{ وَقَالَتِ } أم موسى { لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ } أي : اذهبي [ فقصي الأثر عن أخيك وابحثي عنه من غير أن يحس بك أحد أو يشعروا بمقصودك فذهبت تقصه ] { فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ } أي : أبصرته على وجه ، كأنها مارة لا قصد لها فيه .
وهذا من تمام الحزم والحذر ، فإنها لو أبصرته ، وجاءت إليهم قاصدة ، لظنوا بها أنها هي التي ألقته ، فربما عزموا على ذبحه ، عقوبة لأهله .
{ وَقَالَتْ لأخْتِهِ قُصِّيهِ } أي : أمرت ابنتها - وكانت كبيرة تعي ما يقال لها - فقالت لها : { قُصِّيهِ } أي : اتبعي أثره ، وخذي خبره ، وتَطَلَّبي شأنه من نواحي البلد . فخرجت لذلك ، { فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ } ، قال ابن عباس : عن جانب .
وقال مجاهد : { فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ } : عن بعيد .
وقال قتادة : جعلت تنظر إليه وكأنها لا تريده .
وذلك أنه لما استقر موسى ، عليه السلام ، بدار فرعون ، وأحبته امرأة الملك ، واستطلقته منه ، عرضوا عليه المراضع التي في دارهم ، فلم يقبل منها ثديًا ، وأبى أن يقبل شيئًا من ذلك . فخرجوا به إلى سوق لعلهم يجدون امرأة تصلح لرضاعته ، فلما رأته بأيديهم عرفته ، ولم تظهر ذلك ولم{[22226]} يشعروا بها .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَالَتْ لاُخْتِهِ قُصّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } .
يقول تعالى ذكره : وَقالَتْ أمّ موسى لأخت موسى حين ألقته في اليم قُصّيهِ يقول : قصي أثر موسى ، اتبعي أثره ، تقول : قصصت آثار القوم : إذا اتبعت آثارهم . وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصام ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : لأِخْتِهِ قُصيّهِ قال : اتبعي أثره كيف يصنع به .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد قُصيّهِ أي قصي أثره .
حدثنا ابن حميد ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصيّهِ قال : اتبعي أثره .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَقالَتْ لأُخْتِهِ قُصيهِ أي انظري ماذا يفعلون به .
حدثنا موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ وَقالَتْ لاِخْتِهِ قُصّيهِ يعني : قصي أثره .
حدثني العباس بن الوليد ، قال : أخبرنا يزيد ، قال : أخبرنا الأصبغ بن زيد ، قال : حدثنا القاسم بن أبي أيوب ، قال : ثني سعيد بن جُبير ، عن ابن عباس وَقالَتْ لأُخْتِهِ قُصيّهِ أي قصي أثره واطلبيه هل تسمعين له ذكرا ، أحيّ ابني أو قد أكلته دوابّ البحر وحيتانه ؟ ونَسيتِ الذي كان الله وعدها . وقوله : فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ يقول تعالى ذكره : فقصت أخت موسى أثره ، فبصرت به عن جُنُب : يقول فبصرت بموسى عن بُعد لم تدن منه ولم تقرب ، لئلا يعلم أنها منه بسبيل . يقال منه : بصرت به وأبصرته ، لغتان مشهورتان ، وأبصرت عن جنب ، وعن جنابة ، كما قال الشاعر :
أتَيْتُ حُرَيْثا زَائِرا عَنْ جَنابَةٍ *** فَكانَ حُرَيْثٌ عَنْ عَطائي جاحِدَا
يعني بقوله : عن جنابة : عن بُعد . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسي وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : عَنْ جُنُبٍ قال : بُعد .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد عَنْ جُنُبٍ قال : عن بُعد . قال ابن جُرَيج عَنْ جُنُبٍ قال : هي على الحدّ في الأرض ، وموسى يجري به النيل وهما متحاذيان كذلك تنظر إليه نظرة ، وإلى الناس نظرة ، وقد جعل في تابوت مقيّر ظهره وبطنه ، وأقفلته عليه .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن أبي سفيان ، عن معمر ، عن قَتادة : فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ يقول : بصرت به وهي محاذيته لم تأته .
حدثني العباس بن الوليد ، قال : أخبرنا يزيد ، قال : أخبرنا الأصبغ بن زيد ، قال : ثني القاسم بن أبي أيوب ، قال : ثني سعيد بن جُبير ، عن ابن عباس فَبَصُرَتُ بِهِ عَنْ جُنُبٍ والجنب : أن يسمو بصر الإنسان إلى الشيء البعيد ، وهو إلى جنبه لا يشعر به .
وقوله : وَهُمْ لا يَشْعَرُونَ يقول : وقوم فرعون لا يشعرون بأخت . موسى أنها أخته . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ قال : آل فرعون .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ أنها أخته ، قال : جعلت تنظر إليه كأنها لا تريده .
حدثنا موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ أنها أخته .
حدثنا حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ أي لا يعرفون أنها منه بسبيل .
