا من الصدقات والنفقات والقربات { وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ }
[ المؤمنون : 60 ] أي : خائفة ألا يتقبل منهم . كما جاء به الحديث الصحيح ، عن عائشة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سيأتي في موضعه .
وقال بعض المفسرين : الذي كان يرفع القواعد هو إبراهيم ، والداعي إسماعيل . والصحيح أنهما كانا يرفعان ويقولان ، كما سيأتي بيانه .
وقد روى البخاري هاهنا حديثًا سنورده ثم نُتْبِعه بآثار متعلقة بذلك . قال البخاري ، رحمه الله :
حدثنا عبد الله بن محمد ، حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا مَعْمَر ، عن أيوب السخيتاني{[2700]} وكثير بن كثير بن المطلب بن أبي وَدَاعة - يزيد أحدُهما على الآخر - عن سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس ، رضي الله عنهما ، قال : أول ما{[2701]} اتخذ النساء المنْطَق من قبَل أم إسماعيل ، عليهما{[2702]} السلام اتخذت منطقًا ليعفي أثرها على سارة . ثم جاء بها إبراهيم وبابنها إسماعيل ، عليهما السلام ، وهي ترضعه ، حتى وضعهما عند البيت عند دوحة فوق زَمْزم في أعلى المسجد ، وليس بمكة يومئذ أحد ، وليس بها ماء فوضعهما هنالك ، ووضع عندهما جرابًا فيه تمر وسِقَاء فيه ماء ، ثم قَفَّى إبراهيم ، عليه السلام ، منطلقًا . فتبعته أم إسماعيل فقالت : يا إبراهيم ، أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه إنس ولا شيء ؟ فقالت له ذلك مرارًا ، وجعل لا يلتفت إليها . فقالت {[2703]} آلله أمرك بهذا ؟ قال : نعم . قالت : إذًا لا يضيعنا . ثم رجعت . فانطلق إبراهيم ، عليه السلام ، حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه ، استقبل بوجهه البيت ، ثم دعا بهؤلاء الدعوات ، ورفع يديه ، قال : { رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ } [ إبراهيم : 37 ] ، وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل ، عليهما السلام ، وتشرب من ذلك الماء ، حتى إذا نفد ماء السقاء{[2704]} عطشت وعطش ابنها ، وجعلت تنظر إليه يتلوى - أو قال : يتلبط - فانطلقت كراهية أن تنظر إليه ، فوجدت الصفا أقربَ جبل في الأرض يليها{[2705]} فقامت عليه ، ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحدًا ؟ فلم تر أحدًا . فهبطت من الصفا حتى إذا بلغت الوادي رفعت طَرْفَ درعها ، ثم سعت سَعْيَ الإنسان المجهود حتى جاوزت الوادي . ثم أتت المروة ، فقامت عليها ونظرت هل ترى أحَدًا ؟ فلم تر أحدًا . ففعلت ذلك سبع مرات ، قال ابن عباس : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " فلذلك سعى الناس بينهما " .
فلما أشرفت على المروة سمعت صوتًا فقالت : صه ، تريد نفسها ، ثم تَسَمَّعت فسمعَت أيضًا . فقالت : قد أسمعت إن كان عندك غُوَاث فإذا هي بالمَلَك عند موضع زمزم ، فبحث بعقبه - أو قال : بجناحه - حتى ظهر الماء ، فجعلت تُحَوِّضُهُ ، وتقول بيدها هكذا ، وجعلت تغرف من الماء في سقائها وهو يفور بعدما تغرف . قال ابن عباس : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " يرحم الله أم إسماعيل ، لو تركت زمزم - أو قال : لو لم تغرف من الماء - لكانت زمزم عينًا مَعينًا " .
قال : فشربت وأرضعت ولدها ، فقال لها الملك : لا تخافي الضيعة ؛ فإن هاهنا بيتًا لله ، عز وجل ، يبنيه هذا الغلام وأبوه ، وإن الله ، عز وجل ، لا يضيع أهله . وكان البيت مرتفعًا من الأرض كالرابية تأتيه السيول فتأخذ عن يمينه وعن شماله ، فكانت كذلك حتى مرت بهم رفقة من جُرْهُم - أو أهل بيت من جُرْهم - مقبلين من طريق كَدَاء . فنزلوا في أسفل مكة ، فرأوا طائرًا عائفًا ، فقالوا : إن هذا الطائر ليدور على الماء ، لعَهْدُنا بهذا الوادي وما فيه ماء . فأرسلوا جَرِيًّا أو جَرِيَّين ، فإذا هم بالماء . فرجعوا فأخبروهم بالماء ، فأقبلوا . قال : وأم إسماعيل عند الماء . فقالوا : أتأذنين لنا أن ننزل عندك ؟ قالت : نعم ، ولكن لا حَقَّ لكم في الماء . قالوا : نعم .
