{ 90 - 94 } { وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي * قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى * قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا * أَلَّا تَتَّبِعَنِي أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي * قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي }
أي : إن اتخاذهم العجل ، ليسوا معذورين فيه ، فإنه وإن كانت عرضت لهم الشبهة في أصل عبادته .
وقوله : " وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ منْ قَبْل " : يقول : لقد قال لعبدة العجل من بني إسرائيل هارون ، من قبل رجوع موسى إليهم ، وقيله لهم ما قال ، مما أخبر الله عنه " إنّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ " يقول : إنما اختبر الله إيمانكم ومحافظتكم على دينكم بهذا العجل ، الذي أحدث فيهم الخوار ، ليعلم به الصحيح الإيمان منكم من المريض القلب ، الشاكّ في دينه ، كما :
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال لهم هارون : " إنّما فُتِنْتُمْ بِهِ " يقول : إنما ابتليتم به ، يقول : بالعجل .
وقوله : " وَإنّ رَبّكُمُ الرّحْمَنُ فاتّبِعُونِي وأطيعُوا أمْرِي " : يقول : وإن ربكم الرحمن الذي يعمّ جميع الخلق نعمه ، فاتّبعوني على ما آمركم به من عبادة الله ، وترك عبادة العجل ، وأطيعوا أمري فيما آمركم به من طاعة الله ، وإخلاص العبادة له .
وأخبر عز وجل أن { هارون } قد كان لهم في أول حال العجل { يا قوم } إنما هي فتنة وبلاء وتمويه من السامري وإنما { ربكم الرحمن } الذي له القدرة والعلم والخلق والاختراع { فاتبعوني } إلى الطور الذي واعدكم الله تعالى إليه { وأطيعوا أمري } في ما ذكرته لكم وقرأت فرقة «إنما وإن ربكم الرحمن » بكسر الهمزتين ، وقرأت فرقة «إنما » بالكسر «وأن » بالفتح ، والقراءة الوسطى ضعيفة .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ولقد قال لهم هارون من قبل} أن يأتيهم موسى من الطور {يا قوم إنما فتنتم به} يعني: ابتليتم بالعجل {وإن ربكم الرحمن فاتبعوني} على ديني {وأطيعوا أمري}، يعني: قولي.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
"وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ منْ قَبْل": يقول: لقد قال لعبدة العجل من بني إسرائيل هارون، من قبل رجوع موسى إليهم، وقيله لهم ما قال، مما أخبر الله عنه "إنّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ "يقول: إنما اختبر الله إيمانكم ومحافظتكم على دينكم بهذا العجل، الذي أحدث فيهم الخوار، ليعلم به الصحيح الإيمان منكم من المريض القلب، الشاكّ في دينه...
"وَإنّ رَبّكُمُ الرّحْمَنُ فاتّبِعُونِي وأطيعُوا أمْرِي": يقول: وإن ربكم الرحمن الذي يعمّ جميع الخلق نعمه، فاتّبعوني على ما آمركم به من عبادة الله، وترك عبادة العجل، وأطيعوا أمري فيما آمركم به من طاعة الله، وإخلاص العبادة له.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{ولقد قال لهم هارون من قبل يا قوم إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمان} يذكر، والله أعلم، بهذا رسوله أن الذين كذبوك، وجحدوا رسالتك، لم يكذبوك لجهلهم بالرسالة، ولكن 3 لتعنتهم وعنادهم على ما ذكر، وأنبأه من قول هارون لقومه لما عبدوا العجل حين قال {يا قوم إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمان} فكأنه يؤنسه من إيمان أولئك لعنادهم، وهو ما قال: {أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون} [البقرة: 75].
وقوله تعالى: {إنما فتنتم به} يحتمل وجهين:
أحدهما: {فتنتم} أي صرتم مفتونين بصوته وخواره أو بغيره.
والثاني: {فتنتم به} أي ضللتم به أي بالعجل {وإن ربكم الرحمان}.
قوله تعالى: {فاتبعوني} أي أجيبوا لي إلى ما أدعوكم به {وأطيعوا أمري} أي ما آمركم به.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
ثم أخبر أن هارون قال لهم قبل ذلك "يا قوم إنما فتنتم به "أي ابتليتم واختبرتم به. "وإن ربكم الرحمن" أي الذي يستحق العبادة عليكم هو الرحمن الذي أنعم عليكم بضروب النعم، "فاتبعوني" فيما أقول لكم: "وأطيعوا أمري" فيما آمركم به.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
إنهم لم يحفظوا أمر موسى وهو فوق هارون، والإشارة في هذا أن من لم يحفظ أمر مَنْ هو أعلى رتبةً كيف يحفظ أمر من هو أدنى منزلةً؟ فَمَنْ تَرَكَ أَمْر الحقِّ... كيف يُطْمَعُ فيه أن يحترم الشيوخَ وأكلَ الناس؟ لهذا قيل: لا حُرْمَةَ لفاسق؛ لأنه إذا تَرَكَ حقَّ الحق فمتى يحفظ حَقَّ الخَلْقِ؟
اعلم أن هارون عليه السلام إنما قال ذلك شفقة منه على نفسه وعلى الخلق؛ أما شفقته على نفسه، فلأنه كان مأمورا من عند الله بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وكان مأمورا من عند أخيه موسى عليه السلام بقوله: {اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين}، فلو لم يشتغل بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لكان مخالفا لأمر الله تعالى ولأمر موسى عليه السلام وذلك لا يجوز...وأما الشفقة على المسلمين فلأن الإنسان يجب أن يكون رقيق القلب مشفقا على أبناء جنسه وأي شفقة أعظم من أن يرى جمعا يتهافتون على النار فيمنعهم منها...
