اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَإِنَّ ٱللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمۡ فَٱعۡبُدُوهُۚ هَٰذَا صِرَٰطٞ مُّسۡتَقِيمٞ} (36)

قوله : { وَإِنَّ الله } : قرأ{[21613]} ابن عامرٍ ، والكوفيُّون " وإنَّ " بكسر " الهمزة " على الاستئناف ، ويؤيِّدها قراءةُ أبيِّ " إن الله " بالكسر ، دون واو ، وقرأ الباقون بفتحها ، وفيها أوجهٌ :

أحدها : أنها على حذف حرف الجرِّ متعلقاً بما بعده ، والتقدير : وأنَّ الله ربِّي وربُّكم فاعبُدُوه ؛ كقوله تعالى : { وَأَنَّ المساجد لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ الله أَحَداً } [ الجن : 18 ] والمعنى : لوحدانيَّته أطيعوه ، وإليه ذهب الزمخشريُّ تابعاً للخليل وسيبويه{[21614]} - رحمة الله عليهم- .

الثاني : أنها عطفٌ على " الصلاةِ " والتقديرُ : وأوصاني بالصلاةِ ، وبأنَّ الله ، وإليه ذهب الفراء{[21615]} ، ولم يذكر مكِّي{[21616]} غيره ؛ ويؤيِّده ما في مصحف أبيِّ " وبأنَّ الله ربِّي " بإظهار الباءِ الجارَّة ، وقد استُبْعِد هذا القولُ ؛ لكثرةِ الفواصل بين المتعاطفين ، وأمَّا ظهورُ الباءِ في مصحفِ أبيٍّ ؛ فلا يُرجِّحُ هذا ؛ لأنها باءُ السببيةِ ، والمعنى : بسببِ أنَّ اله ربِّي وربُّكم فاعبدُوهُ ، فهي كاللاَّم .

الثالث : أن تكون " أنَّ " وما بعدها نسقاً على " أمْراً " المنصُوب ب " قَضَى " والتقديرُ : وإذا قضى أمراً ، وقضى أنَّ الله ربِّي وربُّكم ، ذلك أبو عبيدة عن أبي عمرو بن العلاءِ ، واستبعد الناسُ صحَّة هذا النقلِ عن أبي عمرو ؛ لأنَّه من الجلالةِ في العلم والمعرفة بمنزلٍ يمنعهُ من هذا القولِ ؛ وذلك لأنَّه إذا عطف على " أمْراً " لزم أن يكون داخلاً في حيِّز الشرطِ ب " إذَا " وكونهُ تبارك وتعالى ربنا لا يتقيَّد بشرطٍ ألبتة ، بل هو ربُّنا على الإطلاق ، ونسبوا هذا الوهم أبي عبيدة ؛ لأنَّه كان ضعيفاً في النَّحو ، وعدُّوا له غلطاتٍ ، ولعلَّ ذلك منها .

الرابع : أن يكون في محلِّ رفع خبر ابتداءٍ مضمرٍ ، تقديره : والأمرُ أنَّ الله ربِّي وربُّكم ، ذكر ذلك عن الكسائيِّ ، ولا حاجة إلى هذا الإضمارِ .

الخامس : أن يكون في محلِّ نصبٍ نسقاً على " الكتاب " في قوله { قال إني عبدُ الله آتاني الكتابَ } على أن يكونَ المخاطبُ بذلك مُعاصِري عيسى - عله صلوات الله- والقائلُ لهم ذلك عيسى ، وعن وهبٍ ، عهد إليهم عيسى : أنَّ الله ربي وربُّكم ، قال هذا القائل : ومن كسر الهمزة يكون قد عطف " إنَّ الله " على قوله { إنِّي عبد الله } فهو داخلٌ في حيِّز القولِ ، وتكون الجملُ من قوله { ذلك عيسى ابْنُ مريمَ } إلى آخرها جمل اعتراضٍ .

وهذا من البعد بمكان كأنَّه قال : إنَّي عبد الله ، والله ربِّي وربُّكم ، فاعبدوه ، وهذا قول أبي مسلمٍ{[21617]} ، الأصفهانيِّ ، وهو بعيدٌ .

فصل في دلالة الآية

قوله : { وَإِنَّ الله رَبِّي وَرَبُّكُمْ } يدلُّ على أنَّ مدبِّر العالمِ ، ومصلح أمورهم هو الله سبحانه وتعالى [ على ] خلافِ قول المُنَجَّمين : أنَّ المدبِّر للنَّاسِ ، ومُصلحَ أمورهم في السَّعادةِ والشَّقاوةِ هي الكواكبُ ، ويدلُّ أيضاً على أنَّ الإله واحدٌ ؛ لأنَّ لفظ " الله " اسمٌ علمٌ له سبحانه ، لا إله إلا هو ، فلمَّا قال : { وَإِنَّ الله رَبِّي وَرَبُّكُمْ } ، أي : لا ربِّ للمخلوقاتِ سوى الله ؛ وذلك يدلُّ على التَّوحيد .

وقوله { فاعْبُدُوهُ } قد ثبت في أصُول الفقهِ أنَّ ترتيب الحكم على الوصف المناسب مُشْعِرٌ بالعليَّة ، فها هنا وقع الأمر بالعبادة مُرتبَّا على ذكر وصف الربوبيَّة ، فدلَّ على أنَّه إنَّما يلزمنا عبادته سبحانه ؛ لكونه ربَّا لنا ؛ وذلك يدلُّ على أنه تعالى إنَّما تجبُ عيادتهُ لكونُهُ منعماً على الخلائق بأنواع النِّعم ؛ ولذلك فإنَّ إبراهيم- صلوات الله عليه وسلامه- لمَّا منع أباه من عبادة الأوثان ، قال : { لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ وَلاَ يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً } [ مريم : 42 ] أي : إنَّها لما لم تكن منعمة على العبادِ ، لم تجزِ عبادتها ، وبيّن ها هنا أنَّه لما ثبت أن الله تعالى لمَّا كلن ربَّا ومُربَّياً ، وجبتْ عبادتهُ ، فقد ثبت طرداً وعكساً تعلُّق العبادة والصاحبة صراط مُنْعِماً ، ثم قال : { هذا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ } [ يعني القول بالتوحيد ونفي الولد والصاحبة صراط مستقيم ، وسمي هذا القول صراطاً مستقيماً ]{[21618]} تشبيهاً بالطَّريق ؛ لأنَّه المؤدِّي إلى الجنة .


[21613]:ينظر في قراءتها: السبعة 410، والنشر 2/318، والحجة 444، والتيسير 149، والحجة للفراء السبعة 5/202، وإعراب القراءات 2/19 والإتحاف 2/237، والقرطبي 11/72، والبحر 6/179.
[21614]:ينظر: الكتاب 1/464 – 465.
[21615]:ينظر: معاني القرآن للفراء 2/168.
[21616]:ينظر: المشكل 2/57.
[21617]:ينظر: الفخر الرازي 21/187.
[21618]:سقط من:أ.