قال ابن عباس{[2706]} فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " فألفى ذلك أم إسماعيل وهي تحب الأنس . فنزلوا ، وأرسلوا إلى أهليهم فنزلوا معهم . حتى إذا كان بها أهل أبيات منهم وشب الغلامُ ، وتعلم العربية منهم ، وأنْفَسَهم وأعجبهم حين شب ، فلما أدرك زوجوه امرأة منهم . وماتت أم إسماعيل ، عليهما{[2707]} السلام ، فجاء إبراهيم بعد ما تزوج إسماعيلُ ليطالع تَرْكَتَه . فلم يجد إسماعيل ، فسأل امرأته عنه فقالت : خرج يبتغي لنا . ثم سألها عن عيشهم وهيئتهم ، فقالت : نحن بشَرّ ، نحن في ضيق وشدة . وشكت إليه . قال : فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام ، وقولي له : يغير عتبة بابه . فلما جاء إسماعيل ، عليه السلام ، كأنه أنس شيئًا . فقال : هل جاءكم من أحد ؟ قالت : نعم ، جاءنا شيخ كذا وكذا ، فسأل{[2708]} عنك ، فأخبرته ، وسألني كيف عيشنا ؟ فأخبرته أنا في جَهْد وشدَّة . قال : فهل أوصاك بشيء ؟ قالت : نعم ، أمرني أن أقرأ عليك السلام ، ويقول{[2709]} غَيِّرْ عتبة بابك . قال : ذاك أبي . وقد أمرني أن أفارقك ، فالحقي بأهلك . فَطَلَّقَها وتزوج منهم بأخرى ، فلبث عنهم إبراهيم ما شاء الله ، ثم أتاهم بعد فلم يجده . فدخل على امرأته ، فسألها عنه ، فقالت : خرج يبتغي لنا . قال : كيف أنتم ؟
وسألها عن عيشهم وَهَيْئَتهم . فقالت : نحن بخير وسعة . وأثنت على الله ، عز وجل . فقال : ما طعامكم ؟ قالت : اللحم . قال : فما شرابكم ؟ قالت : الماء . قال : اللهم بارك لهم في اللحم والماء " . قال النبي صلى الله عليه وسلم : " ولم يكن لهم يومئذ حَب ، ولو كان لهم ، لدعا لهم فيه . قال : فهما لا يخلو عليهما أحد بغير مكة إلا لم يوافقاه " . قال : " فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام ، ومُريه يُثَبِّت عتبة بابه ، فلما جاء إسماعيل ، عليه السلام ، قال : هل أتاكم من أحد ؟ قالت : نعم ، أتانا شيخ حسن الهيئة ، وأثنت عليه{[2710]} فسألني عنك ، فأخبرته ، فسألني : كيف عيشنا ؟ فأخبرته أنا بخير . قال : فأوصاك بشيء ؟ قالت : نعم ، هو يقرأ عليك السلام ، ويأمرك أن تثبت عتبة بابك . قال : ذاك أبي ، وأنت العتبة ، أمرني أن أمسكك . ثم لَبثَ عنهم ما شاء الله ، عز وجل ، ثم جاء بعد ذلك وإسماعيل يَبْرِي نَبْلا{[2711]} له تحت دوحة قريبًا من زمزم ، فلما رآه قام إليه ، فصنعا كما يصنع الولد بالوالد ، والوالد بالولد . ثم قال : يا إسماعيل ، إن الله أمرني بأمر . قال : فاصنع ما أمرك ربك ، عز وجل . قال : وتعينني ؟ قال : وأعينك . قال : فإن الله أمرني أن أبني هاهنا بيتًا - وأشار إلى أكَمَةٍ مرتفعة على ما حولها - قال : فعند ذلك رَفَعا القواعد من البيت فجعل{[2712]} إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يبني ، حتى إذا ارتفع البناء جاء بهذا الحجر فوضعه له ، فقام عليه وهو يبني ، وإسماعيل يناوله الحجارة ، وهما يقولان : { رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } " قال : " فجعلا يبنيان حتى يدورا حول البيت ، وهما يقولان : { رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ }{[2713]} .
[ ورواه عبد بن حميد عن عبد الرزاق به مطولا ]{[2714]} .
ورواه ابن أبي حاتم ، عن أبي عبد الله محمد بن حمَّاد الظهراني . وابن جرير ، عن أحمد بن ثابت الرازي ، كلاهما عن عبد الرزاق به مختصرًا{[2715]} .
وقال أبو بكر بن مَرْدُويه : حدثنا إسماعيل بن علي بن إسماعيل ، حدثنا بشر بن موسى ، حدثنا أحمد بن محمد الأزرقي ، حدثنا مسلم بن خالد الزنجي ، عن عبد الملك بن جُرَيج ، عن كثير بن كثير ، قال : كنت أنا وعثمان بن أبي سليمان ، وعبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين في ناس مع سعيد بن جبير ، في أعلى المسجد ليلا فقال سعيد بن جبير : سلوني قبل أن لا تروني . فسألوه عن المقام . فأنشأ يحدثهم عن ابن عباس ، فذكر الحديث بطوله .
ثم قال البخاري : حدثنا عبد الله بن محمد . حدثنا أبو عامر عبد الملك بن عمرو{[2716]} حدثنا إبراهيم بن نافع ، عن كثير بن كثير ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : لما كان بين إبراهيم وبين أهله ما كان ، خرج بإسماعيل وأم إسماعيل ، ومعهم شَنَّة فيها ماء ، فجعلت أم إسماعيل تشرب من الشنَّة ، فيَدِرُّ لبنها على صبيها ، حتى قدم مكة فوضعها تحت دوحة ، ثم رجع إبراهيم إلى أهله ، فاتبعته أم إسماعيل ، حتى{[2717]} بلغوا كَدَاء نادته{[2718]} من ورائه : يا إبراهيم ، إلى من تتركنا ؟ قال : إلى الله ، عز وجل . قالت : رضيت بالله . قال : فرجَعَتْ ، فجعلت تشرب من الشنة ، ويَدر لبنها على صَبيها حتى لما فَنِي الماء قالت : لو ذهبت فنظرت لعلي أحس أحدا . قال : فذهَبَتْ فصَعدت الصفا ، فنظرت ونظرت هل تحس أحدًا ، فلم تحس أحدًا . فلما بلغت الوادي سَعَت{[2719]} حتى أتت المروة ، ففعلت ذلك أشواطا ثم قالت : لو ذهبت فنظرت ما فعل ، تعني الصبي ، فذهبت فنظرت فإذا هو على حاله كأنه يَنْشَغُ للموت ، فلم تقُرَّها نفسها ، فقالت : لو ذهبت فنظرت لعلي أحس أحدًا . قال : فذهبت فصعدت الصفا ، فنظرت ونَظرت فلم تُحس أحدًا ، حتى أتمت سبعا ، ثم قالت : لو ذهبت فنظرت ما فعل ، فإذا هي بصوت ، فقالت : أغثْ إن كان عندك خير . فإذا جبريل ، عليه السلام ، قال : فقال بعقبه هكذا ، وغمز عَقِبَه على الأرض . قال : فانبثق الماء ، فَدَهَشَتْ أم إسماعيل ، فجعلت تحفر .
قال : فقال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم : " لو تركَتْه لكان الماء ظاهرًا{[2720]} .
قال : فجعلت تشرب من الماء ويَدِرُّ لبنها على صَبِيِّها .
قال : فمر ناس من جُرْهم ببطن الوادي ، فإذا هم بطير ، كأنهم أنكروا ذلك ، وقالوا : ما يكون الطير إلا على ماء فبعثوا رسولهم فَنَظَرَ ، فإذا هو بالماء . فأتاهم فأخبرهم . فأتوا إليها فقالوا : يا أم إسماعيل ، أتأذنين لنا أن نكون معك - ونسكن معك ؟ - فبلغ ابنها ونكح فيهم{[2721]} امرأة .
قال : ثم إنه بدا لإبراهيم صلى الله عليه وسلم{[2722]} فقال لأهله : إني مُطَّلع تَرْكَتي . قال : فجاء فسلم ، فقال : أين إسماعيل ؟ قالت امرأته : ذهب يصيد . قال : قولي له إذا جاء : غير عتبة بيتك . فلما جاء أخبرته ، قال : أنت ذَاكِ ، فاذهبي إلى أهلك .
قال : ثم إنه بدا لإبراهيم ، فقال لأهله : إني مُطَّلع تَرْكتي . قال : فجاء فقال : أين إسماعيل ؟ فقالت امرأته : ذهب يصيد . فقالت : ألا تنزل فَتَطْعَم وتشرب ؟ فقال : ما طعامكم وما شرابكم ؟ قالت : طعامنا اللحم ، وشرابنا الماء . قال : اللهم بارك لهم في طعامهم وشرابهم .
