115- فإن اللَّه لم يحرم عليكم إلا أكل الميتة ، والدم الذي ينزل من الحيوان عند ذبحه ، ولحم الخنزير ، وما ذبح لغير اللَّه ، فمن ألجأته ضرورة الجوع إلى تناول شيء مما حرَّمه اللَّه عليكم غير طالب له ، ولا يتجاوز في أكله حد إزالة الضرورة ، فإن اللَّه لا يؤاخذه على ذلك ، ؛ لأنه - سبحانه - غفور لعباده يغفر لهم ما يقعون فيه من أخطاء لا يصرون عليها ، رحيم بهم حين منعهم مما يضرهم ، وأباح لهم ما يحفظ حياتهم .
{ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ } الأشياء المضرة تنزيها لكم ، وذلك : ك { الْمَيْتَةَ } ، ويدخل في ذلك كل ما كان موته على غير ذكاة مشروعة ، ويستثنى من ذلك ميتة الجراد والسمك .
{ والدم } المسفوح ، وأما ما يبقى في العروق واللحم فلا يضر .
{ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ } لقذارته وخبثه ، وذلك شامل للحمه وشحمه وجميع أجزائه . { وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ } ، كالذي يذبح للأصنام والقبور ونحوها ؛ لأنه مقصود به الشرك .
{ فَمَنِ اضْطُرَّ } إلى شيء من المحرمات -بأن حملته الضرورة وخاف إن لم يأكل أن يهلك- فلا جناح عليه إذا لم يكن باغيا أو عاديا ، أي : إذا لم يرد أكل المحرم وهو غير مضطر ، ولا متعد الحلال إلى الحرام ، أو متجاوز لما زاد على قدر الضرورة ، فهذا الذي حرمه الله من المباحات .
ويحدد لهم المحرمات على سبيل الحصر . وليس منها ما يحرمونه على أنفسهم من رزق الله من بحيرة أو سائبة أو وصيلة أوحام :
( إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير ، وما أهل لغير الله به ) . . وهي محرمة إما لأن فيها أذى للجسم والحس كالميتة والدم ولحم الخنزير ، أو أذى للنفس والعقيدة كالذي توجه به ذابحه لغير الله . ( فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن الله غفور رحيم ) فهذا الدين يسر لا عسر . ومن خاف على نفسه الموت أو المرض من الجوع والظمأ فلا عليه أن يتناول من هذه المحرمات قدر ما يدفع الضرر [ على خلاف فقهي ذكرناه من قبل ] غير باغ على مبدأ التحريم ولا متجاوز قدر الضرورة التي أباحت المحظور .
ثم ذكر ما حرمه عليهم مما فيه مضرة لهم في دينهم ودنياهم ، من الميتة والدم ، ولحم الخنزير .
{ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ } ، أي : ذبح على غير اسم الله ، ومع هذا { فَمَنِ اضْطُرَّ } ، أي : احتاج في غير بغي ولا عدوان ، { فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } .
وقد تقدم الكلام على مثل هذه الآية في سورة " البقرة " {[16726]} بما فيه كفاية عن إعادته ، ولله الحمد [ والمنة ]{[16727]} .
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنّمَا حَرّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالْدّمَ وَلَحْمَ الْخَنْزِيرِ وَمَآ أُهِلّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنّ اللّهَ غَفُورٌ رّحِيمٌ } .
يقول تعالى ذكره مكذّبا المشركين الذين كانوا يحرّمون ما ذكرنا من البحائر وغير ذلك : ما حرّم الله عليكم أيها الناس إلا الميتة والدم ولحم الخنزير وما ذبح للأنصاب فسُمّي عليه غير الله ؛ لأن ذلك من ذبائح من لا يحلّ أكل ذبيحته ، فمن اضطرّ إلى ذلك أو إلى شيء منه لمجاعة حلّت فأكله { غيرَ باغٍ وَلا عاد فإنّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } ، يقول : ذو ستر عليه أن يؤاخذه بأكله ذلك في حال الضرورة ، رحيم به أن يعاقبه عليه .
وقد بيّنا اختلاف المختلفين في قوله : { غيرَ باغٍ وَلا عادٍ } ، والصواب عندنا من القول في ذلك بشواهده فيما مضى بما أغنى عن إعادته .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { إنّمَا حَرّمَ عَلَيْكُمْ المَيْتَةَ والدّمَ . . . } الآية ، قال : وإن الإسلام دين يطهره الله من كلّ سوء ، وجعل لك فيه يا ابن آدم سعة إذا اضطررت إلى شيء من ذلك . قوله : { فَمَنِ اضْطُرّ غيرَ باغٍ وَلا عادٍ } ، غير باغ في أكله ولا عاد أن يتعدّى حلالاً إلى حرام ، وهو يجد عنه مندوحة .
حصرت { إنما } هذه المحرمات وقت نزول الآية ، ثم نزلت المحرمات بعد ذلك . وقرأ جمهور الناس : «الميْتة » ، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع : «الميّتة » ، وهذا هو الأصل ، وتخفيف الياء طارىء عليه ، والعامل في نصبها { حرم } ، وقرأت فرقة : «الميتةُ » ، بالرفع على أن تكون { ما } بمعنى الذي .
قال القاضي أبو محمد : وكون { ما } متصلة ب { إن } يضعف هذا ويحكم بأنها حاصرة و { ما } كافة ، وإذا كانت بمعنى الذي فيجب أن تكون منفصلة ، وذلك خلاف خط المصحف ، وقرأ الجمهور : «حرم » ، على معنى حرم الله ، وقرأت فرقة : «حُرِّم » ، على ما لم يسم فاعله ، وهذا برفع «الميتةُ » ولا بد .
