فلما ذكر خلق الإنسان المكلف المأمور المنهي ، ذكر خلق باقي المخلوقات ، فقال : { خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } أي : أجرامهما ، [ وجميع ] ما فيهما ، فأحسن خلقهما ، { بِالْحَقِّ } أي : بالحكمة ، والغاية المقصودة له تعالي ، { وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ } كما قال تعالى : { لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ } فالإنسان أحسن المخلوقات صورة ، وأبهاها منظرًا . { وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ } أي : المرجع يوم القيامة ، فيجازيكم على إيمانكم وكفركم ، ويسألكم عن النعم والنعيم ، الذي أولاكموه{[1112]} هل قمتم بشكره ، أم لم تقوموا بشكره ؟
واللمسة الثالثة تشير إلى الحق الأصيل الكامن في طبيعة الوجود ، الذي تقوم به السماوات والأرض ، كما تشير إلى صنعة الله المبدعة في كيان المخلوق الإنساني . وتقرر رجعة الجميع إليه في نهاية المطاف :
( خلق السماوات والأرض بالحق ، وصوركم فأحسن صوركم ، وإليه المصير ) . .
وصدر هذا النص : ( خلق السماوات والأرض بالحق ) . . يقر في شعور المؤمن أن الحق أصيل في كيان هذا الكون ، ليس عارضا وليس نافلة ؛ فبناء الكون قام على هذا الأساس . والذي يقرر هذه الحقيقة هو الله الذي خلق السماوات والأرض ، والذي يعلم على أي أساس قامتا . واستقرار هذه الحقيقة في الحس يمنحه الطمأنينة والثقة في الحق الذي يقوم عليه دينه ، ويقوم عليه الوجود من حوله ؛ فهو لا بد ظاهر ، ولا بد باق ، ولا بد مستقر في النهاية بعد زبد الباطل !
والحقيقة الثانية : ( وصوركم فأحسن صوركم ) . . تشعر الإنسان بكرامته على الله ، وبفضل الله عليه في تحسين صورته : صورته الخلقية وصورته الشعورية . فالإنسان هو أكمل الأحياء في الأرض من ناحية تكوينه الجثماني ؛ كما أنه أرقاها من ناحية تكوينه الشعوري واستعداداته الروحية ذات الأسرار العجيبة . ومن ثم وكلت إليه خلافة الأرض ، وأقيم في هذا الملك العريض بالقياس إليه !
ونظرة فاحصة إلى الهندسة العامة لتركيب الإنسان ، أو إلى أي جهاز من أجهزته ، تثبت تلك الحقيقة وتجسمها : ( وصوركم فأحسن صوركم ) . . وهي هندسة يجتمع فيها الجمال إلى الكمال . ويتفاوت الجمال بين شكل وشكل . ولكن التصميم في ذاته جميل وكامل الصنعة ، وواف بكل الوظائف والخصائص التي يتفوق بها الإنسان في الأرض على سائر الأحياء .
( وإليه المصير ) . . مصير كل شيء وكل أمر وكل خلق . . مصير هذا الكون ومصير هذا الإنسان . فمن إرادته انبثق ، وإليه - سبحانه - يعود . ومنه المنشأ وإليه المصير . وهو الأول والآخر . المحيط بكل شيء من طرفيه : مبدئه ونهايته . وهو - سبحانه - غير محدود !
القول في تأويل قوله تعالى : { خَلَقَ السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِالْحَقّ وَصَوّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ } .
يقول تعالى ذكره : خلق السموات السبع والأرض بالعدل والإنصاف ، وصوّركم : يقول : ومثلكم فأحسن مثَلكم ، وقيل : إنه عُنِي بذلك تصويره آدم ، وخلقه إياه بيده . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس خَلَقَ السّمَوَاتِ والأرْضَ بالحَقّ وَصَورّرَكُمْ فأحْسَنَ صُوَرَكُمْ يعني آدم خلقه بيده .
وقوله : وَإلَيْهِ المَصِيرُ يقول : وإلى الله مرجع جميعكم أيها الناس .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: خلق السموات السبع والأرض بالعدل والإنصاف،" وصوّركم": يقول: ومثلكم فأحسن مثَلكم... وقيل: إنه عُنِي بذلك تصويره آدم، وخلقه إياه بيده.