قال : فقال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم : " بَرَكة بدعوة إبراهيم "
قال : ثم إنه بدا لإبراهيم صلى الله عليه وسلم فقال لأهله : إني مُطَّلع تَرْكتي . فجاء فوافق إسماعيل من وراء زمزم يصلح نَبْلا له{[2723]} فقال : يا إسماعيل ، إن ربك ، عز وجل ، أمرني أن أبني له بيتًا . فقال : أطعْ ربك ، عز وجل . قال : إنه قد أمرني أن تعينني عليه ؟ فقال : إذن أفعلَ - أو كما قال - قال : فقاما{[2724]} [ قال ]{[2725]} فجعل إبراهيم يبني ، وإسماعيل يناوله الحجارة ، ويقولان : { رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ }
قال : حتى ارتفع البناء وضَعُفَ الشيخ عن نقل الحجارة . فقام على حَجَر المقام ، فجعل يناوله الحجارة ويقولان : { رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ }
هكذا{[2726]} رواه من هذين الوجهين في كتاب الأنبياء{[2727]} .
والعجب أن الحافظ أبا عبد الله الحاكم رواه في كتابه المستدرك ، عن أبي العباس الأصم ، عن محمد بن سنان القَزَّاز ، عن أبي علي عبيد الله بن عبد المجيد الحنفي ، عن إبراهيم بن نافع ، به . وقال : صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه . كذا قال . وقد رواه البخاري كما ترى ، من حديث إبراهيم بن نافع ، كأن فيه اقتصارًا ، فإنه لم يذكر فيه [ شأن ]{[2728]} الذبح . وقد جاء في الصحيح ، أن قرني الكبش كانا معلقين بالكعبة ، وقد جاء أن إبراهيم ، عليه السلام ، كان يزور أهله بمكة على البراق سريعًا{[2729]} ثم يعود إلى أهله بالبلاد{[2730]} المقدسة ، والله أعلم . والحديث - والله أعلم - إنما فيه - مرفوع - أماكن صَرح بها ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم .
وقد ورد عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب في هذا السياق ما يخالف بعض هذا ، كما قال ابن جرير :
حدثنا محمد بن بشار ، ومحمد بن المثنى قالا حدثنا مؤمل ، حدثنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن حارثة بن مضرِّب ، عن علي بن أبي طالب ، قال : لما أمر إبراهيم ببناء البيت ، خرج معه إسماعيل وهاجر . قال : فلما قدم مكة رأى على رأسه في موضع البيت مثل الغمامة ، فيه مثلُ الرأس . فكلمه ، قال : يا إبراهيم ، ابن على ظِلي - أو قال على قدري - ولا تَزْد ولا تنقص : فلما بنى خرج ، وخلف إسماعيل وهاجر ، فقالت هاجر : يا إبراهيم ، إلى من تكلنا ؟ قال : إلى الله . قالت : انطلق ، فإنه لا يضيعنا . قال : فعطش إسماعيل عطشًا شديدًا ، قال : فصعدت هاجر إلى الصفا فنظرت فلم تر شيئًا ، حتى أتت المروة فلم تر شيئًا ، ثم رجعت إلى الصفا فنظرت فلم تر شيئًا ، حتى أتت المروة فلم تر شيئًا ، ثم رجعت إلى الصفا فنظرت فلم تر شيئًا ، حتى فعلت ذلك سبع مرات ، فقالت : يا إسماعيل ، مت حيث لا أراك . فأتته وهو يفحص برجله من العطش . فناداها جبريل فقال لها : من أنت ؟ قالت : أنا هاجر أم ولد إبراهيم . قال : فإلى من وَكَلَكُما ؟ قالت : وكلنا إلى الله . قال : وكلكما إلى كافٍ . قال : ففحص الغلام الأرض بأصبعه ، فنبعت زمزم . فجعلت تحبس الماء فقال : دعيه فإنها رَوَاء{[2731]} .
ففي هذا السياق أنه بنى البيت قبل أن يفارقهما ، وقد يحتمل - إن كان محفوظًا - أن يكون أولا وضع له حوطًا وتحجيرًا ، لا أنه بناه إلى أعلاه ، حتى كبر إسماعيل فبنياه معًا ، كما قال الله تعالى .
ثم قال ابن جرير : أخبرنا هَنَّاد بن السري ، حدثنا أبو الأحوص ، عن سِماك ، عن خالد بن عرعرة ، أن رجلا قام إلى علي ، رضي الله عنه ، فقال : ألا تخبرني عن البيت ، أهو أول بيت وضع في الأرض ؟ فقال : لا ولكنه أول بيت وضع فيه البَرَكة{[2732]} ، مقام إبراهيم ، ومن دخله كان آمنًا ، وإن شئت أنبأتك كيف بني : إن الله أوحى إلى إبراهيم أن ابن لي بيتًا في الأرض ، قال : فضاق إبراهيم بذلك ذرعًا فأرسل الله السكينة - وهي ريح خجوج ، ولها رأسان - فأتْبَع أحدهما صاحبه ، حتى انتهت إلى مكة ، فتطوت{[2733]} على موضع البيت كطي الحجفَة ، وأمر إبراهيم أن يبني حيث تستقر السكينة . فبنى إبراهيم وبقي حجر ، فذهب الغلام يبغي شيئًا . فقال إبراهيم : أبغني حجرًا كما آمرك . قال : فانطلق الغلام يلتمس له حجرًا ، فأتاه به ، فوجده قد ركب الحجر الأسود في مكانه . فقال : يا أبه ، من أتاك بهذا الحجر ؟ فقال : أتاني به من لن يَتَّكل{[2734]} على بنائك ، جاء به جبريل ، عليه السلام ، من السماء . فأتماه{[2735]} .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا حمد بن عبد الله بن يزيد المقري ، حدثنا سفيان ، عن بشر بن عاصم ، عن سعيد بن المسيب ، عن كعب الأحبار ، قال : كان البيت غثاءة على الماء قبل أن يخلق الله الأرض بأربعين عامًا ، ومنه دحيت الأرض .
قال سعيد : وحدثنا علي بن أبي طالب : أن إبراهيم أقبل من أرمينية ، ومعه السكينة تدله على تَبُوُّء{[2736]} البيت كما تتبوأ العنكبوت بيتًا ، قال : فكشفت عن أحجار لا يُطيق{[2737]} الحجر إلا ثلاثون رجلا . قلت :{[2738]} يا أبا محمد ، فإن الله يقول : { وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ } قال : كان ذلك بعد .
