ولهذا أخبر عيسى أنه عبد مربوب كغيره ، فقال : { وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ ْ } الذي خلقنا ، وصورنا ، ونفذ فينا تدبيره ، وصرفنا تقديره .
{ فَاعْبُدُوهُ ْ } أي : أخلصوا له العبادة ، واجتهدوا في الإنابة ، وفي هذا الإقرار بتوحيد الربوبية ، وتوحيد الإلهية ، والاستدلال بالأول على الثاني ، ولهذا قال : { هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ْ } أي : طريق معتدل ، موصل إلى الله ، لكونه طريق الرسل وأتباعهم ، وما عدا هذا ، فإنه من طرق الغي والضلال .
وقوله : وَإنّ اللّهَ رَبّي وَرَبّكُمْ فاعْبُدُوهُ اختلف القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامّة قرّاء أهل المدينة والبصرة : «وأنّ اللّهَ رَبّي وَرَبكُمْ » واختلف أهل العربية في وجه فتح «أن » إذا فتحت ، فقال بعض نحوّيي الكوفة : فُتحت ردّا على عيسى وعطفا عليه ، بمعنى : ذلك عيسى ابن مريم ، وذلك أن الله ربي وربكم . وإذا كان ذلك كذلك كانت أن رفعا ، وتكون بتأويل خفض ، كما قال : ذَلِكَ أنْ لَمْ يَكُنْ رَبّكَ مُهْلِكَ القُرَى بِظُلْمٍ قال : ولو فتحت على قوله : وأوْصَانِي بأن الله ، كان وجها . وكان بعض البصريين يقول : وذُكر ذلك أيضا عن أبي عمرو بن العلاء ، وكان ممن يقرؤه بالفتح إنما فتحت أن بتأويل وَقَضَى أن الله ربي وربّكم . وكانت عامة قرّاء الكوفيين يقرؤونه : وَإنّ اللّهَ بكسر إن بمعنى النسق على قوله : فإنّما يَقُولُ لَهُ . وذُكر عن أبيّ بن كعب أنه كان يقرؤه : «فإنّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ إنّ اللّهَ رَبّي وَرَبّكُمْ » بغير واو .
قال أبو جعفر : والقراءة التي نختار في ذلك : الكسر على الابتداء . وإذا قرىء كذلك لم يكن لها موضع ، وقد يجوز أنّ يكون عطفا على «إنّ » التي مع قوله قالَ إنّي عَبْدُ اللّهِ آتانِيَ الكِتابَ وَإنّ اللّهَ رَبّي وَرَبّكُمْ ولو قال قائل ، ممن قرأ ذلك نصبا : نصب على العطف على الكتاب ، بمعنى : آتاني الكتاب ، وآتاني أن الله ربي وربّكم ، كان وجها حسنا . ومعنى الكلام : وإني وأنتم أيها القوم جميعا لله عبيد ، فإياه فاعبدوا دون غيره . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عمن لايتهم ، عن وهب بن منبه ، قال : عهد إليهم حين أخبرهم عن نفسه ومولده وموته وبعثه إنّ اللّهَ رَبّي وَرَبّكُمْ فاعْبُدُوهُ هذَا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ أي إني وإياكم عبيد الله ، فاعبدوه ولا تعبدوا غيره .
وقوله : هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ يقول : هذا الذي أوصيتكم به ، وأخبرتكم أن الله أمرني به هو الطريق المستقيم ، الذي من سلكه نجا ، ومن ركبه اهتدى ، لأنه دين الله الذي أمر به أنبياءه .
«وإن الله ربي » ، كذلك وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي «وإن » بكسر الألف وذلك بين على الاستئناف وقرأ أبي بن كعب «إن الله » بكسر الألف دون واو . وقوله { فاعبدوه } وقف ثم ابتداء { هذا صراط } أي ما أعلمتكم به عن الله تعالى من وحدانيته ونفي الولد عنه وغير ذلك مما يتنزه عنه طريق واضح مفض إلى النجاة ورحمته .
يجوز أن يكون هذا بقيةً لكلام جرى على لسان عيسى تأييداً لبراءة أمّه وما بينهما اعتراض كما تقدم آنفاً .
والمعنى : تعميم ربوبية الله تعالى لكل الخلق .
وقرأ نافع ، وابن كثير ، وأبو عمرو ، وأبو جعفر ، ورويس عن يعقوب همزة { وأَنَّ } مفتوحة فخرجه الزمخشري أنه على تقدير لام التعليل ، فإن كان من كلام عيسى فهو تعليل لقوله { فاعبدوهُ } على أنه مقدّم من تأخير للاهتمام بالعِلّة لكونها مقررة للمعلول ومثبته له على أسلوب قوله تعالى : { وأنّ المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحداً } [ الجنّ : 18 ] ويكون قوله { فَاعبُدُوهُ } متفرعاً على قوله { إني عَبْدُ الله } [ مريم : 30 ] بعد أن أُردف بما تعلّق به من أحوال نفسه .
ولما اشتمل مدخول لام التعليل على اسم الجلالة أضمر له فيما بعد . وتقدير النظم هكذا : فاعبدوا الله لأنه ربّي وربكم .
ويجوز أن يكون عطفاً على قوله { بالصلاة والزكواة } [ مريم : 31 ] ، أي وأوصاني بأنّ الله ربّي وربكم ، فيكون بحذف حرف الجر وهو مطرد مع ( أنّ ) .
ويجوز أن يكون معطوفاً على { الحَقّ } من قوله { قَولَ الحَقّ } [ مريم : 34 ] على وجه جعل { قَولَ } بمعنى قائل ، أي قائل الحق وقائلُ إن الله ربّي وربّكم ، فإن همزة { أنَّ } يجوز فتحها وكسرها بعد مادة القول .
وإن كان ممّا خوطب النبي صلى الله عليه وسلم بأنْ يقوله كان بتقدير قول محذوف ، أو عطفاً على { مَرْيَمَ } من قوله تعالى : { واذْكُر فِي الكتاب مَرْيَمَ } [ مريم : 16 ] ، أي اذْكر يا محمد أن الله ربّي فكذلك ، ويكون تفريع { فاعبدوه } على قوله : { مَا كانَ لله أن يتَّخِذَ من وَلدٍ سبحانه } [ مريم : 35 ] إلى آخره . . .
وقرأه ابن عامر ، وحمزة ، والكسائي ، وخَلف ، ورَوْح عن يعقوب بكسر همزة { إنَّ } . ووجهها ظاهر على كلا الاحتمالين .
وجملة { هَذا صِراطٌ مسْتَقِيم } تذييل وفذلكة لما سبقه على اختلاف الوجوه . والإشارة إلى مضمون ما تقدّم على اختلاف الوجوه .
والمراد بالصراط المستقيم اعتقاد الحق ، شُبه بالصراط المستقيم على التشبيه البليغ ، شُبه الاعتقاد الحق في كونه موصولاً إلى الهدى بالصراط المستقيم في إيصاله إلى المكان المقصود باطمئنان بال ، وعُلم أن غير هذا كبنَيّات الطريق مَن سلكها ألقت به في المخاوف والمتالف كقوله { وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله } [ الأنعام : 153 ] .