58- واشتد القحط بما حول مصر ، ونزل بآل يعقوب ما نزل بغيرهم من الشدة ، وقصد الناس مصر من كل مكان ، بعد ما علموا من تدبير يوسف للمؤن ، واستعداده لسنوات الجدب . فبعث يعقوب إليها أبناءه طلباً للطعام ، واحتجز معه ابنه شقيق يوسف خوفاً عليه ، فلما بلغ أبناؤه مصر توجهوا من فورهم إلى يوسف ، فعرفهم دون أن يعرفوه .
قوله تعالى : { وجاء إخوة يوسف } وكانوا عشرة ، وكان منزلهم بالقرب من أرض فلسطين بغور الشام ، وكانوا أهل بادية وإبل وشاة ، فدعاهم يعقوب عليه السلام وقال : يا بني بلغني أن بمصر ملكا صالحا يبيع الطعام ، فتجهزوا له فاذهبوا لتشتروا منه الطعام ، فأرسلهم فقدموا مصر ، { فدخلوا عليه } ، على يوسف ، { فعرفهم } ، يوسف عليه السلام . قال ابن عباس ومجاهد : عرفهم بأول ما نظر إليهم . وقال الحسن : لم يعرفهم حتى تعرفوا إليه . { وهم له منكرون } ، أي : لم يعرفوه . قال ابن عباس : وكان بين أن قذفوه في البئر وبين أن دخلوا عليه أربعون سنة ، فلذلك أنكروه . وقال عطاء : إنما لم يعرفوه لأنه كان على سرير الملك وعلى رأسه تاج الملك . وقيل : لأنه كان بزي ملوك مصر ، عليه ثياب من حرير وفي عنقه طوق من ذهب ، فلما نظر إليهم يوسف وكلموه بالعبرانية ، قال لهم : أخبروني من أنتم وما أمركم فإني أنكرت شأنكم ؟ قالوا قوم من أرض الشام رعاة ، أصابها الجهد فجئنا نمتار . فقال : لعلكم جئتم تنظرون عورة بلادي ؟ قالوا : لا والله ما نحن بجواسيس ، إنما نحن إخوة بنو أب واحد ، وهو شيخ صديق يقال له يعقوب نبي من أنبياء الله . قال : وكم أنتم ؟ قالوا : كنا اثني عشر ، فذهب أخ بنا معنا إلى البرية ، فهلك فيها ، وكان أحبنا إلى أبينا . قال : فكم أنتم هاهنا ؟ . قالوا : عشرة . قال : وأين الآخر ؟ قالوا : عند أبينا ، لأنه أخو الذي هلك لأمه ، فأبونا يتسلى به . قال : فمن يعلم أن الذي تقولون حق ؟ قالوا : أيها الملك إنا ببلاد لا يعرفنا أحد من أهلها . فقال يوسف : فأتوني بأخيكم الذي من أبيكم إن كنتم صادقين ، وأنا أرضى بذلك . قالوا : فإن أبانا يحزن على فراقه وسنراوده عنه أباه . قال : فدعوا بعضكم عندي رهينة حتى تأتوني بأخيكم ، فاقترعوا بينهم ، فأصابت القرعة شمعون ، وكان أحسنهم رأيا في يوسف ، فخلفوه عنده .
{ وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ }
أي : لما تولى يوسف عليه السلام خزائن الأرض ، دبرها أحسن تدبير ، فزرع في أرض مصر جميعها في السنين الخصبة ، زروعا هائلة ، واتخذ لها المحلات الكبار ، وجبا من الأطعمة شيئا كثيرا وحفظه ، وضبطه ضبطا تاما ، فلما دخلت السنون المجدبة ، وسرى الجدب ، حتى وصل إلى فلسطين ، التي يقيم فيها يعقوب وبنوه ، فأرسل يعقوب بنيه لأجل الميرة إلى مصر . { وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ } أي : لم يعرفوه .