وقال السدي : إن الله ، عز وجل ، أمر إبراهيم أن يبني [ البيت ] {[2739]}هو وإسماعيل : ابنيا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود ، فانطلق إبراهيم ، عليه السلام ، حتى أتى مكة ، فقام هو وإسماعيل ، وأخَذَا المعاول لا يدريان أين البيت ؟ فبعث الله ريحًا ، يقال لها : ريح الخجوج ، لها جناحان ورأس في صورة حية ، فكشفت لهما ما حول الكعبة عن أساس البيت الأول ، واتبعاها بالمعاول يحفران حتى وضعا الأساس . فذلك حين يقول [ الله ]{[2740]} تعالى : { وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ } { وَإِذْ بَوَّأْنَا لإبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ } [ الحج : 26 ] فلما بنيا القواعد فبلغا مكان الركن . قال إبراهيم لإسماعيل : يا بني ، اطلب لي حجرًا حسنًا أضعه هاهنا . قال : يا أبت ، إني كسلان لَغب .
قال : عَلَيّ بذلك فانطلق فطلب{[2741]} له حجرًا ، فجاءه بحجر فلم يرضه ، فقال ائتني بحجر أحسن من هذا ، فانطلق يطلب له حجرًا ، وجاءه جبريل بالحجر الأسود من الهند ، وكان أبيض ، ياقوتة بيضاء مثل الثَّغَامة ، وكان آدم هبط به من الجنة فاسود من خطايا الناس ، فجاءه إسماعيل بحجر فوجده عند الركن ، فقال : يا أبه ، من جاءك بهذا ؟ قال : جاء به من هو أنشط منك . فبنيا وهما يدعوان الكلمات التي ابتلى [ بهن ]{[2742]} إبراهيم ربه ، فقال : { رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ }
وفي هذا السياق ما يدل على أن قواعد البيت كانت مبنية قبل إبراهيم . وإنما هُدِي إبراهيمُ إليها وبُوِّئ لها . وقد ذهب إلى ذلك {[2743]}ذاهبون ، كما قال الإمام عبد الرزاق{[2744]} أخبرنا معمر ، عن أيوب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : { وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ } قال :{[2745]} القواعد التي كانت قواعد البيت قبل ذلك{[2746]} .
وقال عبد الرزاق أيضًا : أخبرنا هشام بن حسان ، عن سوار - ختن عطاء - عن عطاء ابن أبي رباح ، قال : لما أهبط الله آدم من الجنة ، كانت رجلاه في الأرض ورأسُه في السماء يسمع كلام أهل السماء ودعاءهم ، يأنس إليهم ، فهابته{[2747]} الملائكة ، حتى شكت إلى الله في دعائها وفي صلاتها . فخفضه الله إلى الأرض ، فلما فقد ما كان يسمع منهم استوحش حتى شكا ذلك إلى الله في دعائه وفي صلاته . فوجه إلى مكة ، فكان موضع قَدَمه قريةً ، وخَطوُه مفازة ، حتى انتهى إلى مكة ، وأنزل الله ياقوتة من ياقوت الجنة ، فكانت على موضع البيت الآن . فلم يزل يطوف به حتى أنزل الله الطوفان ، فرفعت تلك الياقوتة ، حتى بعث الله إبراهيم ، عليه السلام ، فبناه . وذلك قول الله تعالى : { وَإِذْ بَوَّأْنَا لإبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ } [ الحج : 26 ] {[2748]} .
وقال عبد الرزاق : أخبرنا ابن جريج ، عن عطاء ، قال : قال آدم : إني لا أسمع أصوات الملائكة ؟ ! قال : بخطيئتك ، ولكن اهبط إلى الأرض ، فابن لي بيتًا ثم احفف به ، كما رأيت الملائكة تحف ببيتي الذي في السماء . فيزعم الناس أنه بناه من خمسة أجبل : من حراء . وطور زيتا ، وطور سَيْناء ، وجبل لبنان ، والجودي . وكان رَبَضُه من حراء . فكان هذا بناء آدم ، حتى بناه إبراهيم ، عليه السلام ، بعد{[2749]} .
وهذا صحيح إلى عطاء ، ولكن في بعضه نكارَة ، والله أعلم .
وقال عبد الرزاق أيضًا : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، قال : وضع الله البيت مع آدم حين أهبط الله آدم إلى الأرض ، وكان مهبطه بأرض الهند . وكان رأسه في السماء ورجلاه في الأرض ، فكانت الملائكة تهابه ، فنُقص إلى ستين ذراعًا ؛ فحزن{[2750]} إذ فقد أصوات الملائكة وتسبيحهم . فشكا ذلك إلى الله ، عز وجل ، فقال الله : يا آدم ، إني قد أهبطت لك بيتًا تطوف به كما يُطَاف حول عرشي ، وتصلِّي عنده كما يصلى عند عرشي ، فانطلق إليه آدم ، فخرج ومُدَّ له في خطوه ، فكان بين كل خطوتين مفازة . فلم تزل تلك المفازة{[2751]} بعد ذلك . فأتى آدم البيت فطاف به ، ومَن بعده من الأنبياء{[2752]} .
وقال ابن جرير : حدثنا ابن حميد{[2753]} حدثنا يعقوب القُمِّي ، عن حفص بن حميد ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : وضع الله البيت على أركان الماء ، على أربعة أركان ، قبل أن تُخْلَق الدنيا بألفي عام ، ثم دحِيت الأرض من تحت البيت .
وقال محمد بن إسحاق : حدثني [ عبد الله ]{[2754]} بن أبي نَجِيح ، عن مجاهد وغيره من أهل العلم : أن الله لما بَوَّأ إبراهيم مكان البيت خرج إليه من الشام ، وخرج معه بإسماعيل وبأمه هاجر ، وإسماعيل طفل صغير يرضع ، وحمُلوا - فيما حدثني - على البُرَاق ، ومعه جبريل يَدُلّه على موضع البيت ومعالم الحَرم . وخرج معه جبريل ، فكان لا يمر بقرية إلا قال : أبهذه أمرت يا جبريل ؟ فيقول جبريل : امضِه . حتى قدم به مكة ، وهي إذ ذاك عضَاة سَلَم وَسَمُر ، وبها أناس يقال لهم : " العماليق " خارج مكة وما حولها . والبيت يومئذ ربوة حمراء مَدِرَة ، فقال إبراهيم لجبريل : أهاهنا أمرت أن أضعهما ؟ قال : نعم . فعمد بهما إلى موضع الحجر فأنزلهما فيه ، وأمر هاجَرَ أمَّ إسماعيل أن تتخذ فيه عَريشًا ، فقال : { رَبَّنَا{[2755]} إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ } إلى قوله : { لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ } [ إبراهيم : 37 ] .
