قوله تعالى : { أم خلقوا من غير شيء } قال ابن عباس : من غير رب ، ومعناه : أخلقوا من غير شيء خلقهم فوجدوا بلا خالق ؟ وذلك مما لا يجوز أن يكون ، لأن تعلق الخلق بالخالق من ضرورة الاسم ، فلا بد له من خالق ، فإن أنكروا الخالق لم يجز أن يوجدوا بلا خالق ، { أم هم الخالقون } لأنفسهم وذلك في البطلان أشد ، لأن ما لا وجود له كيف يخلق ؟ فإذا بطل الوجهان قامت الحجة عليهم بأن لهم خالقاً فليؤمنوا به ، ذكر هذا المعنى أبو سليمان الخطابي . وقال الزجاج : معناه : أخلقوا باطلاً لا يحاسبون ولا يؤمرون ؟ وقال ابن كيسان : أخلقوا عبثاً وتركوا سدىً لا يؤمرون ولا ينهون ، فهو كقول القائل : فعلت كذا وكذا من غير شيء ، أي : لغير شيء ، أم هم الخالقون لأنفسهم فلا يجب عليهم لله أمر ؟
{ أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ } وهذا استدلال عليهم ، بأمر لا يمكنهم فيه إلا التسليم للحق ، أو الخروج عن موجب العقل والدين ، وبيان ذلك : أنهم منكرون لتوحيد الله ، مكذبون لرسوله ، وذلك مستلزم لإنكار أن الله خلقهم .
وقد تقرر في العقل مع الشرع ، أن الأمر لا يخلو من أحد ثلاثة أمور :
إما أنهم خلقوا من غير شيء أي : لا خالق خلقهم ، بل وجدوا من غير إيجاد ولا موجد ، وهذا عين المحال .
أم هم الخالقون لأنفسهم ، وهذا أيضا محال ، فإنه لا يتصور أن يوجدوا أنفسهم{[885]}
فإذا بطل [ هذان ] الأمران ، وبان استحالتهما ، تعين [ القسم الثالث ] أن الله الذي خلقهم ، وإذا تعين ذلك ، علم أن الله تعالى هو المعبود وحده ، الذي لا تنبغي العبادة ولا تصلح إلا له تعالى .
والاستفهام التالي عن حقيقة وجودهم ، هم أنفسهم ، وهي حقيقة قائمة لا مفر لهم من مواجهتها ، ولا سبيل لهم إلى تفسيرها بغير ما يقوله القرآن فيها ، من أن لهم خالقا أوجدهم هو الله سبحانه . وهو موجود بذاته . وهم مخلوقون .
( أم خلقوا من غير شيء ? أم هم الخالقون ? ) . .
ووجودهم هكذا من غير شيء أمر ينكره منطق الفطرة ابتداء ؛ ولا يحتاج إلى جدل كثير أو قليل . أما أن يكونوا هم الخالقين لأنفسهم فأمر لم يدعوه ولا يدعيه مخلوق . وإذا كان هذان الفرضان لا يقومان بحكم منطق الفطرة ، فإنه لا يبقى إلا الحقيقة التي يقولها القرآن . وهي أنهم جميعا من خلق الله الواحد الذي لا يشاركه أحد في الخلق والإنشاء ؛ فلا يجوز أن يشاركه أحد في الربوبية والعبادة . . وهو منطق واضح بسيط .
هذا المقام في إثبات الربوبية وتوحيد الألوهية ، فقال تعالى : { أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ } أي : أوجدوا من غير موجد ؟ أم هم أوجدوا أنفسهم ؟ أي : لا هذا ولا هذا ، بل الله هو الذي خلقهم وأنشأهم بعد أن لم يكونوا شيئا مذكورا .
قال البخاري : حدثنا الحُمَيديّ ، حدثنا سفيان قال : حدثوني عن الزهري ، عن محمد بن جبير ابن مطعم ، عن أبيه قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور ، فلما بلغ هذه الآية : { أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ . أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ بَل لا يُوقِنُونَ . أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُسَيْطِرُونَ } كاد قلبي أن يطير {[27522]} .
وهذا الحديث مخرج في الصحيحين من طرق ، عن الزهري ، به {[27523]} . وجبير بن مطعم كان قد قدم على النبي صلى الله عليه وسلم بعد وقعة بدر في فداء الأسارى ، وكان إذ ذاك مشركا ، وكان سماعه هذه الآية من هذه السورة من جملة ما حمله على الدخول في الإسلام بعد ذلك .
وقوله تعالى : { أم خلقوا من غير شيء } قال الطبري معناه : أم خلقوا خلق الجماد من غير حي{[10657]} فهم لا يؤمرون ولا ينهون كما هي الجمادات عليه . وقال آخرون معناه : خلقوا لغير علة ولا لغير عقاب ولا ثواب . فهم لذلك لا يسمعون ولا يتشرعون . وهذا كما تقول : فعلت كذا وكذا من غير علة ، أي لغير علة . ثم وقفهم على جهة التوبيخ على أنفسهم : أهم الذين خلقوا الأشياء ؟ فهم لذلك يتكبرون .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.