ودارت عجلة الزمن . وطوى السياق دوراتها بما كان فيها طوال سنوات الرخاء . فلم يذكر كيف كان الخصب ، وكيف زرع الناس . وكيف أدار يوسف جهاز الدولة . وكيف نظم ودبر وادخر . كأن هذه كلها أمور مقررة بقوله :
وكذلك لم يذكر مقدم سني الجدب ، وكيف تلقاها الناس ، وكيف ضاعت الأرزاق . . لأن هذا كله ملحوظ في رؤيا الملك وتأويلها :
( ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد يأكلن ما قدمتم لهن إلا قليلا مما تحصنون ) . .
كذلك لم يبرز السياق الملك ولا أحدا من رجاله بعد ذلك في السورة كلها . كأن الأمر كله قد صار ليوسف . الذي اضطلع بالعبء في الأزمة الخانقة الرهيبة . وأبرز يوسف وحده على مسرح الحوادث ، وسلط عليه كل الأضواء . وهذه حقيقة واقعية استخدمها السياق استخداما فنيا كاملا في الأداء .
أما فعل الجدب فقد أبرزه السياق في مشهد إخوة يوسف ، يجيئون من البدو من أرض كنعان البعيدة يبحثون عن الطعام في مصر . ومن ذلك ندرك اتساع دائرة المجاعة ، كما ندرك كيف وقفت مصر - بتدبير يوسف - منها ، وكيف صارت محط أنظار جيرانها ومخزن الطعام في المنطقة كلها . وفي الوقت ذاته تمضي قصة يوسف في مجراها الأكبر بين يوسف وإخوته وهي سمة فنية تحقق هدفا دينيا في السياق :
( وجاء إخوة يوسف ، فدخلوا عليه ، فعرفهم وهم له منكرون . ولما جهزهم بجهازهم قال : ائتوني بأخ لكم من أبيكم . ألا ترون أني أوفي الكيل وأنا خير المنزلين ؟ فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي ولا تقربون . قالوا : سنراود عنه أباه وإنا لفاعلون . وقال لفتيانه : اجعلوا بضاعتهم في رحالهم ، لعلهم يعرفونها إذا انقلبوا إلى أهلهم لعلهم يرجعون ) . .
لقد اجتاح الجدب والمجاعة أرض كنعان وما حولها . فاتجه إخوة يوسف - فيمن يتجهون - إلى مصر . وقد تسامع الناس بما فيها من فائض الغلة منذ السنوات السمان . وها نحن أولاء نشهدهم يدخلون على يوسف ، وهم لا يعلمون . إنه يعرفهم فهم هم لم يتغيروا كثيرا . أما يوسف فإن خيالهم لا يتصور قط أنه هو ذاك ! وأين الغلام العبراني الصغير الذي ألقوه في الجب منذ عشرين عاما أو تزيد من عزيز مصر شبه المتوج في سنه وزيه وحرسه ومهابته وخدمه وحشمه وهيله وهيلمانه ؟
ذكر السُّدي ، ومحمد بن إسحاق ، وغيرهما من المفسرين : أن السبب الذي أقدم إخوة يوسف بلاد مصر ، أن يوسف ، عليه السلام ، لما باشر الوزارة بمصر ، ومضت السبع السنين المخصبة ، ثم تلتها سنينُ الجدب ، وعمّ القحط بلاد مصر بكمالها ، ووصل إلى بلاد كنعان ، وهي التي فيها يعقوب ، عليه السلام ، وأولاده . وحينئذ احتاط يوسف ، عليه السلام ، للناس في غلاتهم ، وجمعها أحسن{[15218]} جمع ، فحصل من ذلك مبلغ عظيم ، وأهراءَ متعددة هائلة ، وورد عليه الناس من سائر الأقاليم والمعاملات ، يمتارون لأنفسهم وعيالهم ، فكان لا يعطي الرجل أكثر من حمل بعير في السنة . وكان ، عليه السلام ، لا يشبع نفسه ولا يأكل هو والملك وجنودهما إلا أكلة واحدة في وسط النهار ، حتى يتكفى الناس بما في أيديهم مدة السبع سنين . وكان رحمة من الله على أهل مصر .
