{ وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ } مستعليا بباطله ، قد غره ملكه ، وأطغاه ماله وجنوده : { يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ } أي : ألست المالك لذلك ، المتصرف فيه ، { وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي } أي : الأنهار المنسحبة من النيل ، في وسط القصور والبساتين . { أَفَلَا تُبْصِرُونَ } هذا الملك الطويل العريض ، وهذا من جهله البليغ ، حيث افتخر بأمر خارج عن ذاته ، ولم يفخر بأوصاف حميدة ، ولا أفعال سديدة .
ولكن الجماهير قد تؤخذ بالخوارق المعجزة ، وقد يجد الحق سبيلاً إلى قلوبها المخدوعة . وهنا يبرز فرعون في جاهه وسلطانه ، وفي زخرفه وزينته ، يخلب عقول الجماهير الساذجة بمنطق سطحي ، ولكنه يروج بين الجماهير المستعبدة في عهود الطغيان ، المخدوعة بالأبهة والبريق :
( ونادى فرعون في قومه : قال : يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي ? أفلا تبصرون ? أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ، ولا يكاد يبين ? فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين ? )
إن ملك مصر وهذه الأنهار التي تجري من تحت فرعون ، أمر قريب مشهود للجماهير ، يبهرها وتستخفها الإشارة إليه . فأما ملك السماوات والأرض وما بينهما - ومصر لا تساوي هباءة فيه - فهو أمر يحتاج إلى قلوب مؤمنة تحسه ، وتعقد الموازنة بينه وبين ملك مصر الصغير الزهيد !
والجماهير المستعبدة المستغفلة يغريها البريق الخادع القريب من عيونها ؛ ولا تسمو قلوبها ولا عقولها إلى تدبر ذلك الملك الكوني العريض البعيد !
يقول تعالى ذكره : وَنادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ من القبط ، فقالَ يا قَوْم ألَيْسَ لي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأنهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي ، أفَلا تُبْصِرُونَ يعني بقوله : مِنْ تَحْتِي : من بين يديّ في الجنان . كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَهَذِهِ الأنهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي قال : كانت لهم جنات وأنهار ماء .
وقوله : أفَلا تُبْصِرُونَ يقول : أفلا تبصرون أيها القوم ما أنا فيه من النعيم والخير ، وما فيه موسى من الفقر وعيّ اللسان ، افتخر بملكه مصر عدوّ الله ، وما قد مكّن له من الدنيا استدراجا من الله له ، وحسب أن الذي هو فيه من ذلك ناله بيده وحوله ، وأن موسى إنما لم يصل إلى الذي يصفه ، فنسبه من أجل ذلك إلى المهانة محتجا على جهلة قومه بأن موسى عليه السلام لو كان محقا فيما يأتي به من الاَيات والعبر ، ولم يكن ذلك سحرا ، لأكسب نفسه من المُلك والنعمة ، مثل الذي هو فيه من ذلك جهلاً بالله واغترارا منه بإملائه إياه .
{ ونادى فرعون } بنفسه أو بمناديه . { في قومه } في مجمعهم أو فيما بينهم بعد كشف العذاب عنهم مخافة أن يؤمن بعضهم . { قال يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار } أنهار النيل ومعظمها أربعة أنهر : نهر الملك ، ونهر طولون ، ونهر دمياط ، ونهر تنيس . { تجري من تحتي } تحت قصري أو أمري ، أو بين يدي في جناني والواو إما عاطفة لهذه { الأنهار } على الملك و { تجري } حال منها . أو واو حال وهذه مبتدأ و { الأنهار } صفتها و { تجري } خبرها . { أفلا تبصرون } ذلك .
نداء فرعون يحتمل أن يكون بلسانه في ناديه ، ويحتمل أن يكون بأن أمر من ينادي في الناس ، ومعنى هذه الحجة التي نادى بها أنه أراد أن يبين فضله على موسى ، إذ هو ملك مصر ، وصاحب الأنهار والنعم ، وموسى خامل متعلل لا دنيا له ، قال : فلو أن إله موسى يكون حقاً كما يزعم ، لما ترك الأمر هكذا و : { مصر } من بحر الإسكندرية إلى أسوان بطول النيل . و : { الأنهار } التي أشار إليها هي الخلجان الكبار الخارجة من النيل وعظمها نهر الإسكندرية وتنيس ودمياط ونهر طولون .