واعلم أن هارون عليه السلام سلك في هذا الوعظ أحسن الوجوه لأنه زجرهم عن الباطل أولا بقوله: {إنما فتنتم به} ثم دعاهم إلى معرفة الله تعالى ثانيا بقوله: {وإن ربكم الرحمن} ثم دعاها ثالثا إلى معرفة النبوة بقوله: {فاتبعوني} ثم دعاهم إلى الشرائع رابعا بقوله: {وأطيعوا أمري} وهذا هو الترتيب الجيد لأنه لا بد قبل كل شيء من إماطة الأذى عن الطريق وهو إزالة الشبهات ثم معرفة الله تعالى هي الأصل ثم النبوة ثم الشريعة، فثبت أن هذا الترتيب على أحسن الوجوه، وإنما قال: {وإن ربكم الرحمن} فخص هذا الموضع باسم الرحمن لأنه كان ينبئهم بأنهم متى تابوا قبل الله توبتهم لأنه هو الرحمن الرحيم، ومن رحمته أن خلصهم من آفات فرعون.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان الذنب مع العلم أبشع، والضلال بعد البيان أشنع، قال عاطفاً على قوله {قال يا قوم ألم يعدكم} أو على قوله "قالوا ما أخلفنا ": {ولقد قال لهم هارون} أي مع أن من لم يعبده لم يملكوا رد من عبده.
ولما كان قولهم في بعض ذلك الزمان، قال: {من قبل} أي من قبل رجوع موسى، مستعطفاً لهم: {يا قوم} ثم حصر أمرهم ليجتمع فكرهم ونظرهم فقال: {إنما فتنتم} أي وقع اختباركم فاختبرتم في صحة إيمانكم وصدقكم فيه وثباتكم عليه {به} أي بهذا التمثال في إخراجه لكم على هذه الهيئة الخارقة للعادة. وأكد لأجل إنكارهم فقال: {وإن ربكم} أي الذي أخرجكم من العدم ورباكم بالإحسان {الرحمن} وحده الذي فضله عام ونعمه شاملة، فليس على بر ولا فاجر نعمة إلا وهي منه قبل أن يوجد العجل، وهو كذلك بعده. ومن رحمته قبول التوبة، فخافوا نزع نعمه بمعصيته، وارجوا إسباغها بطاعته {فاتبعوني} بغاية جهدكم في الرجوع إليه {وأطيعوا أمري} في دوام الشرف بالخضوع لديه، ودوام الإقبال عليه، يدفع عنكم ضيره، ويفيض عليكم خيره.
تفسير القرآن للمراغي 1371 هـ :
{وإن ربكم الرحمن}...وفي ذكر الربوبية والرحمة استمالة لهم إلى الحق إثر زجرهم عن الباطل، وتذكير لهم بإنجائهم من فرعون وعذابه، وتنبيه لهم إلى أنهم متى تابوا قبلت توبتهم.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
الجملة في موضع الحال من ضمير {أفلا يرون} على كلا الاحتمالين، أي كيف لا يستدلّون على عدم استحقاق العجل الإلهيّة، بأنه لا يرجع إليهم قولاً ولا يملك لهم ضرّاً ولا نفعاً فيقلعون عن عبادة العجل، وتلك دلالة عقلية، في حال أنّ هارون قد وعظهم ونبههم إلى ذلك إذ ذكّرهم بأنه فتنة فتنهم بها السامريّ، وأن ربّهم هو الرحمان لا ما لا يملك لهم نفعاً فضلاً عن الرحمة، وأمرهم بأن يتبعوا أمره، وتلك دلالة سمعيّة... والمضاف إليه (قبلُ) محذوف دل عليه المقام، أي من قبلِ أن يرجعَ إليهم موسى وينكر عليهم.
وافتتاح خطابه ب {يا قوم} تمهيد لمقام النصيحة.