وما ذكره بعض المفسرين من أنه باعهم في السنة الأولى بالأموال ، وفي الثانية بالمتاع ، وفي الثالثة بكذا ، وفي الرابعة بكذا ، حتى باعهم بأنفسهم وأولادهم بعدما تَمَلَّك عليهم جميع ما يملكون ، ثم أعتقهم وردّ عليهم أموالهم كلها ، الله{[15219]} أعلم بصحة ذلك ، وهو من الإسرائيليات التي لا تصدق ولا تكذب .
والغرض أنه كان في جملة من ورد للميرة إخوةُ يوسف ، عن أمر أبيهم لهم في ذلك ، فإنه بلغهم أن عزيز مصر يعطي الناس الطعام بثمنه ، فأخذوا معهم بضاعة يعتاضون بها طعاما ، وركبوا عشرة نفر ، واحتبس يعقوب ، عليه السلام ، عنده بنيامين شقيق يوسف ، عليهما{[15220]} السلام ، وكان أحب ولده إليه بعد يوسف . فلما دخلوا على يوسف ، وهو جالس في أبهته ورياسته وسيادته ، عرفهم حين نظر إليهم ، { وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ } أي : لا يعرفونه ؛ لأنهم فارقوه وهو صغير حدث فباعوه{[15221]} للسيارة ، ولم يدروا أين يذهبون به ، ولا كانوا يستشعرون في أنفسهم أن يصير إلى ما صار إليه ، فلهذا لم يعرفوه ، وأما هو فعرفهم .
فذكر السدي وغيره : أنه شرع يخاطبهم ، فقال لهم كالمنكر عليهم : ما أقدمكم بلادي ؟ قالوا : أيها العزيز ، إنا قدمنا للميرة . قال : فلعلكم عيون ؟ قالوا : معاذ الله . قال : فمن أين أنتم ؟ قالوا : من بلاد كنعان ، وأبونا يعقوب نبي الله . قال : وله أولاد غيركم ؟ قالوا : نعم ، كنا اثني عشر ، فذهب أصغرنا ، هلك في البَرِيَّة ، وكان أحبنا إلى أبيه ، وبقي شقيقه فاحتبسه{[15222]} أبوه ليتسلى به عنه . فأمر بإنزالهم وإكرامهم .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَجَآءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُواْ عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ } .
يقول تعالى ذكره : وَجاءَ إخْوةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ يوسف ، وَهُمْ ليوسف مُنْكِرونَ لا يعرفونه . وكان سبب مجيئهم يوسف فيما ذكر لي ، كما :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : لما اطمأنّ يوسف في ملكه ، وخرج من البلاء الذي كان فيه ، وخلت السنون المخصبة التي كان أمرهم بالإعداد فيها للسنين التي أخبرهم بها أنها كائنة ، جهد الناس في كلّ وجه ، وضربوا إلى مصر يلتمسون بها الميرة من كلّ بلدة . وكان يوسف حين رأى ما أصاب الناس من الجهد ، قد أسا بينهم ، وكان لا يحمل للرجل إلا بعيرا واحدا ، ولا يحمل للرجل الواحد بعيرين ، تقسيطا بين الناس ، وتوسيعا عليهم ، فقدم إخوته فيمن قدم عليه من الناس يلتمسون الميرة من مصر ، فعرفهم وهم له منكرون ، لما أراد الله أن يبلّغ ليوسف عليه السلام ما أراد .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمرو ، عن أسباط ، عن السديّ ، قال : أصاب الناس الجوع ، حتى أصاب بلاد يعقوب التي هو بها ، فبعث بنيه إلى مصر ، وأمسك أخا يوسف بنيامين فلما دخلوا على يوسف عرفهم وهم له منكرون فلما نظر إليهم ، قال : أخبروني ما أمركم ، فإني أُنكِر شأنكم قالوا : نحن قوم من أرض الشأم . قال : فما جاء بكم ؟ قالوا : جئنا نمتار طعاما . قال : كذبتم ، أنتم عيون كم أنتم ؟ قالوا : عشرة . قال : أنتم عشرة آلاف ، كل رجل منكم أمير ألف ، فأخبروني خبرَكم قالوا : إنا إخوة بنو رجل صِدّيق ، وإنا كنا اثني عشر ، وكان أبونا يحبّ أخا لنا ، وإنه ذهب معنا البرية فهلك منا فيها ، وكان أحبنا إلى أبينا . قال : فإلى من سكن أبوكم بعده ؟ قالوا : إلى أخ لنا أصغر منه . قال : فكيف تخبروني أن أباكم صدّيق وهو يحبّ الصغير منكم دون الكبير ؟ ائتوني بأخيكم هذا حتى أنظر إليه فإنْ لَمْ تَأَتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ قالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أباهُ وإنّا لَفاعِلُونَ قال : فضعوا بعضكم رهينة حتى ترجعوا فوضعوا شمعون .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ قال : لا يعرفونه .
