الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَإِنَّ ٱللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمۡ فَٱعۡبُدُوهُۚ هَٰذَا صِرَٰطٞ مُّسۡتَقِيمٞ} (36)

قوله تعالى : { وَإِنَّ اللَّهَ } : قرأ ابن عامرٍ والكوفيون " وإنَّ " بكسر " إنَّ " على الاستئناف ، ويؤيِّدها قراءةُ أُبَيّ { إِنَّ اللَّهَ } بالكسر دون واو .

وقرأ الباقون بفتحها ، وفيها أوجهٌ ، أحدُها : أنها على حَذْفِ حرفِ الجرِّ متعلِّقاً بما بعده ، والتقدير : ولأنَّ اللهَ ربي وربُّكم فاعبُدوه ، كقوله تعالى :

{ وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ اللَّهِ أَحَداً } [ الجن : 18 ] والمعنى لوَحْدانيَّته أَطِيْعوه . وإليه ذهب الزمخشري تابعاً للخليل وسيبويه .

الثاني : أنها عطفٌ على " الصلاةِ " والتقدير : وأوصاني بالصلاةِ وبأنَّ اللهَ . وإليه ذهب الفراء ، ولم يذكر مكيٌّ غيرَه . ويؤيِّده ما في مصحف أُبَيّ " وبأنَّ اللهَ ربي " بإظهار الباءِ الجارَّة . وقد استُبْعِد هذا القولُ لكثرةِ الفواصلِ بين المتعاطفَيْن . وأمَّا ظهورُ الباءِ في مصحفِ أَُبَيّ فلا يُرَجِّحُ هذا لأنها باءُ السببيةِ ، والمعنى : بسبب أنَّ الله ربي وربُّكم فاعبُدوه فهي كاللام .

الثالث : أَنْ تكونَ " أنَّ " وما بعدها نَسَقاً على " أمراً " المنصوبِ ب " قَضَى " والتقدير : وإذا قضى أمراً ، وقضى أنَّ اللهَ ربي وربُّكم . ذكر ذلك أبو عبيدة عن أبي عمرو بن العلاء . واستبعد الناسُ صحةَ هذا النقلِ عن أبي عمرو ؛ لأنَّه من الجلالةِ في العِلْم والمعرفة بمنزلٍ يمنعُه من هذا القولِ ؛ وذلك لأنَّه إذا عَطَفَ على " أمراً " لزم أن يكونَ داخلاً في حَيِّز الشرطِ ب " إذا " ، وكونُه تبارك وتعالى ربُّنا لا يتقيَّد بشرطٍ البتةَ ، بل هو ربُّنا على الإِطلاق . ونسبوا هذا الوهمَ لأبي عبيدةَ كان ضعيفاً في النحو ، وعَدُّوا له غَلَطاتٍ ، ولعلَّ ذلك منها .

الرابع : أَنْ يكونَ في محلِّ رفعٍ خبرِ ابتداءٍ مضمرٍ ، تقديرُه : والأمرُ أنَّ الله ربي وربُّكم . ذُكِر ذلك عن الكسائي ، ولا حاجةَ إلى هذا الإِضمارِ .

الخامس : أَنْ/ يكونَ في محلِّ نصبٍ نَسَقاً على " الكتاب " في قولِه " قال : إني عبد الله آتاني الكتابَ " على أن يكونَ المخاطَبُ بذلك معاصِرِي عيسى عليه السلام ، والقائلُ لهم ذلك عيسى . وعن وَهْب : عَهِدَ إليهم عيسى أنَّ اللهَ ربي وربُّكم . قال هذا القائل : ومَنْ كسرَ الهمزةَ يكون قد عَطَفَ { إِنَّ اللَّهَ } على قوله " إني عبدُ الله " فهو داخِلٌ في حَيِّز القولِ . وتكون الجملُ من قوله { ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ } إلى آخرها جملَ اعتراض ، وهذا من البُعْدِ بمكانٍ .