ثم قالت لأخت موسى طمعاً منها وطلباً ، { قصيه } ، والقص طلب الأثر ، فيروى أن أخته خرجت في سكك المدينة تبحث مختفية بذلك فرأته عند قوم من حاشية امرأة فرعون يطلبون به امرأة ترضعه حين لم يقبل المراضع ، و { عن جنب } أي عن ناحية من غير قصد ولا قرب يشعر لها به ، يقال فيه جنب وجناب وجنابة ومن جناب قول الشاعر : [ الطويل ]
لقد ذكرتني عن جناب حمامة . . . بعسفان أهلي فالفؤاد حزين{[9118]}
ومن جنابة قول الأعشى : [ الطويل ]
أتيت حريثاً زائراً عن جنابة . . . فكان حريث عن عطائيَ جامدا{[9119]}
قال الفقيه الإمام القاضي : وكأن معنى هذه الألفاظ عن مكان جنب أي عن بعد ومعنى الآية عن بعد لم تدن منه فيشعر لها ، وأنشد أبو عبيدة لعلقمة بن عبدة : [ الطويل ]
فلا تحرمنّي نائلاً عن جنابة . . . فإني امرؤ وسط القباب غريب{[9120]}
وقرأ قتادة «عن جَنْب » بفتح الجيم وسكون النون وهي قراءة الحسن والأعرج ، وقرأ «عن جانب » النعمان بن سالم ، وقرأ الجمهور «عن جُنُب » بضم الجيم والنون ، وقوله { وهم لا يشعرون } ، معناه أنها أخته وأنها من جملة لطائف الله تعالى له ولأمه حسب الوعد الذي أوحي إليها ، ويقال : بصرت الشيء وأبصرته بمعنى واحد متقارب ، قال المهدوي : وقيل { عن جنب } معناه عن شوق وهي لغة لجذام يقولون جنبت إلى لقائك أي اشتقت إليه ، وقال قتادة : معنى { عن جنب } أنها تنظر إليه كأنها لا تريده .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وقالت} أم موسى {لأخته} يعني: أخت موسى... {قصيه} يعني: قصي أثره في البحر، وهو في التابوت يجري في الماء، حتى تعلمي علمه من يأخذه {فبصرت به عن جنب} يعني: كأنها مجانبة له بعيدا من أن ترقبه... {وهم لا يشعرون} أنها ترقبه.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره:"وَقالَتْ" أمّ موسى لأخت موسى حين ألقته في اليم "قُصّيهِ "يقول: قصي أثر موسى، اتبعي أثره... فقصت أخت موسى أثره، "فبصرت به عن جُنُب"، يقول: فبصرت بموسى عن بُعد لم تدن منه ولم تقرب، لئلا يعلم أنها منه بسبيل... وقوله: "وَهُمْ لا يَشْعَرُونَ" يقول: وقوم فرعون لا يشعرون بأخت موسى أنها أخته.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
ثم قالت لأخت موسى طمعاً منها وطلباً، {قصيه}، والقص: طلب الأثر، فيروى أن أخته خرجت في سكك المدينة تبحث مختفية بذلك فرأته عند قوم من حاشية امرأة فرعون يطلبون به امرأة ترضعه حين لم يقبل المراضع.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} أي: أبصرته على وجه، كأنها مارة لا قصد لها فيه. وهذا من تمام الحزم والحذر، فإنها لو أبصرته، وجاءت إليهم قاصدة، لظنوا بها أنها هي التي ألقته، فربما عزموا على ذبحه، عقوبة لأهله.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وذهبت أخته تقص أثره في حذر وخفية، وتتلمس خبره في الطرق والأسواق. فإذا بها تعرف أين ساقته القدرة التي ترعاه؛ وتبصر به عن بعد في أيدي خدم فرعون يبحثون له عن ثدي للرضاع.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
ظاهر ترتيب الأخبار أنها على وفق ترتيب مضامينها في الحصول، وهذا يرجح أن يكون حصول مضمون {وأصبح فؤاد أم موسى فارغاً} [القصص: 10] سابقاً على حصول مضمون {وقالت لأخته قصيه}، أي قالت لأخته ذلك بعد أن اطمأن قلبها لما ألهمته من إلقائه في اليم، أي لما ألقته في اليم قالت لأخته: انظري أين يلقيه اليم ومتى يستخرج منه، وقد علمت أن اليم لا يلقيه بعيداً عنها لأن ذلك مقتضى وعد الله برده إليها... والجُنُب: بضمتين البعيد. وهو صفة لموصوف يعرف من المقام، أي عن مكان جنب. و {عن} للمجاوزة والمجرور في موضع حال من ضمير (بصرت) لأن المجاوزة هنا من أحوال أخته لا من صفات المكان. و {هم} أي آل فرعون حين التقطوه لا يشعرون بأن أخته تراقب أحواله وذلك من حذق أخته في كيفية مراقبته.
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
{وهم لا يشعرون} أي لم يكونوا يشعرون بما تنطوي عليه أخته من اهتمام بأمره، وتتبع لحركاته، وقلق على مصيره، وأنه أخوها وهي أخته، وهكذا يتولى الله بحفظه ورعايته من أعدهم لتحمل رسالته، في مختلف المراحل والعهود، وفاء منه سبحانه وتعالى بما واثقهم عليه من المواثيق والعهود.
وحين سمعت الأخت هذا الأمر سارعت إلى التنفيذ؛ لذلك استخدم الفاء الدالة على التعقيب وسرعة الاستجابة {فبصرت به} ولم يقل: فقصته؛ لأن البصر وإن كان بمعنى الرؤية إلا أنه يدل على العناية والاهتمام بالمرئي...
ونلحظ هنا أن أخت موسى أخذت الأمر من أمها {قصيه} فقط ولم تلفت نظرها إلى هذا الاحتياط {عن جنب} مما يدل على ذكاء الفتاة وقيامها بمهمتها على أكمل وجه، وإن لم تكلف بذلك، وهذا من حكمة المرسل الحريص على أداء رسالته على وجهها الصحيح.