{ وجاء إخوة يوسف } روي : أنه لما استوزره الملك أقام العدل واجتهد في تكثير الزراعات وضبط الغلات ، حتى دخلت السنون المجدبة وعم القحط مصر والشأم ونواحيهما ، وتوجه إليه الناس فباعها أولا بالدراهم والدنانير حتى لم يبق معهم شيء منها ، ثم بالحلي والجواهر ثم بالدواب ثم بالضياع والعقار ، ثم برقابهم حتى استرقهم جميعا ثم عرض الأمر على الملك فقال : الرأي رأيك فأعتقهم ورد عليهم أموالهم ، وكان قد أصاب كنعان ما أصاب سائر البلاد فأرسل يعقوب بنيه -غير بنيامين- إليه للميرة . { فدخلوا عليه فعرفهم وهم له منكرون } أي عرفهم يوسف ولم يعرفوه لطول العهد ومفارقتهم إياه في سن الحداثة ونسيانهم إياه ، وتوهمهم أنه هلك وبعد حاله التي رأوه عليها من حاله حين فارقوه وقلة تأملهم في حلاه من التهيب والاستعظام .
طوى القرآن أخَرة أمر امرأةِ العزيز وحلولَ سني الخصب والادّخار ثم اعتراء سني القحط لقلة جدوى ذلكَ كله في الغرض الذي نزلت السورة لأجله ، وهو إظهار ما يلقاه الأنبياء من ذويهم وكيف تكون لهم عاقبة النصر والحسنى ، ولأنه معلوم حصوله ، ولذلك انتقلت القصة إلى ما فيها من مصير إخوة يوسف عليه السلام في حاجة إلى نعمته ، ومن جمع الله بينه وبين أخيه الذي يحبه ، ثم بينه وبين أبويه ، ثم مظاهر عفوه عن إخوته وصلته رحمهُ ، لأن لذلك كله أثراً في معرفة فضائله .
وكان مجيء إخوة يوسف عليه السلام إلى مصر للمِيرة عند حلول القحط بأرض مصر وما جاورها من بلاد فلسطين منازل آل يوسف عليه السلام ، وكان مجيئهم في السنة الثانية من سني القحط . وإنما جاء إخوته عدا بنيامين لصغره ، وإنما رحلوا للميرة كلهم لعل ذلك لأن التزويد من الطعام كان بتقدير يراعى فيه عدد الممتارين ، وأيضاً ليكونوا جماعة لا يَطمع فيهم قطاع الطريق ، وكان الذين جاءوا عشرة . وقد عُرف أنهم جاءوا ممتارين من تقدم قوله : { قال اجعلني على خزائن الأرض } [ يوسف : 55 ] وقوله الآتي : { ألا ترون أني أوفي الكيل } [ سورة يوسف : 59 ] .