قال القاضي أبو محمد : و { الميتة } المحرمة هي ما مات من حيوان البر الذي له نفس سائلة حتف أنفه ، وأما ما ليس له نفس سائلة كالجراد والبراغيث والذباب ودود التين وحيوان الفول ، وما مات من الحوت حتف أنفه وطفا على الماء ، ففيه قولان في المذهب ، وما مات حتف أنفه من الحيوان الذي يعيش في الماء وفي البر كالسلاحف ونحوها ، ففيه قولان ، والمنع هنا أظهر إلا أن يكون الغالب عليه العيش في الماء . { والدم } المحرم هو المنسفح الذي يسيل إن ترك مفرداً ، وأما ما خالط اللحم وسكن فيه فحلال طبخ ذلك اللحم فيه ، ولا يكلف أحد تتبعه ، ودم الحوت مختلف فيه وإن كان ينسفح لو ترك ، { ولحم الخنزير } ، هو معظمه والمقصود الأظهر فيه ، فلذلك خصه بالذكر ، وأجمعت الأمة على تحريم شحمه وغضاريفه ، ومن تخصيصه استدلت فرقة على جواز الانتفاع بجلده إذا دبغ ولبسه ، والأولى تحريمه جملة ، وأما شعره فالانتفاع به مباح ، وقالت فرقة ذلك غير جائز ، والأول أرجح ، وقوله : { وما أهل لغير الله به } ، يريد كل ما نوي بذبحه غير التقرب إلى الله والقرب إلى سواه ، وسواء تكلم بذلك على الذبيحة أو لم يتكلم ، لكن خَرجت العبارة عن ذلك ب { أهلّ } ، ومعناه صحيح على عادة العرب وقصد الغض منها ، وذلك أنها كانت إذا ساقت ذبيحة إلى صنم جهرت باسم ذلك الصنم وصاحت به ، وقوله : { فمن اضطر } ، قالت فرقة : معناه أكره ، وقال الجمهور : معناه اضطره جوع واحتياج ، وقرأت فرقة : «فمنُ » ، بضم النون ، «اضطُر » بضم الطاء ، وقرأت فرقة : «فمنِ » ، بكسر النون ، «اضطِر » بكسر الطاء ، على أن الأصل اضطرت ، فنقلت حركة الراء إلى الطاء وأدغمت الراء في الراء ، وقالت فرقة : «الباغي » : صاحب البغي على الإمام ، أو في قطع الطريق ، وبالجملة في سفر المعاصي ، و «العادي » بمعناه في أنه ينوي المعصية ، وقال الجمهور : { غير باغ } معناه غير مستعمل لهذه المحرمات مع وجود غيرها ، { ولا عاد } معناه لا يعدو حدود الله في هذا ، وهذا القول أرجح وأعم في الرخصة ، وقالت فرقة : { باغ } و { عاد } في الشبع والتزود ، واختلف الناس في صورة الأكل من الميتة ، فقالت فرقة : الجائز من ذلك ما يمسك الرمق فقط ، وقالت فرقة : بل يجوز الشبع التام ، وقالت فرقة منهم مالك رحمه الله : يجوز الشبع والتزود ، وقال بعض النحويين في قوله : { عاد } ، إنه مقلوب من عائد ، فهو كشاكي السلاح وكيوم راح ، وكقول الشاعر : لأن بها الأشياء والعنبري ، وقوله : { فإن الله غفور رحيم } ، لفظ يقتضي منه الإباحة للمضطر ، وخرجت الإباحة في هذه الألفاظ تحرجاً وتضييقاً في أمرها ليدل الكلام على عظم الخطر في هذه المحرمات ، فغاية هذا المرخص له غفران الله له ، وحطه عنه ما كان يلحقه من الإثم لولا ضرورته . قال القاضي أبو محمد : وهذا التحريم الذي ذكرناه يفهمه الفصحاء من اللفظ ، وليس في المعنى منه شيء ، وإنما هو إيماء ، وكذلك جعل في موضع آخر غايته أن لا إثم عليه ، وإن كان لا إثم عليه{[7437]} . وقوله هو له مباح يرجعان إلى معنى واحد فإن في هيئة اللفظين خلافاً .
هذه الجملة بيان لمضمون جملة { فكلوا مما رزقكم الله حلالاً طيباً } [ سورة النحل : 114 ] لتمييز الطيّب من الخبيث ، فإن المذكورات في المحرّمات هي خبائث خُبثاً فطرياً لأن بعضها مفسد لتولد الغذاء لما يشتمل عليه من المضرّة . وتلك هي الميتة ، والدم ، ولحم الخنزير ؛ وبعضها منافٍ للفطرة وهو ما أهلّ به لغير الله لأنه منافٍ لشكر المنعم بها ، فالله خلق الأنعام ، والمشركون يذكرون اسم غير الله عليها .
ولإفادة بيان الحلال الطيّب بهذه الجملة جيء فيها بأداة الحصر ، أي ما حرّم عليكم إلا الأربعَ المذكورات ، فبقي ما عداها طيّباً .
وهذا بالنظر إلى الطيِب والخُبث بالذات . وقد يعرض الخبث لبعض المطعومات عرضاً .
ومناسبة هذا التحديد في المحرّمات أن بعض المسلمين كانوا بأرض غُربة وقد يؤكل فيها لحم الخنزير وما أهلّ به لغير الله ، وكان بعضهم ببلد يؤكل فيه الدم وما أهلّ به لغير الله . وقد مضى تفسير نظير هذه الآية في سورة البقرة والأنعام .