قال الله في لومهم على الإعراض عن الحكم الشرعي : { أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ } أي : علة ، أخرجت القلب عن صحته وأزالت حاسته ، فصار بمنزلة المريض ، الذي يعرض عما ينفعه ، ويقبل على ما يضره ،
{ أَمِ ارْتَابُوا } أي : شكوا ، وقلقت قلوبهم من حكم الله ورسوله ، واتهموه أنه لا يحكم بالحق ، { أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ } أي : يحكم عليهم حكما ظالما جائرا ، وإنما هذا وصفهم { بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ }
وأما حكم الله ورسوله ، ففي غاية العدالة والقسط ، وموافقة الحكمة . { وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ } وفي هذه الآيات ، دليل على أن الإيمان ، ليس هو مجرد القول حتى يقترن به العمل ، ولهذا نفى الإيمان عمن تولى عن الطاعة ، ووجوب الانقياد لحكم الله ورسوله في كل حال ، وأن من ينقد له دل على مرض في قلبه ، وريب في إيمانه ، وأنه يحرم إساءة الظن بأحكام الشريعة ، وأن يظن بها خلاف العدل والحكمة .
ومن ثم يعقب على فعلتهم هذه بأسئلة تثبت مرض قلوبهم ، وتتعجب من ريبتهم ، وتستنكر تصرفهم الغريب :
( أفي قلوبهم مرض ? أم ارتابوا ? أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله ? ) . .
والسؤال الأول للإثبات . فمرض القلب جدير بأن ينشى مثل هذا الأثر . وما ينحرف الإنسان هذا الانحراف وهو سليم الفطرة . إنما هو المرض الذي تختل به فطرته عن استقامتها ، فلا تتذوق حقيقة الإيمان ، ولا تسير على نهجه القويم .
والسؤال الثاني للتعجب . فهل هم يشكون في حكم الله وهم يزعمون الإيمان ? هل هم يشكون في مجيئه من عند الله ? أو هم يشكون في صلاحيته لإقامة العدل ? على كلتا الحالتين فهذا ليس طريق المؤمنين !
والسؤال الثالث للاستنكار والتعجب من أمرهم الغريب . فهل هم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله ? وإنه لعجيب أن يقوم مثل هذا الخوف في نفس إنسان . فالله خالق الجميع ورب الجميع . فكيف يحيف في حكمه على أحد من خلقه لحساب أحد من خلقه ?
إن حكم الله هو الحكم الوحيد المبرأ من مظنة الحيف . لأن الله هو العادل الذي لا يظلم أحدا . وكل خلقه أمامه سواء ، فلا يظلم أحد منهم لمصلحة أحد . وكل حكم غير حكمه هو مظنة الحيف . فالبشر لا يملكون أنفسهم وهم يشرعون ويحكمون أن يميلوا إلى مصالحهم . أفرادا كانوا أم طبقة أم دولة .
وحين يشرع فرد ويحكم فلا بد أن يلحظ في التشريع حماية نفسه وحماية مصالحه . وكذلك حين تشرع طبقة لطبقة ، وحين تشرع دولة لدولة . أو كتلة من الدول لكتلة . . فأما حين يشرع الله فلا حماية ولا مصلحة .
إنما هي العدالة المطلقة ، التي لا يطيقها تشريع غير تشريع الله ، ولا يحققها حكم غير حكمه .
من أجل ذلك كان الذين لا يرتضون حكم الله ورسوله هم الظالمون ، الذين لا يريدون للعدالة أن تستقر ؛ ولا يحبون للحق أن يسود . فهم لا يخشون في حكم الله حيفا ، ولا يرتابون في عدالته أصلا ( بل أولئك هم الظالمون ) . .
{ أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ } يعني : لا يخرج أمرهم عن أن يكون في القلوب مَرَض لازم لها ، أو قد عرض لها شك في الدين ، أو يخافون أن يجور الله ورسوله عليهم في الحكم . وأيّا ما كان فهو كفر محض ، والله عليم بكل منهم ، وما هو عليه منطو من هذه الصفات .
وقوله : { بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } أي : بل هم الظالمون الفاجرون ، والله ورسوله مبرآن مما يظنون ويتوهمون من الحيف والجور ، تعالى الله ورسوله عن ذلك .
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا مبارك ، حدثنا الحسن قال :
كان الرجل إذا كان بينه وبين الرجل منازعة ، فدعي إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو مُحِقّ أذعن ، وعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم سيقضي له بالحق . وإذا أراد أن يظلم فدُعي إلى النبي صلى الله عليه وسلم أعرض ، وقال : أنطلقُ إلى فلان . فأنزل الله هذه الآية ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من كان بينه وبين أخيه شيء ، فدُعِي إلى حَكَم من حُكَّام المسلمين فأبى أن يجيب ، فهو ظالم لا حق له " {[21296]} .
وقوله : أفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يقول تعالى ذكره : أفي قلوب هؤلاء الذين يُعْرِضون إذا دُعُوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم ، شكّ في رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لله رسول فهم يمتنعون من الإجابة إلى حكمه والرضا به . أمْ يَخافُونَ أن يَحِيفَ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ إذا احتكموا إلى حكم كتاب الله وحكم رسوله . وقوله : أن يَحيفَ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ والمعنى : أن يحيف رسولُ الله عليهم ، فبدأ بالله تعالى ذكره تعظيما لله ، كما يقال : ما شاء الله ثم شئت ، بمعنى : ما شئت . ومما يدلّ على أن معنى ذلك كذلك قوله : وَإذَا دُعُوا إلى اللّهِ وَرَسُولهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ فأفرد الرسول بالحكم ، ولم يقُل : ليحكما . وقوله : بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ يقول : ما خاف هؤلاء المعرضون عن حكم الله وحكم رسوله ، إذ أعرضوا عن الإجابة إلى ذلك ، مما دُعوا إليه ، أن يحيف عليهم رسول الله ، فيجورَ في حكمه عليهم ولكنهم قوم أهل ظلم لأنفسهم بخلافهم أمر ربهم ومعصيتهم الله فيما أمرهم من الرضا بحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أحبوا وكرهوا ، والتسليم له . )
ثم وقفهم تعالى على أسباب فعلهم توقيف توبيخ أي ليقروا مما يوبخ به أو مما يمدح به فهو بليغ جداً ومنه قول جرير «ألستم خير من ركب المطايا »{[1]} البيت . ثم حكم عليهم بأنهم { هم الظالمون } وقال : { أن يحيف الله عليهم ورسوله } من حيث الرسول إنما يحكم بأمر الله وشرعه والميل الحيف .