مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَلَقَدۡ قَالَ لَهُمۡ هَٰرُونُ مِن قَبۡلُ يَٰقَوۡمِ إِنَّمَا فُتِنتُم بِهِۦۖ وَإِنَّ رَبَّكُمُ ٱلرَّحۡمَٰنُ فَٱتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوٓاْ أَمۡرِي} (90)

قوله تعالى :{ ولقد قال لهم هارون من قبل يا قوم إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمن فاتبعوني وأطيعوا أمري ، قالوا لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى }

اعلم أن هارون عليه السلام إنما قال ذلك شفقة منه على نفسه وعلى الخلق أما شفقته على نفسه فلأنه كان مأمورا من عند الله بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وكان مأمورا من عند أخيه موسى عليه السلام بقوله : { اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين } فلو لم يشتغل بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لكان مخالفا لأمر الله تعالى ولأمر موسى عليه السلام وذلك لا يجوز ، أوحى الله تعالى إلى يوشع بن نون أني مهلك من قومك أربعين ألفا من خيارهم وستين ألفا من شرارهم ، فقال : يا رب هؤلاء الأشرار فما بال الأخيار ؟ فقال : إنهم لم يغضبوا لغضبي . وقال ثابت البناني قال أنس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من أصبح وهمه غير الله تعالى فليس من الله في شيء ومن أصبح لا يهتم بالمسلمين فليس منهم " . وعن الشعبي عن النعمان بن بشير عن النبي صلى الله عليه وسلم : " مثل المؤمنين في تواددهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى عضو منه تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى " وقال أبو علي الحسن الغوري : كنت في بعض المواضع فرأيت زورقا فيها دنان مكتوب عليها لطيف فقلت للملاح : إيش هذا فقال : أنت صوفي فضولي وهذه خمور المعتضد ، فقلت له : أعطني ذلك المدرى ، فقال لغلامه : أعطه حتى نبصر إيش يعمل ، فأخذت المدرى وصعدت الزورق فكنت أكسر دنا دنا والملاح يصيح حتى بقي واحد فأمسكت فجاء صاحب السفينة فأخذني وحملني إلى المعتضد وكان سيفه قبل كلامه فلما وقع بصره علي قال من أنت ؟ قلت المحتسب ، قال من ولاك الحسبة ؟ قلت : الذي ولاك الخلافة . قال : لم كسرت هذه الدنان ؟ قلت شفقة عليك إذا لم تصل يدي إلى دفع مكروه عنك . قال : فلم أبقيت هذا الواحد قلت إني لما كسرت هذه الدنان فإني إنما كسرتها حمية في دين الله فلما وصلت إلى هذا أعجبت فأمسكت ولو بقيت كما كنت لكسرته ، فقال : اخرج يا شيخ فقد وليتك الحسبة ، فقلت كنت أفعله لله تعالى فلا أحب أن أكون شرطيا . وأما الشفقة على المسلمين فلأن الإنسان يجب أن يكون رقيق القلب مشفقا على أبناء جنسه وأي شفقة أعظم من أن يرى جمعا يتهافتون على النار فيمنعهم منها ، وعن أبي سعيد الخدري عنه عليه السلام : " يقول الله تعالى اطلبوا الفضل عند الرحماء من عبادي تعيشوا في أكنافهم فإني جعلت فيهم رحمتي ولا تطلبوها في القاسية قلوبهم فإن فيهم غضبي " ، وعن عبد الله بن أبي أوفى قال : «خرجت أريد النبي صلى الله عليه وسلم فإذا أبو بكر وعمر معه فجاء صغير فبكى فقال لعمر : ضم الصبي إليك فإنه ضال فأخذه عمر فإذا امرأة تولول كاشفة رأسها جزعا على ابنها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أدرك المرأة " فناداها فجاءت فأخذت ولدها وجعلت تبكي والصبي في حجرها فالتفتت فرأت النبي صلى الله عليه وسلم فاستحيت فقال عليه السلام عند ذلك : " أترون هذه رحيمة بولدها ؟ " قالوا : يا رسول الله كفى بهذه رحمة فقال " والذي نفسي بيده إن الله أرحم بالمؤمنين من هذه بولدها " ويروى : « أنه بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس ومعه أصحابه إذ نظر إلى شاب على باب المسجد فقال : " من أراد أن ينظر إلى رجل من أهل النار فلينظر إلى هذا " فسمع الشاب ذلك فولى ، فقال : إلهي وسيدي هذا رسولك يشهد علي بأني من أهل النار وأنا أعلم أنه صادق ، فإذا كان الأمر كذلك فأسألك أن تجعلني فداء أمة محمد صلى الله عليه وسلم وتشعل النار بي حتى تبر يمينه ولا تشعل النار بأحد آخر ، فهبط جبريل عليه السلام وقال : «يا محمد بشر الشاب بأني قد أنقذته من النار بتصديقه لك وفدائه أمتك بنفسه وشفقته على الخلق » . إذا ثبت ذلك فاعلم أن الأمر بالمعروف والشفقة على المسلمين واجب . ثم إن هارون عليه السلام رأى القوم متهافتين على النار ولم يبال بكثرتهم ولا بقوتهم بل صرح بالحق فقال : { يا قوم إنما فتنتم به } الآية وههنا دقيقة وهي أن الرافضة تمسكوا بقوله عليه السلام لعلي : " أنت مني بمنزلة هرون من موسى " ثم إن هرون ما منعته التقية في مثل هذا الجمع بل صعد المنبر وصرح بالحق ودعا الناس إلى متابعة نفسه والمنع من متابعة غيره ، فلو كانت أمة محمد صلى الله عليه وسلم على الخطأ لكان يجب على علي عليه السلام أن يفعل ما فعله هارون عليه السلام وأن يصعد على المنبر من غير تقية وخوف وأن يقول : { فاتبعوني وأطيعوا أمري } فلما لم يفعل ذلك علمنا أن الأمة كانوا على الصواب ، واعلم أن هرون عليه السلام سلك في هذا الوعظ أحسن الوجوه لأنه زجرهم عن الباطل أولا بقوله : { إنما فتنتم به } ثم دعاهم إلى معرفة الله تعالى ثانيا بقوله : { وإن ربكم الرحمن } ثم دعاها ثالثا إلى معرفة النبوة بقوله : { فاتبعوني } ثم دعاهم إلى الشرائع رابعا بقوله : { وأطيعوا أمري } وهذا هو الترتيب الجيد لأنه لا بد قبل كل شيء من إماطة الأذى عن الطريق وهو إزالة الشبهات ثم معرفة الله تعالى هي الأصل ثم النبوة ثم الشريعة ، فثبت أن هذا الترتيب على أحسن الوجوه ، وإنما قال : { وإن ربكم الرحمن } فخص هذا الموضع باسم الرحمن لأنه كان ينبئهم بأنهم متى تابوا قبل الله توبتهم لأنه هو الرحمن الرحيم ، ومن رحمته أن خلصهم من آفات فرعون