وقال عبد الرزاق : أخبرنا هشام بن حَسَّان ، أخبرني حُمَيد ، عن مجاهد ، قال : خلق الله موضعَ هذا البيت قبلَ أن يخلق شيئًا بألفي سنة ، وأركانه في الأرض السابعة{[2756]} .
وكذا قال ليث بن أبي سليم ، عن مجاهد : القواعد في الأرض السابعة .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عَمْرو بن رافع ، أخبرنا {[2757]} عبد الوهاب بن معاوية ، عن عبد المؤمن بن خالد ، عن علياء بن أحمر : أن ذا القرنين قدم مكة فوجد إبراهيم وإسماعيل يبنيان قواعدَ البيت من خمسة أجبل . فقال : ما لكما ولأرضي ؟ فقال{[2758]} نحن عبدان مأموران ، أمرنا ببناء هذه الكعبة . قال : فهاتا بالبينة على ما تدعيان . فقامت خمسة أكبش ، فقلن : نحن نشهد أن إبراهيم وإسماعيل عبدان مأموران ، أمرا ببناء هذه الكعبة . فقال : قد رضيت وسلمت . ثم مضى .
وذَكَرَ الأزْرَقي في تاريخ مكة أن ذا القرنين طاف مع إبراهيم ، عليه السلام ، بالبيت ، وهذا يدل على تقدم زمانه{[2759]} ، والله أعلم .
وقال البخاري ، رحمه الله : قوله تعالى : { وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ } الآية : القواعد : أساسه واحدها قاعدة . والقواعد من النساء : واحدتها قاعدُ .
حدثنا إسماعيل ، حدثني مالك ، عن ابن شهاب ، عن سالم بن عبد الله : أن عبد الله بن محمد بن أبي بكر أخبر عبد الله بن عُمَر ، عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ألم تَرَيْ أن قومك حين بنوا البيت {[2760]} اقتصروا عن قواعد إبراهيم ؟ " فقلت : يا رسول الله ، ألا تَرُدَّها على قواعد إبراهيم ؟ قال : " لولا حِدْثان قومك بالكفر " . فقال عبد الله بن عمر : لئن كانت عائشة سَمعت هذا{[2761]} من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أرى رسُولَ الله صلى الله عليه وسلم ترك استلام الرُّكنين اللذَين يَلِيان الحِجْر إلا أن البيت لم يُتَمَّم على قواعد إبراهيم ، عليه السلام{[2762]} .
وقد رواه في الحج عن القَعْنَبي ، وفي أحاديث الأنبياء عن عبد الله بن يوسف . ومسلم عن يحيى بن يحيى ، ومن حديث ابن وهب . والنسائي من حديث عبد الرحمن بن القاسم ، كلهم عن مالك به{[2763]} .
ورواه مسلم أيضًا من حديث نافع ، قال : سمعت عبد الله بن أبي بكر بن أبي قُحَافة يحدث عبدَ الله بن عُمَر ، عن عائشة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية - أو قال : بكفر - لأنفقت كنز الكعبة في سبيل الله ، ولجعلت بابها بالأرض ، ولأدخلت فيها الحجر " {[2764]} .
وقال البخاري : حدثنا عُبَيد الله بن موسى ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن الأسود ، قال : قال لي ابنُ الزبير : كانت عائشة تُسر إليك حديثًا كثيرًا ، فما حدثتك في الكعبة ؟ قال قلت : قالت لي : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " يا عائشة ، لولا قومك حديث عهدهم - فقال ابن الزبير : بكفر - لنقضت الكعبة ، فجعلت لها بابين : بابًا يدخل منه الناس ، وبابًا يخرجون " . ففعله ابن الزبير .
انفرد بإخراجه البخاري ، فرواه هكذا في كتاب العلم من صحيحه{[2765]} .
وقال مسلم في صحيحه : حدثنا يحيى بن يحيى ، أخبرنا أبو معاوية ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة قالت : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لولا حَدَاثة عهد قومك بالكفر لنقضت الكعبة ولجعلتها على أساس إبراهيم ، فإن قريشا حين بنت البيت{[2766]} استقصرت ، ولجعلت لها خَلْفًا " .
قال : وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وأبو كُرَيب ، قالا حدثنا ابن نُمَير ، عن هشام بهذا الإسناد . انفرد به مسلم{[2767]} ، قال : وحدثني محمد بن حاتم ، حدثني ابن مهدي ، حدثنا سليم بن حَيَّان ، عن سعيد - يعني ابن ميناء - قال : سمعت عبد الله بن الزبير يقول : حدثتني خالتي - يعني عائشة رضي الله عنها - قالت : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " يا عائشة ، لولا قومك حديث عَهْد {[2768]} بشرك ، لهدمت الكعبة ، فألزقتها بالأرض ، ولجعلت لها بابين : بابًا شرقيًّا ، وبابًا غربيًّا ، وزدتُ فيها ستة أذرع من الحِجْر ؛ فإن قريشًا اقتصرتها حيث بنت الكعبة " انفرد به أيضًا{[2769]} . ذكر بناء قريش الكعبة بعد إبراهيم الخليل ، عليه السلام ، بمدد{[2770]} طويلة
وقبل مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس سنين
وقد نقل معهم في الحجارة ، وله من العمر خمس وثلاثون سنة
صلوات الله وسلامه عليه دائمًا إلى يوم الدين
قال محمد بن إسحاق بن يسار ، في السيرة :
ولما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسًا وثلاثين سنة ، اجتمعت قريش لبنيان الكعبة ، وكانوا يَهُمُّون بذلك{[2771]} ليسقفوها ، ويهابون هَدْمها ، وإنما كانت رَضما فوق القامة ، فأرادوا رفعها وتسقيفها ، وذلك أن نفرًا سرقوا كنز الكعبة ، وإنما كان يكون في بئر في جَوْف الكعبة ، وكان الذي وُجد عنده الكنز دويك ، مولى بني مُلَيح بن عمرو من خزاعة ، فقطعت قريش يده . ويزعم الناس أن الذين سرقوه وضعوه عند دويك . وكان البحر قد رَمى بسفينة إلى جُدَّة ، لرجل من تجار الروم ، فتحطمت ، فأخذوا خشبها فأعدُّوه لتسقيفها . وكان بمكة رجل قبطي نجار ، فهيأ لهم ، في أنفسهم بعض ما يصلحها ، وكانت حية تخرج من بئر الكعبة التي كانت تَطْرَحُ ، فيها ما يُهْدَى لها كل يوم ، فَتَتشرق{[2772]} على جدار الكعبة ، وكانت مما يهابون . وذلك أنه كان لا يدنو منها أحد إلا احزَألَّت وكشت وفتحت فاها ، فكانوا يهابونها ، فبينا هي يوما تَتَشرَّق على جدار الكعبة ، كما كانت تصنع ، بعث الله إليها طائرًا فاختطفها ، فذهب بها . فقالت قريش : إنا لنرجو أن يكون الله قد رَضي ما أردنا ، عندنا عامل رفيق ، وعندنا خشب ، وقد كفانا الله الحية .
