{ أن لا يدخلنها اليوم عليكم مسكين . وغدوا على حرد } الحرد في اللغة يكون بمعنى القصد والمنع والغضب ، قال الحسن ، وقتادة ، وأبو العالية : على جد وجهد . وقال القرظي ، ومجاهد ، وعكرمة ، على أمر مجتمع عليه قد أسسوه بينهم . وهذا على معنى القصد لأن القاصد إلى الشيء جاد مجمع على الأمر . وقال أبو عبيدة والقتيبي : غدوا وبيتهم على منع المساكين ، يقال : حاردت السنة ، إذا لم يكن لها مطر ، وحاردت الناقة إذا لم يكن لها لبن . وقال الشعبي وسفيان : على حنق وغضب من المساكين . وعن ابن عباس قال : على قدرة ، { قادرين } عند أنفسهم على جنتهم وثمارها ، لا يحول بينها وبينهم أحد .
يقول تعالى ذكره : فتنادى هؤلاء القوم وهم أصحاب الجنة . يقول : نادى بعضهم بعضا مصبحين يقول : بعد أن أصبحوا أن اغْدُوا على حَرْثِكُمْ وذلك الزرع إنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ يقول : إن كنتم حاصدي زرعكم فانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ يقول : فمضَوا إلى حرثهم وهم يتسارّون بينهم أنْ لا يَدْخُلَنّها اليَوْمَ علَيْكُمْ مِسْكِين يقول : وهم يتسارّون يقول بعضهم لبعض : لا يدخلنّ جنتكم اليوم عليكم مسكين ، كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ أن اغْدُوا على حَرْثِكُمْ إنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ فانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ يقول : يُسِرّون أن لا يَدْخُلَنّها اليَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة قال : لما مات أبوهم غدوا عليها ، فقالوا : لا يَدْخُلَنّها اليَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ .
واختلف أهل التأويل في معنى الحرْد في هذا الموضع ، فقال بعضهم : معناه : على قُدْرة في أنفسهم وجدّ . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ عن ابن عباس ، قوله : وَغَدَوْا على حَرْدٍ قادِرِينَ قال : ذوي قدرة .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا حجاج عمن حدثه ، عن مجاهد في قول الله : على حَرْدٍ قادِرِينَ قال : على جدّ قادرين في أنفسهم .
قال : ثنا ابن عُلَية ، عن أبي رجاء ، عن الحسن ، في قوله : وَغَدَوْا على حَرْدٍ قادِرِينَ قال : على جهد ، أو قال على جِدّ .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَغَدَوْا على حَرْدٍ قادِرِينَ غدا القوم وهي مُحْردون إلى جنتهم ، قادرون عليها في أنفسهم .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة وَغَدَوْا على حَرْدٍ قادِرِينَ قال : على جِدّ من أمرهم .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : على حَرْدٍ قادِرِينَ على جِدّ قادرين في أنفسهم .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : وغدوا على أمرهم قد أجمعوا عليه بينهم ، واستسرّوه ، وأسرّوه في أنفسهم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن إبراهيم بن المهاجر ، عن مجاهد وَغَدَوا على حَرْدٍ قادِرِينَ قال : كان حرث لأبيهم ، وكانوا إخوة ، فقالوا : لا نطعم مسكينا منه حتى نعلم ما يخرج منه وَغَدَوْا على حَرْدٍ قادِرِينَ على أمر قد أسسوه بينهم .