ودخولهم عليه يدلّ على أنه كان يراقب أمر بيع الطعام بحضوره ويأذن به في مجلسه خشية إضاعة الأقوات لأن بها حياة الأمة .
وعرف يوسف عليه السلام إخوته بعد مضي سنين على فراقهم لقوة فراسته وزكانة عقله دونهم .
وجملة { وهم له منكرون } عطف على جملة { فعرفهم } . ووقع الإخبار عنهم بالجملة الإسمية للدلالة على أن عدم معرفتهم به أمر ثابت متمكن منهم ، وكان الإخبار عن معرفته إياهم بالجملة الفعلية المفيدة للتجدد للدلالة على أن معرفته إياهم حصلت بحدثان رؤيته إياهم دون توسم وتأمل . وقُرن مفعول { منكرون } الذي هو ضمير يوسف عليه السلام بلام التقوية ولم يقل وهم منكرونه لزيادة تقوية جهلهم بمعرفته .
وتقديم المَجرور بلام التقوية في { له منكرون } للرعاية على الفاصلة ، وللاهتمام بتعلق نكرتهم إياه للتنبيه على أن ذلك من صنع الله تعالى وإلا فإن شمائل يوسف عليه السلام ليست مما شأنه أن يجهل وينسَى .
والجهاز بفتح الجيم وكسرها ما يحتاج إليه المسافر ، وأوله ما سافر لأجله من الأحمال . والتجهيز : إعطاء الجهاز .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وجاء إخوة يوسف} من أرض كنعان، {فدخلوا عليه}، أي على يوسف بمصر، {فعرفهم} يوسف، {وهم له منكرون}، يقول: وهم لا يعرفون يوسف...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره:"وَجاءَ إخْوةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ" يوسف، "وَهُمْ "ليوسف "مُنْكِرونَ" لا يعرفونه. وكان سبب مجيئهم يوسف فيما ذكر لي... عن ابن إسحاق، قال: لما اطمأنّ يوسف في ملكه، وخرج من البلاء الذي كان فيه، وخلت السنون المخصبة التي كان أمرهم بالإعداد فيها للسنين التي أخبرهم بها أنها كائنة، جهد الناس في كلّ وجه، وضربوا إلى مصر يلتمسون بها الميرة من كلّ بلدة. وكان يوسف حين رأى ما أصاب الناس من الجهد، قد آسى بينهم، وكان لا يحمل للرجل إلا بعيرا واحدا، ولا يحمل للرجل الواحد بعيرين، تقسيطا بين الناس، وتوسيعا عليهم، فقدم إخوته فيمن قدم عليه من الناس يلتمسون الميرة من مصر، فعرفهم وهم له منكرون، لما أراد الله أن يبلّغ ليوسف عليه السلام ما أراد...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
لما أراد الله أن يبلغ أمر يوسف في ما أراد أن يبلغ جعلهم بحيث لا يعرفونه. لذلك قال: (فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ) أي لا يعرفونه...
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
قال ابن إسحاق والسدي: وإنما جاءُوا ليمتاروا من مصر في سني القحط التي ذكرها يوسف في تفسير الرؤيا، ودخلوا على يوسف لأنه كان هو الذي يتولى بيع الطعام لعزته...