فلما أجمعوا أمرهم في هدمها وبنيانها ، قام أبو وهب بن عَمْرو بن عائذ بن عبد بن عمران بن مخزوم ، فتناول من الكعبة حجرًا ، فوثب من يده حتى رجع إلى موضعه . فقال : يا معشر قريش ، لا تُدخلوا في بنيانها من كسبكم إلا طيبًا ، لا يدخل فيها مهر بَغِي ولا بيع ربا ، ولا مظلمة أحد من الناس .
قال ابن إسحاق : والناس ينحلون هذا الكلام الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عُمَر{[2773]} بن مَخزُوم{[2774]} .
قال : ثم إن قريشا تَجَزأت الكعبة ، فكان شق الباب لبني عبد مناف وزهرة ، وكان ما بين الركن الأسود والركن اليماني لبني مخزوم وقبائل من قريش انضموا إليهم ، وكان ظهر الكعبة لبني جُمَح وسهم ، وكان شق الحجر لبني عبد الدار بن قُصي ، ولبني أسد بن عبد العزى بن قُصي ، ولبني عدي بن كعب بن لؤي ، وهو الحَطيم .
ثم إن الناس هابوا هَدْمها وفَرقُوا{[2775]} منه ، فقال الوليد بن المغيرة : أنا أبدؤكم في هَدْمها : فأخذ المعْولَ ثم قام عليها وهو يقول : اللهم لم تَرعْ ، اللهم إنا لا نريد إلا الخير . ثم هدم من ناحية الركنين ، فتربص الناس تلك الليلة ، وقالوا : ننظر ، فإن أصيب لم نهدم منها شيئًا ، ورددناها كما كانت ، وإن لم يصبه شيء فقد رضي الله ما صنعنا . فأصبح الوليد من ليلته غاديًا على عَمَله ، فهدم وهدم الناس معه ، حتى إذا انتهى الهدم [ بهم ] {[2776]}إلى الأساس ، أساس إبراهيم ، عليه السلام ، أفضوا إلى حجارة خضر كالأسنة آخذ بعضها بعضًا{[2777]} .
قال [ محمد بن إسحاق ]{[2778]} فحدثني بعض من يروي الحديث : أن رجلا من قريش ، ممن كان يهدمها ، أدخل عَتَلة بين حجرين منها ليقلع بها أحدهما ، فلما تحرك الحجر تنقضت مكة بأسرها ، فانتهوا عن ذلك الأساس{[2779]} .
قال ابن إسحاق : ثم إن القبائل من قريش جَمَعت الحجارة لبنائها ، كل قبيلة تجمع على حدة ، ثم بنوها ، حتى بلغ البنيان موضع الركن - يعني الحجر الأسود - فاختصموا فيه ، كل قبيلة تريد أن ترفعه إلى موضعه دون الأخرى ، حتى تحاوروا وتخالفوا ، وأعدوا للقتال . فقربت بنو عبد الدار جفنة مملوءة دما ، ثم تعاقدوا هم وبنو عدي بن كعب بن لؤي على الموت ، وأدخلوا أيديهم في ذلك الدم في تلك الجفنة ، فسموا : لعَقَة الدم . فمكثت قريش على ذلك أربع ليال أو خمسًا . ثم إنهم اجتمعوا في المسجد فتشاوروا وتناصفوا .
فزعم بعض أهل الرواية : أن أبا أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عُمَر بن مخزوم - وكان عامئذ أسن قريش كلهم - قال{[2780]} : يا معشر قريش ، اجعلوا بينكم فيما تختلفون فيه أول من يدخل من باب هذا المسجد ، يقضي بينكم ، فيه . ففعلوا ، فكان أول داخل رسول الله صلى الله عليه وسلم . فلما رأوه قالوا : هذا الأمين رضينا ، هذا محمد ، فلما انتهى إليهم وأخبروه الخبر ، قال [ رسول الله ]{[2781]} صلى الله عليه وسلم : " هَلُمَّ إليَّ ثوبًا " فأتي به ، فأخذ الركن - يعني الحجر الأسود - فوضعه فيه بيده ، ثم قال : " لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب " ، ثم [ قال ]{[2782]} : " ارفعوه جميعا " . ففعلوا ، حتى إذا بلغوا به موضعه ، وضعه هو بيده صلى الله عليه وسلم ، ثم بنى عليه .
وكانت قريش تسمي رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن ينزل عليه الوحي : الأمين . فلما فرغوا من البنيان وبنوها على ما أرادوا ، قال الزبير بن عبد المطلب ، فيما كان من أمر الحية التي كانت قريش تهاب بنيان الكعبة لها :
عجبت لَمَا تصوبت{[2783]} العُقَاب *** إلى الثعبان وهي لها اضطراب
وقد كانت يكون لها كشيش *** وأحيانًا يكون لها وثَاب
إذا قمنا إلى التأسيس شَدَّت *** تُهَيّبُنُا البناءَ وقد تُهَابُ
فلما أن خَشِينا الزَّجْرَ جاءت *** عقاب تَتْلَئِبُّ لها انصباب
فضمتها إليها ثم خَلَّت *** لنا البنيانَ ليس له حجاب
فَقُمْنَا حاشدين إلى بناء *** لنا منه القواعدُ والتراب
غداة نُرَفِّع التأسيس منه *** وليس على مُسَوِّينا ثياب
أعَزّ به المليكُ بني لُؤي *** فليسَ لأصله منْهُم ذَهاب
وقد حَشَدَتْ هُنَاك بنو عَديّ *** ومُرَّة قد تَقَدَّمَها كلاب
فَبَوَّأنا المليك بذاكَ عزّا *** وعند الله يُلْتَمَسُ الثواب
قال ابن إسحاق : وكانت الكعبة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ثمانية عشر ذراعًا ، وكانت تكسى القباطي ، ثم كُسِيت بعدُ البُرود ، وأول من كساها الديباج الحجاج بن يوسف .
