فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ٱرۡتَابُوٓاْ أَمۡ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ ٱللَّهُ عَلَيۡهِمۡ وَرَسُولُهُۥۚ بَلۡ أُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلظَّـٰلِمُونَ} (50)

ثم قسم الأمر في إعراضهم عن حكومته إذا كان الحقّ عليهم ، فقال : { أَفِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ } ، وهذه الهمزة للتوبيخ ، والتقريع لهم ، والمرض النفاق : أي أكان هذا الإعراض منهم بسبب النفاق الكائن في قلوبهم { أَمِ ارتابوا } ، وشكوا في أمر نبوّته صلى الله عليه وسلم وعدله في الحكم { أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ الله عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ } ، والحيف الميل في الحكم ؛ يقال : حاف في قضيته : أي جار فيما حكم به ، ثم أضرب عن هذه الأمور التي صدّرها بالاستفهام الإنكاري ، فقال { بَلْ أولئك هُمُ الظالمون } أي ليس ذلك لشيء مما ذكر ، بل لظلمهم وعنادهم ؛ فإنه لو كان الإعراض لشيء مما ذكر لما أتوا إليه مذعنين إذا كان الحق لهم ، وفي هذه الآية دليل على وجوب الإجابة إلى القاضي العالم بحكم الله العادل في حكمه ؛ لأن العلماء ورثة الأنبياء ، والحكم من قضاة الإسلام العالمين بحكم الله العارفين بالكتاب والسنة ، العادلين في القضاء هو حكم بحكم الله ، وحكم رسوله ، فالداعي إلى التحاكم إليهم قد دعا إلى الله ، وإلى رسوله : أي إلى حكمهما . قال ابن خويز منداد : واجب على كل من دعي إلى مجلس الحاكم أن يجيب ما لم يعلم أن الحاكم فاسق .

قال القرطبي : في هذه الآية دليل على وجوب إجابة الداعي إلى الحاكم ، لأن الله سبحانه ذمّ من دعي إلى رسوله ليحكم بينه وبين خصمه بأقبح الذمّ ، فقال { أَفِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ } الآية انتهى . فإن كان القاضي مقصراً لا يعلم بأحكام الكتاب ، والسنة ، ولا يعقل حجج الله ، ومعاني كلامه وكلام رسوله ، بل كان جاهلاً جهلاً بسيطاً ، وهو من لا علم له بشيء من ذلك ، أو جهلاً مركباً ، وهو من لا علم عنده بما ذكرنا ، ولكنه قد عرف بعض اجتهادات المجتهدين ، واطلع على شيء من علم الرأي ، فهذا في الحقيقة جاهل ، وإن اعتقد أنه يعلم بشيء من العلم فاعتقاده باطل ؛ فمن كان من القضاة هكذا ، فلا تجب الإجابة إليه ؛ لأنه ليس ممن يعلم بحكم الله ورسوله حتى يحكم به بين المتخاصمين إليه ، بل هو من قضاة الطاغوت ، وحكام الباطل ، فإنّ ما عرفه من علم الرأي إنما رخص في العمل به للمجتهد الذي هو منسوب إليه عند عدم الدليل من الكتاب والسنة ، ولم يرخص فيه لغيره ممن يأتي بعده . وإذا تقرّر لديك هذا ، وفهمته حق فهمه علمت أن التقليد والإنتساب إلى عالم من العلماء دون غيره ، والتقيد بجميع ما جاء به من رواية ورأي ، وإهمال ما عداه من أعظم ما حدث في هذه الملة الإسلامية من البدع المضلة ، والفواقر الموحشة ، فإنا لله وإنا إليه راجعون . وقد أوضحنا هذا في مؤلفنا الذي سميناه : «القول المفيد في حكم التقليد » وفي مؤلفنا الذي سميناه : «أدب الطلب ومنتهى الأرب » فمن أراد أن يقف على حقيقة هذه البدعة التي طبقت الأقطار الإسلامية ، فليرجع إليهما .

/خ57