80- الذي خلق لكم من الشجر الأخضر - بعد جفافه ويبسه - ناراً{[195]} .
قوله تعالى : { الذي جعل لكم من الشجر الأخضر ناراً } قال ابن عباس : هما شجرتان يقال لإحدهما : المرخ والأخرى : العفار ، فمن أراد منهم النار قطع منها غصنين مثل السواكين وهما خضراوان يقطر منهما الماء ، فيستحق المرخ على العفار فيخرج منهما النار بإذن الله عز وجل . تقول العرب : في كل شجر نار واستمجد المرخ والعفار ، وقال الحكماء : في كل شجر ناء إلا العناب . { فإذا أنتم منه توقدون } تقدحون وتوقدون النار من ذلك الشجر ، ثم ذكر ما هو أعظم من خلق الإنسان .
ثم يزيدهم إيضاحاً لطبيعة القدرة الخالقة ، وصنعها فيما بين أيديهم وتحت أعينهم مما يملكون :
( الذي جعل لكم من الشجر الأخضر ناراً فإذا أنتم منه توقدون ) . .
والمشاهدة الأولية الساذجة تقنع بصدق هذه العجيبة ! العجيبة التي يمرون عليها غافلين . عجيبة أن هذا الشجر الأخضر الريان بالماء ، يحتك بعضه ببعض فيولد ناراً ؛ ثم يصير هو وقود النار . بعد اللدونة والاخضرار . . والمعرفة العلمية العميقة لطبيعة الحرارة التي يختزنها الشجر الأخضر من الطاقة الشمسية التي يمتصها ، ويحتفظ بها وهو ريان بالماء ناضر بالخضرة ؛ والتي تولد النار عند الاحتكاك ، كما تولد النار عند الاحتراق . . هذه المعرفة العلمية تزيد العجيبة بروزاً في الحس ووضوحاً . والخالق هو الذي أودع الشجر خصائصه هذه . والذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى . غير أننا لا نرى الأشياء بهذه العين المفتوحة ولا نتدبرها بذلك الحس الواعي .
فلا تكشف لنا عن أسرارها المعجبة . ولا تدلنا على مبدع الوجود . ولو فتحنا لها قلوبنا لباحت لنا بأسرارها ، ولعشنا معها في عبادة دائمة وتسبيح !
وقوله : { الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ } أي : الذي بدأ خلق هذا الشجر من ماء حتى صار خَضرًا نَضرًا ذا ثمر ويَنْع ، ثم أعاده إلى أن صار حطبًا يابسًا ، توقد به النار ، كذلك هو فعال لما يشاء ، قادر على ما يريد لا يمنعه شيء .
قال قتادة في قوله : { الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ } يقول : الذي أخرج هذه النار من هذا الشجر قادر على أن يبعثه .
وقيل : المراد بذلك سَرْح المرخ والعَفَار ، ينبت في أرض الحجاز فيأتي من أراد قَدْح نار وليس معه زناد ، فيأخذ منه عودين أخضرين ، ويقدح{[24885]} أحدهما بالآخر ، فتتولد النار من بينهما ، كالزناد سواء . روي هذا عن ابن عباس ، رضي الله عنهما {[24886]} . وفي المثل : {[24887]} لكل شجر نار ، واستمجد المَرْخُ والعَفَار . {[24888]} وقال الحكماء : في كل شجر نار إلا الغاب . {[24889]}
القول في تأويل قوله تعالى : { الّذِي جَعَلَ لَكُم مّنَ الشّجَرِ الأخْضَرِ نَاراً فَإِذَآ أَنتُم مّنْه تُوقِدُونَ * أَوَلَيْسَ الَذِي خَلَقَ السّمَاواتِ وَالأرْضَ بِقَادِرٍ عَلَىَ أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَىَ وَهُوَ الْخَلاّقُ الْعَلِيمُ } .
يقول تعالى ذكره : قل يحييها الذي أنشأها أوّل مرّة الّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشّجَرِ الأخْضَر نارا يقول : الذي أخرج لكم من الشجر الأخضر نارا تُحْرق الشجر ، لا يمتنع عليه فعل ما أراد ، ولا يعجز عن إحياء العظام التي قد رَمّت ، وإعادتها بشَرا سويا ، وخلقا جديدا ، كما بدأها أوّل مرّة . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة الّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشّجَرِ الأخْضَرِ نارا يقول : الذي أخرج هذه النار من هذا الشجر قادر أن يبعثه .
قوله : فإذَا أنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ يقول : فإذا أنتم من الشجر توقدون النار وقال : مِنْهُ والهاء من ذكر الشجر ، ولم يقل : منها ، والشجر جمع شجرة ، لأنه خرج مخرج الثمر والحصَى ، ولو قيل : منها كان صوابا أيضا ، لأن العرب تذكّر مثل هذا وتؤنّثه .
ثم عقب ذلك تعالى بدليل ثالث في إيجاد النار في العود الأخضر المرتوي ماء ، وهذا هو زناد العرب والنار موجودة في كل عود غير أنها في المتخلخل المفتوح المسام أوجد ، وكذلك هو المرخ والعفار{[2]} ، وأعاد الضمير على الشجر مذكراً من حيث راعى اللفظ فجاء كالتمر والحصا وغيره .