{ وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ } أي : وَفَّاهم كيلهم ، وحمل لهم أحمالهم قال : ائتوني بأخيكم هذا الذي ذكرتم ، لأعلم صدقكم فيما ذكرتم ، { أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنزلِينَ } يرغبهم في الرجوع إليه ، ثم رَهَّبَهم فقال : { فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ } أي : إن لم تقدموا به معكم في المرة الثانية ، فليس لكم عندي ميرة ، { وَلا تَقْرَبُونِ قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ } أي : سنحرص على مجيئه إليك بكل ممكن ولا نبقي مجهودا لتعلم صدقنا فيما قلناه .
وذكر السدي : أنه أخذ منهم رهائن حتى يقدموا به معهم . وفي هذا نظر ؛ لأنه أحسن إليهم ورغبهم كثيرا ، وهذا لحرصه{[15223]} على رجوعهم .
القول في تأويل قوله تعالى : { فَإِن لّمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِندِي وَلاَ تَقْرَبُونِ } .
يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل يوسف لإخوته : فإنْ لَمْ تَأَتُونِي بِهِ بأخيكم من أبيكم ، فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي يقول : فليس لكم عندي طعام أكيله لكم ، وَلا تَقْرَبُونِ يقول : ولا تقربوا بلادي .
وقوله : وَلا تَقْرَبُونِ في موضع جزم بالنهي ، والنون في موضع نصب ، وكسرت لما حُذفت ياؤها ، والكلام : ولا تقربوني .
قوله : { ايئتوني بأخ لكم } يقتضي وقوع حديث منهم عن أن لهم أخا من أبيهم لم يحضر معهم وإلا لكان إنبَاء يوسف عليه السلام لهم بهذا يشعرهم أنه يكلمهم عارفاً بهم وهو لا يريد أن يكشف ذلك لهم . وفي التوراة{[252]} أن يوسف عليه السلام احتال لذلك بأن أوهمهم أنه اتهمهم أن يكونوا جواسيس للعدو وأنهم تبرأوا من ذلك فعرفوه بمكانهم من قومهم وبأبيهم وعدد عائلتهم ، فما ذكروا ذلك له أظهر أنه يأخذ أحدهم رهينة عنده إلى أن يرجعوا ويأتوا بأخيهم الأصغر ليصدّقوا قولهم فيما أخبروه ، ولذلك قال : { فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي } .
و { من أبيكم } حال من ( أخ لكم ) أي أُخُوّته من جهة أبيكم ، وهذا من مفهوم الاقتصار الدال على عدم إرادة غيره ، أي من أبيكم وليس من أمكم ، أي ليس بشقيق .
والعدول عن أن يقال : ايئتوني بأخيكم من أبيكم ، لأن المراد حكاية ما اشتمل عليه كلام يوسف عليه السلام من إظهار عدم معرفته بأخيهم إلا من ذِكرهم إياه عنده ، فعدل عن الإضافة المقتضية المعرفة إلى التنكير تنابهاً في التظاهر بجهله به .
{ ولا تقربون } أي لا تعودوا إلى مصر ، وقد علم أنهم لا يتركون أخاهم رهينة .
وقوله : { ألا ترون أني أوفي الكيل وأنا خير المنزلين } ترغيب لهم في العود إليه ؛ وقد عَلم أنهم مضطرون إلى العود إليه لعدم كفاية الميرة التي امتاروها لعائلة ذات عدد من النّاس مثلهم ، كما دل عليه قولهم بعد { ذلك كيل يسير } [ سورة يوسف : 65 ] .
ودل قوله : { خير المنزلين } على أنه كان ينزل الممتارين في ضيافته لكثرة الوافدين على مصر للميرة . والمُنْزل : المُضيف . وهذه الجملة كناية عن الوعد بأن يوفي لهم الكيل ويكرم ضيافتهم إن أتوا بأخيهم . والكيل في الموضعين مرادٌ منه المصدر . فمعنى { فلا كيل لكم عندي } أي لا يكال لكم ، كناية عن منعهم من ابتياع الطعام .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم}، يعني فلا بيع لكم {عندي} من الطعام، {ولا تقربون} بلادي...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل يوسف لإخوته: "فإنْ لَمْ تَأَتُونِي بِهِ "بأخيكم من أبيكم، "فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي "يقول: فليس لكم عندي طعام أكيله لكم، وَلا تَقْرَبُونِ" يقول: ولا تقربوا بلادي.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وظاهر كل ما فعله يوسف معهم أنه بوحي وأمر وإلا فكان بر يعقوب يقتضي أن يبادر إليه ويستدعيه، لكن الله تعالى أعلمه بما يصنع ليكمل أجر يعقوب ومحنته وتتفسر الرؤيا الأولى...
واعلم أنه عليه السلام لما طلب منهم إحضار ذلك الأخ جمع بين الترغيب والترهيب. أما الترغيب: فهو قوله: {ألا ترون أنى أوفى الكيل وأنا خير المنزلين} وأما الترهيب: فهو قوله: {فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي ولا تقربون} وذلك لأنهم كانوا في نهاية الحاجة إلى تحصيل الطعام، وما كان يمكنهم تحصيله إلا من عنده، فإذا منعهم من الحضور عنده كان ذلك نهاية الترهيب والتخويف...
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :
{فَإِن لَّمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِندِي} إيعاد لهم على عدم الإتيان به، والمراد لا كيل لكم في المرة الأخرى فضلاً عن إيفائه {وَلاَ تَقْرَبُونِ} أي لا تقربوني بدخول بلادي فضلاً عن الإحسان في الإنزال والضيافة...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
فهذا هو شرط استمرار التعاون بيننا، فامتناعكم عن المجيء به إليّ، لأتعرّف عليه، يوحي بعدم الثقة بي، ويدلّ على عدم احترامكم لطلباتي التي أحاول من خلالها توثيق الصلة بكم. لعلّ إخوة يوسف قد استغربوا هذا الطلب، أو فهموه كدليلٍ من دلائل المودّة التي يظهرها يوسف لهم، وأثاروا الحديث معه، حول صعوبة تنفيذ هذا الطلب، لأن هذا الولد محبوبٌ لدى أبيه إلى درجة عدم مقدرته على مفارقته، وقد لا يثق بنا، في المحافظة عليه، لأنه أخٌ غير شقيق...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
وظهر من سياق الآيات أمران: أنّ الحبوب كانت تباع وتشترى في مصر بالكيل لا بالوزن، واتّضح أيضاً أنّ يوسف كان يستقبل الضيوف ومنهم إخوته الذين كانوا يفدون إلى مصر بحفاوة بالغة ويستضيفهم بأحسن وجه...