{وهم له منكرون} لأنهم فارقوه صغيراً فكبر، وفقيراً فاستغنى، وباعوه عبداً فصار ملكاً، فلذلك أنكروه، ولم يتعرف إليهم ليعرفوه...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
عَرَفَ يوسفُ- عليه السلام -إخوتَه وأنكروه، لأنهم اعتقدوا أنّه في رِقِّ العبودية لمّا باعوه، بينما يوسف- في ذلك الوقت- كان قاعداً بمكانِ المَلِكِ. فَمَنْ طلب الملِكَ في صفة العبيد متى يعرفه؟ وكذلك منْ يعتقد في صفات المعبودِ ما هو مِنْ صفات الخَلْق... متى يكون عارفاً؟ هيهات هيهات لما يحسبون! ويقال لمَّا أَخْفَوْه صار خفاؤه حجَاباً بينهم وبين معرفتهم إياه، كذلك العاصي.. بخطاياه وزلاتِه تقع غَبَرَةٌ على وجه معرفته...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
لم يعرفوه لطول العهد ومفارقته إياهم في سنّ الحداثة، ولاعتقادهم أنه قد هلك، ولذهابه عن أوهامهم لقلة فكرهم فيه واهتمامهم بشأنه، ولبعد حاله التي بلغها من الملك والسلطان عن حاله التي فارقوه عليها طريحاً في البئر، مشرياً بدراهم معدودة، حتى لو تخيل لهم أنه هو لكذبوا أنفسهم وظنونهم، ولأنّ الملك مما يبدّل الزيّ ويلبس صاحبه من التهيب والاستعظام ما ينكر له المعروف.
وقيل: رأوه على زيّ فرعون عليه ثياب الحرير جالساً على سرير في عنقه طوق من ذهب وعلى رأسه تاج، فما خطر ببالهم أنه هو.
وقيل: ما رأوه إلا من بعيد بينهم وبينه مسافة وحجاب، وما وقفوا إلا حيث يقف طلاب الحوائج، وإنما عرفهم لأنه فارقهم وهم رجال ورأى زيهم قريباً من زيهم إذ ذاك، ولأنّ همته كانت معقودة بهم وبمعرفتهم، فكان يتأمّل ويتفطن...
اعلم أنه لما عم القحط في البلاد، ووصل أيضا إلى البلدة التي كان يسكنها يعقوب عليه السلام وصعب الزمان عليهم فقال لبنيه إن بمصر رجلا صالحا يمير الناس فاذهبوا إليه بدراهمكم وخذوا الطعام فخرجوا إليه وهم عشرة ودخلوا على يوسف عليه السلام وصارت هذه الواقعة كالسبب في اجتماع يوسف عليه السلام مع إخوته وظهور صدق ما أخبر الله تعالى عنه في قوله ليوسف عليه السلام حال ما ألقوه في الجب {لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون} وأخبر تعالى أن يوسف عرفهم وهم ما عرفوه البتة، أما أنه عرفهم فلأنه تعالى كان قد أخبره في قوله: {لتنبئنهم بأمرهم} بأنهم يصلون إليه ويدخلون عليه، وأيضا الرؤيا التي رآها كانت دليلا على أنهم يصلون إليه، فلهذا السبب كان يوسف عليه السلام مترصدا لذلك الأمر، وكان كل من وصل إلى بابه من البلاد البعيدة يتفحص عنهم ويتعرف أحوالهم ليعرف أن هؤلاء الواصلين هل هم إخوته أم لا فلما وصل إخوة يوسف إلى باب داره تفحص عن أحوالهم تفحصا ظهر له أنهم إخوته، وأما أنهم ما عرفوه فلوجوه:
الأول: أنه عليه السلام أمر حجابه بأن يوقفوهم من البعد وما كان يتكلم معهم إلا بالواسطة ومتى كان الأمر كذلك لا جرم أنهم لم يعرفوه لا سيما مهابة الملك وشدة الحاجة يوجبان كثرة الخوف، وكل ذلك مما يمنع من التأمل التام الذي عنده يحصل العرفان...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ودل على تسهيله إذنهم بالفاء فقال: {فدخلوا عليه} أي لأنه كان يباشر الأمور بنفسه كما هو فعل الكفاة الحزمة، لا يثق فيه بغيره {فعرفهم} لأنه كان مرتقباً لحضورهم لعلمه بجدب بلادهم وعقد همته بهم. مع كونه يعرف هيئاتهم في لباسهم وغيره، ولم يتغير عليه كبير من حالهم. لمفارقته إياهم رجالاً {وهم له منكرون} ثابت إنكارهم عريق فيهم وصفهم به، لعدم خطوره ببالهم لطول العهد..