قلت : ولم تزل على بناء قريش حتى أحرقت{[2784]} في أول إمارة عبد الله بن الزبير بعد سنة ستين . وفي آخر ولاية يزيد بن معاوية ، لما حاصروا ابن الزبير ، فحينئذ نقضها ابن الزبير إلى الأرض وبناها على قواعد إبراهيم ، عليه السلام ، وأدخل فيها الحجر وجعل لها بابًا شرقيًّا وبابًا غربيًّا ملصقين بالأرض ، كما سمع ذلك من خالته عائشة أم المؤمنين ، رضي الله عنها ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . ولم تزل كذلك مُدَّة إمارته حتى قتله الحجاج ، فردها إلى ما كانت عليه بأمر عبد الملك بن مَرْوان له بذلك ، كما قال مسلم بن الحجاج في صحيحه :
حدثنا هَنَّاد بن السَّري ، حدثنا ابن أبي زائدة ، أخبرنا ابن أبي سليمان ، عن عطاء ، قال : لما احترق البيت زَمَنَ يزيد بن معاوية حين غزاها أهل الشام ، وكان من أمره ما كان ، تركه ابن الزبير حتى قدم الناس الموسمَ يريد أن يُجَرِّئَهم - أو يُحزبهم - على أهل الشام ، فلما صدر الناس قال : يا أيها الناس ، أشيروا عليَّ في الكعبة ، أنقضها ثم أبني بناءها أو أصلح ما وَهَى منها ؟ قال ابن عباس : فإني{[2785]} قد فَرِقَ لي رأي فيها ، أرى أن تُصْلِحَ ما وَهى منها ، وتدع بيتًا أسلم الناس عليه{[2786]} وأحجارًا أسلم الناس عليها ، وبعث عليها النبي صلى الله عليه وسلم . فقال ابن الزبير : لو كان أحدهم احترق بيته ما رضي حتى يجدده ، فكيف بيت ربكم ، عز وجل ؛ إني مستخير ربي ثلاثًا ثم عازم على أمري . فلما مضَت ثلاث أجمع رأيه على أن ينقضها . فتحاماها الناسُ أن ينزل بأول الناس يصعد فيه أمْر من السماء ، حتى صعده رجل ، فألقى منه حجارة ، فلما لم يَره الناس أصابه شيء تتابعوا ، فنقضوه حتى بلغوا به الأرض . فجعل ابن الزبير أعمدة يستر{[2787]} عليها الستور ، حتى ارتفع بناؤه . وقال ابن الزبير : إني سمعت عائشة ، رضي الله عنها ، تقول : إن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : " لولا أن الناس حديث عهدُهم بكفر ، وليس عندي من النفقة ما يُقَوِّيني على بنائه ، لكنت أدخلت فيه من الحجر خمسة أذرع ، ولجعلت له بابًا يدخل الناس منه ، وبابًا يخرجون منه{[2788]} . قال : فأنا أجد ما أنفق ، ولست أخاف الناس . قال : فزاد فيه خمسة{[2789]} أذرع من الحجر ، حتى أبدى له أسا{[2790]} نَظَر الناس إليه فبنى عليه البناء . وكان طول الكعبة ثمانية عشر ذراعًا ، فلما زاد فيه استقصره فزاد في طوله عشرة{[2791]} أذرع ، وجعل له بابين : أحدهما يدخل منه ، والآخر يخرج منه . فلما قُتِل ابنُ الزبير كتب الحجَّاج إلى عبد الملك يخبره بذلك ، ويخبره أن ابن الزبير قد وضع البناء على أس نظر إليه العدول من أهل مكة ، فكتب إليه عبد الملك : إنا لسنا من تلطيخ ابن الزبير في شيء ، أما ما زاده في طوله فأقره . وأما ما زاد فيه من الحجر فرده إلى بنائه ، وسد الباب الذي فتحه . فنقضه وأعاده إلى بنائه{[2792]} .
وقد رواه النسائي في سننه ، عن هناد ، عن يحيى بن أبي زائدة ، عن عبد الملك بن أبي سليمان ، عن عطاء ، عن ابن الزبير ، عن عائشة بالمرفوع منه{[2793]} . ولم يذكر القصة ، وقد كانَت السنة إقرار ما فعله عبد الله بن الزبير ، رضي الله عنه ؛ لأنه هو الذي وَدَّه رسول الله صلى الله عليه وسلم . ولكن خشي أن تنكره
قلوب بعض الناس لحداثة عهدهم بالإسلام وقربِ عهدهم من الكفر . ولكن خفيت هذه السُّنةُ على عبد الملك ؛ ولهذا{[2794]} لما تحقق ذلك عن عائشة أنها روت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : وددنا أنا تركناه وما تولى . كما قال مسلم :
حدثني محمد بن حاتم{[2795]} حدثنا محمد بن بكر{[2796]} أخبرنا ابن جُرَيج ، سمعت عبد الله بن عُبَيد بن عمير والوليد بن عطاء ، يحدثان عن الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة ، قال عبد الله بن عبيد : وَفَدَ الحارث بن عبد الله على عبد الملك بن مروان في خلافته ، فقال عبد الملك : ما أظن أبا خُبَيبٍ - يعني ابن الزبير - سمع من عائشة ما كان يزعم أنه سمعه منها . قال الحارث : بلى ، أنا سمعته منها . قال : سمعتها تقول ماذا ؟ قال : قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن قومك استقصروا من بنيان البيت ، ولولا حداثة عهدهم بالشرك أعدت ما تركوا منه ، فإن بدا لقومك من بعدي أن يبنوه فَهَلُمِّي لأريك ما تركوا منه " . فأراها قريبًا من سبعة{[2797]} أذرع{[2798]} .
هذا حديث عبد الله بن عُبيد [ بن عمير ]{[2799]} . وزاد عليه الوليد بن عطاء : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " ولجعلت لها بابين موضوعين في الأرض شرقيًّا وغربيًّا ، وهل تدرين لم كان قومك رفعوا بابها ؟ " قالت : قلت : لا . قال : " تَعَزُّزًا ألا يدخلها إلا من أرادوا . فكان الرجل إذا هو أراد أن يدخلها ، يَدَعونه حتى {[2800]} يرتقي ، حتى إذا كاد أن يدخل دفعوه فسقط " قال عبد الملك : فقلت للحارث : أنت سمعتها تقول هذا ؟ قال : نعم . قال : فَنَكَتَ ساعة بعصاه ، ثم قال : وَدِدْتُ أني تركت وما تَحَمَّل .
قال مسلم : وحدثناه محمد بن عمرو بن جبلة ، حدثنا أبو عاصم( ح ) وحدثنا عَبْدُ بن حُمَيْد ، أخبرنا عبد الرزاق ، كلاهما عن ابن جُرَيج بهذا الإسناد ، مثلَ حديث ابن{[2801]} بكر{[2802]} .
قال : وحدثني محمد بن حاتم ، حدثنا عبد الله بن بكر السهمي ، حدثنا حاتم بن أبي صَغيرة ، عن أبي قَزَعَة أنَّ عبد الملك بن مروان بينما هو يطوف بالبيت إذ قال : قاتل الله ابن الزبير حيث يكذب على أمِّ المؤمنين ، يقول : سمعتها تقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا عائشة ، لولا حِدْثان قومك بالكفر لنقضت البيت حتى أزيد فيها{[2803]} من الحجر ، فإنَّ قومك قصروا في البناء " . فقال الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة : لا تقل هذا يا أمير المؤمنين ، فأنا سمعت أم المؤمنين تحدث هذا . قال : لو كنتُ سمعته قبل أن أهدمَه لتركته على ما بنى ابن الزبير{[2804]} .
