المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية  
{وَقَالَتۡ لِأُخۡتِهِۦ قُصِّيهِۖ فَبَصُرَتۡ بِهِۦ عَن جُنُبٖ وَهُمۡ لَا يَشۡعُرُونَ} (11)

ثم قالت لأخت موسى طمعاً منها وطلباً ، { قصيه } ، والقص طلب الأثر ، فيروى أن أخته خرجت في سكك المدينة تبحث مختفية بذلك فرأته عند قوم من حاشية امرأة فرعون يطلبون به امرأة ترضعه حين لم يقبل المراضع ، و { عن جنب } أي عن ناحية من غير قصد ولا قرب يشعر لها به ، يقال فيه جنب وجناب وجنابة ومن جناب قول الشاعر : [ الطويل ]

لقد ذكرتني عن جناب حمامة . . . بعسفان أهلي فالفؤاد حزين{[9118]}

ومن جنابة قول الأعشى : [ الطويل ]

أتيت حريثاً زائراً عن جنابة . . . فكان حريث عن عطائيَ جامدا{[9119]}

قال الفقيه الإمام القاضي : وكأن معنى هذه الألفاظ عن مكان جنب أي عن بعد ومعنى الآية عن بعد لم تدن منه فيشعر لها ، وأنشد أبو عبيدة لعلقمة بن عبدة : [ الطويل ]

فلا تحرمنّي نائلاً عن جنابة . . . فإني امرؤ وسط القباب غريب{[9120]}

وقرأ قتادة «عن جَنْب » بفتح الجيم وسكون النون وهي قراءة الحسن والأعرج ، وقرأ «عن جانب » النعمان بن سالم ، وقرأ الجمهور «عن جُنُب » بضم الجيم والنون ، وقوله { وهم لا يشعرون } ، معناه أنها أخته وأنها من جملة لطائف الله تعالى له ولأمه حسب الوعد الذي أوحي إليها ، ويقال : بصرت الشيء وأبصرته بمعنى واحد متقارب ، قال المهدوي : وقيل { عن جنب } معناه عن شوق وهي لغة لجذام يقولون جنبت إلى لقائك أي اشتقت إليه ، وقال قتادة : معنى { عن جنب } أنها تنظر إليه كأنها لا تريده .


[9118]:البيت لأعرابي لم يذكر اسمه، وهو واحد من ثلاثة أبيات ذكرها شهاب الدين الحموي في "معجم البلدان"، وعسفان بضم العين منهلة من مناهل الطريق بين مكة والجحفة، وقيل: هي على مرحلتين من مكة، وسميت عسفان من: عسفت المفازة وهو يعسفها، وهو قطعها بلا هداية أو قصد، وكذلك كل أمر يركب بغير رواية، وقد غزا النبي صلى الله عليه وسلم بني لحيان بعسفان، والأبيات الثلاثة هي: لقد ذكرتني عن حباب حمامة بعسفان أهلي فالفؤاد حزين فويحك كم ذكرتني اليوم أرضنا لعل حمامي بالحجاز يكون فوالله لا أنساك ما هبت الصبا وما اخضر من عود الأراك فنون هكذا رويت (حباب) بدلا من (جناب)، وعلى هذا فلا شاهد فيه.
[9119]:البيت من قصيدة له يمدح هوذة بن علي الحنفي، ويذم الحارث بن وعلة الرقاشي، وحريث تصغير الحارث، صغره تحقيرا له، وجنابة: بعد ومن غير قصد، وهو الشاهد، وجامد: لا يلين ولا يعطي، وتروى: جاحدا، والشاهد قوله: عن جنابة.
[9120]:البيت من قصيدة علقمة الفحل التي قالها في مدح الحارث ملك الغساسنة في الشام بعد الواقعة المعروفة باسم "يوم حليمة" وقد أسر فيها عدد من بني تميم، وفيهم شاس أخو الشاعر، فذهب علقمة إلى الحارث مادحا طالبا سراح أخيه، وفعلا نجح في مسعاه، وأطلق الملك سراح أخيه ومن معه من الأسرى. والنائل: العطاء، ويريد به هنا إطلاق سراح أخيه، والجنابة: البعد والغربة، يقول: لا تحرمني وتمنع عني العفو عن الذنب الذي جئتك راجيا مستشفعا فيه، فإنني امرؤ غريب في هذه الديار.