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ودارت عجلة الزمن. وطوى السياق دوراتها بما كان فيها طوال سنوات الرخاء. فلم يذكر كيف كان الخصب، وكيف زرع الناس. وكيف أدار يوسف جهاز الدولة. وكيف نظم ودبر وادخر. كأن هذه كلها أمور مقررة بقوله: (إني حفيظ عليم).. وكذلك لم يذكر مقدم سني الجدب، وكيف تلقاها الناس، وكيف ضاعت الأرزاق.. لأن هذا كله ملحوظ في رؤيا الملك وتأويلها: (ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد يأكلن ما قدمتم لهن إلا قليلا مما تحصنون).. كذلك لم يبرز السياق الملك ولا أحدا من رجاله بعد ذلك في السورة كلها. كأن الأمر كله قد صار ليوسف. الذي اضطلع بالعبء في الأزمة الخانقة الرهيبة. وأبرز يوسف وحده على مسرح الحوادث، وسلط عليه كل الأضواء. وهذه حقيقة واقعية استخدمها السياق استخداما فنيا كاملا في الأداء. أما فعل الجدب فقد أبرزه السياق في مشهد إخوة يوسف، يجيئون من البدو من أرض كنعان البعيدة يبحثون عن الطعام في مصر. ومن ذلك ندرك اتساع دائرة المجاعة، كما ندرك كيف وقفت مصر -بتدبير يوسف- منها، وكيف صارت محط أنظار جيرانها ومخزن الطعام في المنطقة كلها. وفي الوقت ذاته تمضي قصة يوسف في مجراها الأكبر بين يوسف وإخوته وهي سمة فنية تحقق هدفا دينيا في السياق... لقد اجتاح الجدب والمجاعة أرض كنعان وما حولها. فاتجه إخوة يوسف -فيمن يتجهون- إلى مصر. وقد تسامع الناس بما فيها من فائض الغلة منذ السنوات السمان. وها نحن أولاء نشهدهم يدخلون على يوسف، وهم لا يعلمون. إنه يعرفهم فهم هم لم يتغيروا كثيرا. أما يوسف فإن خيالهم لا يتصور قط أنه هو ذاك! وأين الغلام العبراني الصغير الذي ألقوه في الجب منذ عشرين عاما أو تزيد من عزيز مصر شبه المتوج في سنه وزيه وحرسه ومهابته وخدمه وحشمه وهيله وهيلمانه؟ ولم يكشف لهم يوسف عن نفسه. فلا بد من دروس يتلقونها: (فدخلوا عليه فعرفهم وهم له منكرون)...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
طوى القرآن أخَرة أمر امرأةِ العزيز وحلولَ سني الخصب والادّخار ثم اعتراء سني القحط لقلة جدوى ذلكَ كله في الغرض الذي نزلت السورة لأجله، وهو إظهار ما يلقاه الأنبياء من ذويهم وكيف تكون لهم عاقبة النصر والحسنى، ولأنه معلوم حصوله، ولذلك انتقلت القصة إلى ما فيها من مصير إخوة يوسف عليه السلام في حاجة إلى نعمته، ومن جمع الله بينه وبين أخيه الذي يحبه، ثم بينه وبين أبويه، ثم مظاهر عفوه عن إخوته وصلته رحمهُ، لأن لذلك كله أثراً في معرفة فضائله...