لما كُشف عنهم العذاب بدعوة موسى ، وأضمر فرعون وملؤه نكث الوعد الذي وعدوه موسى بأنهم يهتدون ، خشِي فرعون أن يتبع قومُه دعوةَ موسى ويؤمنوا برسالته فأعلن في قومه تذكيرهم بعظمة نفسه ليثبّتهم على طاعته ، ولئلا يُنقل إليهم ما سأله من موسى وما حصل من دَعوته بكشف العذاب وليحسبوا أن ارتفاع العذاب أمر اتفاقي إذ قومه لم يطلعوا على ما دار بينه وبين موسى من سؤال كشف العذاب .
والنداء : رفع الصوت ، وإسناده إلى فرعون مجاز عقلي ، لأنه الذي أمر بالنداء في قومه . وكان يتولى النداءَ بالأمور المهمة الصادرة عن الملوك والأمراءِ مُنادون يعيَّنون لذلك وربما نادوا في الأمور التي يراد عِلم الناس بها . ومن ذلك ما حكي في قوله تعالى في سورة يُوسف ( 70 ) { ثم أذَّنَ مؤذِّنٌ أيّتها العِير إنَّكم لسارقون } وقوله تعالى : { فأرسل فرعون في المدائن حاشرين إنّ هؤلاء لشرذمةٌ قليلون وإنهم لنا لغائظون } [ الشعراء : 53 55 ] .
ووقع في المقامة الثلاثين للحريري : « فلما جلس كأنه ابنُ ماء السماء ، نَادى مُنادٍ من قِبَل الأحْماء ، وحُرْمَةِ ساسان أستاذِ الأُستَاذِين ، وقِدوة الشحّاذين ، لا عَقَد هذا العقدَ المبجّل ، في هذا اليوم الأغرِّ المحجّل ، إلا الذي جالَ وجاب ، وشَبّ في الكُدية وشاب » . فذلك نداء لإعلان العقد .
وجملة { قال } الخ مبيّنة لجملة { نادى } ، والمجاز العقلي في { قال } مثل الذي في { ونادى فرعون } .
وفرعون المحكي عنه في هذه القصة هو منفطاح الثاني .
فالأنهار : فروع النيل وتُرَعُه ، لأنها لعظمها جعل كل واحد منها مثل نهر فجمعت على أنهار وإنما هي لنهر واحد هو النيل . فإن كان مقر ملك فرعون هذا في مدينة منفيس فاسم الإشارة في قوله : { وهذه الأنهار } إشارة إلى تفاريع النيل التي تبتدىء قرب القاهرة فيتفرع النيل بها إلى فرعين عظيمين فرع دِمياط وفرع رَشيد ، وتعرف بالدّلتا . وأحسب أنه الذي كان يدعَى فرع تنيس لأن تنيس كانت في تلك الجهة وغَمرها البحر ، وله تفاريع أخرى صغيرة يسمى كل واحد منها تُرعة ، مثل ترعة الإسماعيلية ، وهنالك تفاريع أخرى تُدْعى الرياح . وإن كان مقر ملكه طيبة التي هي بقرب مدينة آبو اليومَ فالإشارة إلى جَداول النيل وفروعه المشهورة بين أهل المدينة كأنها مشاهدة لعيونهم .
ومعنى قوله : { تجري من تحتي } يحتمل أن يكون ادَّعى أنّ النيل يجري بأمره ، فيكون { من تحتي } كناية عن التسخير كقوله تعالى : { كانتا تَحتَ عبدين من عبادنا صالحين } [ التحريم : 10 ] أي كانتا في عصمتهما . ويقول النّاس : دخلت البلدةُ الفلانية تحت الملك فلان ، ويحتمل أنه أراد أن النيل يجري في مملكته من بلاد أصوان إلى البحر فيكون في { تحتي } استعارة للتمكن من تصاريف النيل كالاستعارة في قوله تعالى : { قد جعل ربّك تَحْتَكِ سريًّا } [ مريم : 24 ] على تفسير ( سرياً ) بنهر ، وكان مثل هذا الكلام يروج على الدهماء لسذاجة عقولهم . ويجوز أن يكون المراد بالأنهار مصبّ المياه التي كانت تسقي المدينة والبساتين التي حولها وأن توزيع المياه كان بأمره في سِدادٍ وخَزَّانات ، فهو يهوّل عليهم بأنه إذا شاء قَطَعَ عنهم الماء على نحو قول يوسف { ألا ترون أني أُوفي الكيل وأنا خير المُنْزِلين } [ يوسف : 59 ] فيكون معنى { من تحتي } من تحت أمري أي لا تجري إلا بأمري ، وقد قيل : كانت الأنهار تجري تحت قصره .
والاستفهام في { أفلا تبصرون } تقريري جاء التقرير على النفي تحقيقاً لإقرارهم حتى أن المقرر يفرض لهم الإنكار فلا ينكرون .