فهذا الحديث كالمقطوع به إلى عائشة أم المؤمنين ، لأنه قد رُوي عنها من طرق صحيحة متعددة عن الأسود بن يزيد ، والحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة ، وعبد الله بن الزبير ، وعبد الله بن محمد بن أبي بكر الصديق ، وعروة بن الزبير . فدل هذا على صواب ما فعله ابن الزبير . فلو ترك لكان جيدًا .
ولكن بعد ما رجع الأمر إلى هذا الحال ، فقد كَرِه بعض العلماء أن يغير عن حاله ، كما ذكر عن أمير المؤمنين هارون الرشيد - أو أبيه المهدي - أنه سأل الإمام مالكًا عن هدم الكعبة وردِّها إلى ما فعله ابن الزبير . فقال له مالك : يا أمير المؤمنين ، لا تجعل كعبة الله مَلْعَبَة للملوك ، لا يشاء أحد{[2805]} أن يهدمها إلا هدمها . فترك ذلك الرشيد .
نقله عياض والنواوي ، ولا تزال - والله أعلم - هكذا إلى آخر الزمان ، إلى أن يخرِّبَها ذو السويقتين من الحبشة ، كما ثبت ذلك في الصحيحين عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يخرب الكعبة ذو السُّوَيقتين من الحبشة " . أخرجاه{[2806]} .
وعن عبد الله بن عباس ، رضي الله عنهما ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : " كأني به أسودَ أفحَجَ ، يقلعها حجرًا حجرًا " . رواه البخاري{[2807]} .
وقال الإمام أحمد بن حنبل في مسنده : حدثنا أحمد بن عبد الملك الحَرَّاني ، حدثنا محمد بن سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن بن أبي نجيح ، عن مجاهد ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، رضي الله عنهما{[2808]} قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " يُخَرِّب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة ، ويسلبها حلْيتها{[2809]} ويجردها من كسوتها . ولكأني أنظر إليه أصيلع أفَيْدعَ يضرب عليها بِمِسْحَاته ومِعْوله " {[2810]} .
الفَدَع : زيغ بين القدم وعظم الساق .
وهذا - والله أعلم - إنما يكون بعد خروج يأجوج ومأجوج ، لما جاء في صحيح{[2811]} البخاري عن أبي سعيد الخدري ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ليُحَجَّنَّ البيتُ وليُعْتَمَرَنَّ بعد خروج يأجوج ومأجوج " {[2812]} .
{ وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت } حكاية حال ماضية ، و{ القواعد } جمع قاعدة وهي الأساس صفة غالبة من القعود ، بمعنى الثبات ، ولعله مجاز من المقابل للقيام ، ومنه قعدك الله ، ورفعها البناء عليها فإنه ينقلها عن هيئة الانخفاض إلى هيئة الارتفاع ، ويحتمل أن يراد بها سافات البناء فإن كل ساف قاعدة ما يوضع فوقه ويرفعها بناؤها . وقيل المراد رفع مكانته وإظهار شرفه بتعظيمه ، ودعاء الناس إلى حجه ، وفي إبهام القواعد وتبيينها تفخيم لشأنها . { وإسماعيل } كان يتناوله الحجارة ، ولكنه لما كان له مدخل في البناء عطف عليه . وقيل : كانا يبنيان في طرفين ، أو على التناوب . { ربنا تقبل منا } أي يقولان ربنا تقبل منا ، وقد قرئ به والجملة حال منهما . { إنك أنت السميع } لدعائنا { العليم } بنياتنا .
{ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ }( 127 )
المعنى واذكر إذ ، و { القواعد } جمع قاعدة وهي الأساس ، وقال الفراء : «هي الجدر » .
قال القاضي أبو محمد : وفي هذا تجوز( {[1255]} ) ، والقواعد من النساء جمع قاعد وهي التي قعدت عن الولد وحذفت تاء التأنيث لأنه لا دخول للمذكر فيه ، هذا قول بعض النحاة ، وقد شذ حذفها مع اشتراك المذكر بقولهم ناقة ضامر( {[1256]} ) ، ومذهب الخليل أنه متى حذفت تاء التأنيث زال الجري على الفعل وكان ذلك على النسب .
و { البيت } هنا الكعبة بإجماع ، واختلف بعد( {[1257]} ) رواة القصص : فقيل إن آدم أمر ببنائه ، فبناه ، ثم دثر ودرس حتى دل عليه إبراهيم فرفع قواعده ، وقيل : إن آدم هبط به من الجنة ، وقيل : إنه لما استوحش في الأرض حين نقص طوله وفقد أصوات الملائكة أهبط إليه وهو كالدرة ، وقيل : كالياقوتة ، وقيل : إن البيت كان ربوة حمراء ، وقيل بيضاء ، ومن تحته دحيت الأرض ، وإن إبراهيم ابتدأ بناءه بأمر الله ورفع قواعده .
و الذي يصح من هذا كله أن الله أمر إبراهيم برفع قواعد البيت( {[1258]} ) ، وجائز ِقدمه وجائز أن يكون ذلك ابتداء ، ولا يرجح شيء من ذلك إلا بسند يقطع العذر ، وقال عبيد بن عمير( {[1259]} ) : رفعها إبراهيم وإسماعيل معاً ، وقال ابن عباس : رفعها إبراهيم ، وإسماعيل يناوله الحجارة ، وقال علي بن أبي طالب : رفعها إبراهيم ، وإسماعيل طفل صغير .
قال القاضي أبو محمد : ولا يصح هذا عن علي رضي الله عنه ، لأن الآية والآثار تردهُ ، { وإسماعيل } عطف على { إبراهيم } ، وقيل هو مقطوع على الابتداء وخبره فيما بعد ، قال الماوردي : { إسماعيل } أصله اسمع يا إيل .
قال القاضي أبو محمد وهذا ضعيف ، وتقدير الكلام : يقولان ربنا تقبل ، وهي في قراءة أبي بن كعب وعبد الله بن مسعود كذلك بثبوت «يقولان » ، وقالت فرقة : التقدير وإسماعيل يقول ربنا ، وحذف لدلالة الظاهر عليه ، وكل هذا يدل على أن إسماعيل لم يكن طفلاً في ذلك الوقت ، وخصّا هاتين الصفتين لتناسبهما مع حالهما ، أي { السميع } لدعائنا و { العليم } بنياتنا .