وإنما رحلوا للميرة كلهم لعل ذلك لأن التزويد من الطعام كان بتقدير يراعى فيه عدد الممتارين، وأيضاً ليكونوا جماعة لا يَطمع فيهم قطاع الطريق، وكان الذين جاءوا عشرة. وقد عُرف أنهم جاءوا ممتارين من تقدم قوله: {قال اجعلني على خزائن الأرض} [يوسف: 55] وقوله الآتي: {ألا ترون أني أوفي الكيل} [سورة يوسف: 59]. ودخولهم عليه يدلّ على أنه كان يراقب أمر بيع الطعام بحضوره ويأذن به في مجلسه خشية إضاعة الأقوات لأن بها حياة الأمة... ووقع الإخبار عنهم بالجملة الإسمية للدلالة على أن عدم معرفتهم به أمر ثابت متمكن منهم، وكان الإخبار عن معرفته إياهم بالجملة الفعلية المفيدة للتجدد للدلالة على أن معرفته إياهم حصلت بحدثان رؤيته إياهم دون توسم وتأمل. وقُرن مفعول {منكرون} الذي هو ضمير يوسف عليه السلام بلام التقوية ولم يقل وهم منكرونه لزيادة تقوية جهلهم بمعرفته...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
وجاءت السنوات العجاف، وأجدبت الأرض، وقلّ النتاج أو انعدم، وضاقت أحوال الناس في أرضهم، وبدأوا يبحثون عن الطعام في مناطق أخرى لم يزحف إليها الجدب، أو لم يترك أثره الكبير عليها. وكانت فلسطين التي يقيم فيها النبي يعقوب وأهله، إحدى المناطق التي عرض عليها الجدب، واشتد فيها الأمر على الناس، وربما سمعوا أن عزيز مصر قد فتح خزائن الطعام للناس، وأنه يوزعها بينهم بطريقة عادلة، وقد كانت مصر الخصبة في أرضها ونيلها سوقاً للمناطق القريبة منها. وهكذا أعدَّ إخوة يوسف العدة للسفر إليها، ليجلبوا منها الطعام إلى أهاليهم، وذلك بطريقة تجارية يستبدلون فيها بضاعة ببضاعة، أو بنقد. وجاء إخوة يوسف (عليه السلام) {وَجَآءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُواْ عَلَيْهِ} لأنه كان المسؤول الأوّل عن توزيع الطعام، بناءً على الخطة الاقتصادية التي وضعها، مما يفرض أن يكون المشرف على عملية التنفيذ، فكان يستقبل القادمين للشراء، ويتفاوض معهم على مقدار ما يطلبونه من طعام، وما يدفعونه من سعر، {فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ} لأنه كان صغيراً عندما فارقوه، وربما تغيّر الكثير من ملامحه الظاهرة، وربما لكونهم لا يحتملون وجوده في هذه المواقع، لأن طبيعة الظروف التي أحاطت به لا تسمح بذلك، لا سيما وأن القافلة التي عثرت عليه باعته، كعبد في أسواق النخاسة، الأمر الذي جعلهم يستبعدون الفكرة حتى لو قربتها إلى أذهانهم بعض الملامح البارزة في وجهه...
أما بالنسبة ليوسف، فقد كانت ملامحهم في ذهنه، لأنهم كانوا كباراً عندما فارقهم، ولم يحدث في حياتهم تغيير يذكر، يبعد الصورة البارزة لديه. لهذا كانت رؤيته لهم، بمثابة الصدمة التي أعادته إلى الماضي، وربّما يكون قد ساهم في ذلك أنهم كانوا قد ذكروا أسماءهم، ومواقع بلادهم عند قدومهم، فمن المتعارف لدى الناس، سؤال الغرباء عن هويتهم وبلادهم. وهكذا عرضوا على يوسف، ما جاءوا لأجله فقدّم لهم كل ما يريدون، وزاد لهم في الكيل، وأكرم وفادتهم. وربما كان من الطبيعيّ، أن يدور بينه وبينهم حديث عن حياتهم وعن أبيهم وأهلهم لاتصال ذلك باهتمامات يوسف، فلا بد له أن يسأل، بعد أن عرفهم، عن التفاصيل التي تهمه من أمرهم، ومن أمر من يحبهم، بالطريقة التي لا تثير انتباههم واستغرابهم، وقد يكون الحديث قد وصل بهم إلى ذكر أخ شقيق لهم وآخر غير شقيق عندما حدثوه عن عددهم، وعن أشياء أخرى لم يتعرض لها القرآن، لأن أسلوبه، في القصة، يتناول المواقف المهمة في حركة الشخص أو القضية دون الدخول في التفاصيل الصغيرة...