ومعنى {إنَّمَا فُتِنْتُم بِه}: ما هو إلاّ فتنة لكم وليس ربّاً، وإن ربّكم الرحمان الذي يرحمكم في سائر الأحوال، فأجابوه بأنّهم لا يزالون عاكفين على عبادته حتى يرجع موسى فيصرّح لهم بأن ذلك العجل ليس هو ربّهم.
ورتب هارون خطابه على حسب الترتيب الطبيعي لأنه ابتدأه بزجرهم عن الباطل وعن عبادة ما ليس برب، ثمّ دعاهم إلى معرفة الرب الحق، ثمّ دعاهم إلى اتباع الرسول إذ كان رسولاً بينهم، ثم دعاهم إلى العمل بالشرائع، فما كان منهم إلاّ التصميم على استمرار عبادتهم العجل فأجابوا هارون جواباً جازماً.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
كان هارون الذي خلف موسى في قومه موقف المرشد الهادي لا موقف الساكت الممالئ، قال لهم عند تدليهم: {يا قوم إنما فتنتم به} قال لهم بمجرد أن رأى منهم عبادة العجل قبل أن يحضر موسى إليهم، وقبل أن يعرف لموسى أمر فتنتهم {إنما فتنتم به} أي اختبر إيمانكم بهذه الصورة صورة العجل... أي أنه ليس له حقيقة أي حقيقة حتى تجعلوه إلها يعبد، ولكنها فتنة نفوسكم التي أثرت فيها إقامتكم في أرض الفراعنة. قال لهم نبي الله هارون عليه السلام ذلك في إبانه، فما قصر في إرشاد، ولكن لم يؤثر فيهم ذلك القول، كما لو كان من موسى عليه السلام، لأن موسى الأصيل في الرسالة، وهارون ردء له، فلم يكن له تأثيره، وكأنهم لا يقرون برياسة إلا لموسى، ومع أنه قرر حقيقة بدهية، وهي أن ربهم الرحمن، وطالبهم بأن يتبعوه ولا يخالفوه في أمر، مع ذلك أعلنوا ما يفيد أنهم لا يعترفون إلا بموسى رئيسا مطاعا، وقبل أن ننقل قولهم الذي أفاد إصرارهم نقول أولا: إن هارون ناداهم بما يقربهم إليه ويؤنسهم به فقال: {يا قوم} فهذا إشعار بالرباط الذي يربطهم به نسبا، ويدنيهم إليه. ويقول ثانيا مؤكدا الفتنة التي يجب أن يتركوها، والمفتون تزول فتنته عند أول تنبيه إليها، ومع ذلك لم يتركوها ويعودوا إلى الصواب الذي يوافق العقول، ويذكر ثالثا وينتقل من هذا الإرشاد إلى الأمر الذي يجب أن يأخذوا فيقول: {فاتبعوني وأطيعوا أمري} وكان يجب أن يطيعوه لأنه رسول مع موسى وردؤه، ومخالفته مخالفة لموسى، ولكن رجس الوثنية قد ثبت في نفوسهم، ولا ينخلع منه،... وعبارة {وإن ربكم الرحمن} تفيد القصر أي لا معبود غيره لأنه الرب الخالق المدبر لشئونكم الحي القيوم.
... وكان هارون – عليه السلام – خليفة لأخيه في غيبته، كما قال تعالى: {وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين (142)} (الأعراف). اخلفني واعمل الصالح، فكان هذا تفويضا من موسى لأخيه هارون أن يقضي في القوم بما يراه مناسبا، وأن يقدر المصلحة كما يرى. وقد شفع هذا التفويض لهارون أمام أخيه بعد ذلك. فقوله تعالى: {وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِن قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُم بِهِ}. وهكذا وعظهم هارون على قدر استطاعته، وبين لهم أن مسألة العجل هذه اختبار من الله. وكان تقديره في هذه القضية ألا يدخل مع هؤلاء في معركة. لذلك اكتفى بالوعظ {يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُم بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَانُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي} كما أخذتم العهد عند موسى.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
... ولا شكّ أنّ هارون، خليفة موسى ونبي الله الكبير، لم يرفع يده عن رسالته في هذا الصخب والغوغاء، وأدّى واجبه في محاربة الانحراف والفساد قدر ما يستطيع كما يقول القرآن: (ولقد قال لهم هارون من قبل يا قوم إنّما فتنتم به) ثمّ أضاف: (وإنّ ربّكم الرحمن)...
أنسيتم أنّ أخي موسى قد نصّبني خليفة له وفرض عليكم طاعتي؟ فلماذا تنقضون الميثاق؟ ولماذا ترمون بأنفسكم في هاوية الفناء؟ إلاّ أنّ بني إسرائيل تمسكّوا بهذا العجل عناداً، ولم يؤثّر فيهم المنطق السليم القوي لهذا الرجل، ولا أدلّة هذا القائد الحريص، وأعلنوا مخالفتهم بصراحة: (قالوا لن نبرح عليه عاكفين حتّى يرجع إلينا موسى).