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله على حَرْدٍ قال : على أمر مجمع .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا أبو الأحوص ، عن سماك ، عن عكرِمة وَغَدَوْا على حَرْدٍ قادِرِينَ قال : على أمر مُجْمَع .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : وغدوا على فاقة وحاجة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، قال : قال الحسن ، في قوله : وَغَدَوْا على حَرْدٍ قادِرِينَ قال : على فاقة .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : على حنق . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان وَغَدَوْا على حَرْدٍ قادرينَ قال : على حنق ، وكأن سفيان ذهب في تأويله هذا إلى مثل قول الأشهب بن رُميلة :
أُسُودُ شَرًى لاقَتْ أُسُودَ خفِيّةٍتَساقَوْا على حَرْدٍ دِماءَ الأساوِدِ
يعني : على غضب . وكان بعض أهل المعرفة بكلام العرب من أهل البصرة يتأوّل ذلك : وغدوا على منع . ويوجهه إلى أنه مِن قولهم : حاردَتِ السنة إذا لم يكن فيها مطر ، وحاردت الناقة إذا لم يكن لها لبن ، كما قال الشاعر :
شع فإذا ما حارَدَتْ أوْ بَكأَتْ
فُتّ عَنْ حاجِب أُخْرَى طِينُها
وهذا قول لا نعلم له قائلاً من متقدّمي العلم قاله وإن كان له وجه ، فإذا كان ذلك كذلك ، وكان غير جائز عندنا أن يتعدّى ما أجمعت عليه الحجة ، فما صحّ من الأقوال في ذلك إلا أحد الأقوال التي ذكرناها عن أهل العلم . وإذا كان ذلك كذلك ، وكان المعروف من معنى الحرد في كلام العرب القصد من قولهم : قد حرد فلان حَرْد فلان : إذا قصد قصده ومنه قول الراجز :
وجاءَ سَيْلٌ كانَ مِنْ أمْرِ اللّهْيَحْرُدُ حَرْدَ الجَنّةِ المُغِلّهْ
يعني : يقصد قصدها ، صحّ أن الذي هو أولى بتأويل الاَية قول من قال : معنى قوله وَغَدَوْا على حَرْدٍ قادرِينَ وَغدوا على أمر قد قصدوه واعتمدوه ، واستسرّوه بينهم ، قادرين عليه في أنفسهم .
وجملة { وغَدوا على حَردٍ قادرين } في موضع الحال بتقدير ( قد ) ، أي انطلقوا في حال كونهم غادين قادرين على حَرد .
وذُكِر فعل { غَدَوا } في جملة الحال لقصد التعجيب من ذلك الغدوِّ النحس كقول امرىء القيس :
وباتَ وباتت له ليلة *** كليلة ذي العائر الأرمد
تَطاول ليلك بالأثمُد *** وباتَ الخَلي ولم تَرْقُد
يخاطب نفسه على طريقة فيها التفات أو التفاتان .
والحرد : يطلق على المنع وعلى القصد القوي ، أي السرعة وعلى الغضب .
وفي إيثار كلمة { حَرْد } في الآية نكتة من نكت الإِعجاز المتعلق بشرف اللفظ ورشاقته من حيث المعنى ، ومن جهة تعلق المجرور به بما يناسب كل معنى من معانيه ، أي بأن يتعلق { على حرد } ب { قادرين } ، أو بقوله { غَدوا ، } فإذا علق ب { قادرين ، } فتقديم المتعلِّق يفيد تخصيصاً ، أي قادرين على المنع ، أي منع الخير أو منع ثمر جنتهم غير قادرين على النفع .
والتعبير بقادرين على حرد دون أن يقول : وغدوا حاردين تهكم لأن شأن فعل القدرة أن يذكر في الأفعال التي يشق على الناس إتيانها قال تعالى : { لا يَقدرون على شيء مما كسبوا } [ البقرة : 264 ] وقال : { بلى قادرين على أن نسوي بنانه } [ القيامة : 4 ] فقوله : { على حرد قادرين } على هذا الاحتمال من باب قولهم : فلان لا يملك إلاّ الحِرمان أو لا يقدر إلاّ على الخيبة .
وإذا حمل الحرد على معنى السرعة والقصد كان { على حرد } متعلقاً ب { غَدَوا } مبيناً لنوع الغُدو ، أي غدوا غدُوَّ سرعة واعتناء ، فتكون { على } بمعنى باء المصاحبة ، والمعنى : غدوا بسرعة ونشاط ، ويكون { قادرين } حالاً من ضمير { غدوا } حالاً مقدَّرة ، أي مقدرين أنهم قادرون على تحقيق ما أرادوا .
وفي الكلام تعريض بأنهم خابوا ، دل عليه قوله بعده { فلما رأوها قالوا إنا لضالون } [ القلم : 26 ] ، وقولُه قبله { فطاف عليها طائف من ربّك وهم نائمون } .
وإذا أريد بالحرد الغضب والحَنق فإنه يقال : حَرَدٌ بالتحريك وحَرْدٌ بسكون الراء ويتعلق المجرور ب { قادرين } وتقديمه للحصر ، أي غدوا لا قدرة لهم إلاّ على الحَنق والغضب على المساكين لأنهم يقتحمون عليهم جنتهم كل يوم فتحيلوا عليهم بالتبكير إلى جذاذها ، أي لم يقدروا إلاّ على الغضب والحنق ولم يقدروا على ما أرادوه من اجتناء ثمر الجنة .
وعن السدي : أن { حَرد } اسم قريتهم ، أي جنتهم . وأحسب أنه تفسير ملفق وكأنَّ صاحبه تصيده من فعلي { اغْدُوا وغَدوا } .