وقوله: "وَإلَيْهِ المَصِيرُ "يقول: وإلى الله مرجع جميعكم أيها الناس.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{خلق السماوات والأرض بالحق}...
{بالحق} ههنا أراد به الحكمة؛ كأنه يقول: {خلق السماوات والأرض} بالحكمة. وقال بعضهم: {بالحق} يعني للحق، وهو البعث، فكأنهم عنوا به أن الله تعالى لم يخلقها عبثا، بل خلقها للمعاد. وقوله تعالى: {وصوّركم فأحسن صوركم وإليه المصير} يحتمل هذا وجهين:
أحدهما: أحسن أي أتقن، وأحكم، ومعنى ذلك أن الله تعالى خص صور بني آدام في الاستدلال بوحدانيته وربوبيته في أن جعل في أنفسهم حقيقة المعرفة والاستدلال بأنفسهم على وحدانية الله تعالى...
والثاني: أن يصرف الحسن إلى حسن المنظر؛ ومعنى ذلك أن الله تعالى خلق بني آدم على صورة، لا بد من أن تكون صورتهم مثل صورة غيرهم من الخلائق، فثبت أن صورتهم في المنظر أحسن صورة. فذلك معنى قوله تعالى: {وإليه المصير} يعني البعث. وأضاف ذلك إلى نفسه لأنه هو النهاية والمقصود في خلقهم...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{بالحق} بالغرض الصحيح والحكمة البالغة، وهو أن جعلها مقارّ المكلفين ليعملوا فيجازيهم {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ}... لتشكروا. وإليه مصيركم فجزاؤكم على الشكر والتفريط فيه...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
هذا تعديد النعمة في حسن الخلقة، لأن أعضاء ابن آدم متصرفة لجميع ما تتصرف به أعضاء الحيوان، وبزيادات كثيرة فضل بها، ثم هو مفضل بحسن الوجه، وجمال الجوارح، وحجة هذا قوله تعالى: {لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم} [التين: 4]...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وصدر هذا النص: (خلق السماوات والأرض بالحق).. يقر في شعور المؤمن أن الحق أصيل في كيان هذا الكون، ليس عارضا وليس نافلة؛ فبناء الكون قام على هذا الأساس...
(وصوركم فأحسن صوركم).. تشعر الإنسان بكرامته على الله، وبفضل الله عليه في تحسين صورته: صورته الخلقية وصورته الشعورية. فالإنسان هو أكمل الأحياء في الأرض من ناحية تكوينه الجثماني؛ كما أنه أرقاها من ناحية تكوينه الشعوري واستعداداته الروحية ذات الأسرار العجيبة ....
(وإليه المصير).. مصير كل شيء وكل أمر وكل خلق.. مصير هذا الكون ومصير هذا الإنسان...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{بالحق} إيماء إلى إثبات البعث والجزاء...
{خلق السموات والأرض بالحق} أنه ضد العبث والإِهمال. والمراد ب {خلق السموات والأرض} خلق ذوَاتهن وخلق ما فيهن من المخلوقات كما أنبأ عنه قوله: {وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا بالحق، أي ما خلقناهما وما بينهما إلا بالحقّ...
{وإليه المصير} وكل ذلك توطئة إلى ما سبقه من قوله تعالى: {زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا} [التغابن: 7] الآية. وفي قوله {بالحق} رمز إلى الجزاء وهو وعيد ووعد. وفي قوله: {خلق السموات} إلى آخره إظهار أيضاً لعظمة الله في ملكوته. {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صوركم}. إدماج امتنان على الناس بأنهم مع ما خلقوا عليه من ملابسة الحق على وجه الإِجمال وذلك من الكمال وهو ما اقتضته الحكمة الإلهية فقد خُلقوا في أحسن تقويم إذ كانت صورة الإِنسان مستوفية الحسن...
وتقديم {إليه} على {المصير} للرعاية على الفاصلة مع إفادة الاهتمام بتعلق ذلك المصير بتصرف الله المحض. وليس مراداً بالتقديم قصر لأن المشركين لا يصدقون بهذا المصير من أصله بَلْهَ أن يدَّعوا أنه مصير إلى غيره حتى يُردّ عليهم بالقصر.