قوله تعالى : { فرحين بما آتاهم الله من فضله } . رزقه وثوابه .
قوله تعالى : { ويستبشرون } . ويفرحون .
قوله تعالى : { بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم } . من إخوانهم الذين تركوهم أحياءً في الدنيا على مناهج الإيمان والجهاد لعلمهم أنهم إذا استشهدوا لحقوا بهم ونالوا من الكرامة ما نالوا ، فهم لذلك مستبشرون .
ومع هذا { فرحين بما آتاهم الله من فضله } أي : مغتبطين بذلك ، قد قرت به عيونهم ، وفرحت به نفوسهم ، وذلك لحسنه وكثرته ، وعظمته ، وكمال اللذة في الوصول إليه ، وعدم المنغص ، فجمع الله لهم بين نعيم البدن بالرزق ، ونعيم القلب والروح بالفرح بما آتاهم من فضله : فتم لهم{[174]} النعيم والسرور ، وجعلوا { يستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم } أي : يبشر بعضهم بعضا ، بوصول إخوانهم الذين لم يلحقوا بهم ، وأنهم سينالون ما نالوا ، { ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون } أي : يستبشرون بزوال المحذور عنهم وعن إخوانهم المستلزم كمال السرور
وفي نصب قوله : { فَرِحِين } وجهان : أحدهما : أن يكون منصوبا على الخروج من قوله : { عِنْدَ رَبّهِمْ } والاَخر من قوله : { يُرْزَقُون } . ولو كان رفعا بالردّ على قوله : «بل أحياء فرحون » كان جائزا .
القول في تأويل قوله : { ويَسْتَبْشِرُونَ بالّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أنْ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ } .
يعني بذلك تعالى ذكره : ويفرحون بمن لم يلحق بهم من إخوانهم الذين فارقوهم وهم أحياء في الدنيا على مناهجهمّ ، من جهاد أعداء الله مع رسوله ، لعلمهم بأنهم إن استشهدوا فلحقوا بهم ، صاروا من كرامة الله إلى مثل الذي صاروا هم إليه ، فهم لذلك مستبشرون بهم ، فرحون أنهم إذا صاروا كذلك ، { لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ } يعني بذلك : لا خوف عليهم لأنهم قد أمنوا عقاب الله ، وأيقنوا برضاه عنهم ، فقد أمنوا الخوف الذي كانوا يخافونه من ذلك في الدنيا ، ولا هم يحزنون على ما خلفوا وراءهم من أسباب الدنيا ، ونكد عيشها ، للخَفْض الذي صاروا إليه والدعة والزّلفة ، ونصب أن لا بمعنى : يستبشرون لهم بأنهم لا خوف عليهم ولا هم يحزنون .
وبنحو ما قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { ويَسْتَبْشِرُونَ بالّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ } . . . الاَية ، يقول : لإخوانهم الذين فارقوهم على دينهم وأمرهم لما قدموا عليه من الكرامة والفضل والنعيم الذي أعطاهم .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج : { ويَسْتَبْشِرُونَ بالّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ } . . . الاَية ، قال يقول : إخواننا يقتلون كما قتلنا ، يلحقون فيصيبون من كرامة الله تعالى ما أصبنا .
حُدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : ذكر لنا عن بعضهم في قوله : { وَلا تَحْسَبنّ الّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ أمْواتا بَلْ أحيْاءٌ عِنْدَ رَبّهِمْ يُرْزَقُونَ } قال : هم قتلى بدر وأُحد ، زعموا أن الله تبارك وتعالى لما قبض أرواحهم ، وأدخلهم الجنة ، جعلت أرواحهم في طير خضر ترعى في الجنة ، وتأوي إلى قناديل من ذهب تحت العرش . فلما رأوا ما أعطاهم الله من الكرامة ، قالوا : ليت إخواننا الذين بعدنا يعلمون ما نحن فيه ! فإذا شهدوا قتالاً تعجلوا إلى ما نحن فيه ! فقال الله تعالى : إني منزل على نبيكم ومخبر إخوانكم بالذي أنتم فيه ! ففرحوا به واستبشروا ، وقالوا : يخبر الله نبيكم وإخوانكم بالذي أنتم فيه ، فإذا شهدوا قتالاً أتوكم . قال : فذلك قوله : { فَرِحِينَ بمَا آتاهُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ } . . . إلى قول : { أجْرَ المُؤْمِنِينَ } .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : { ويَسْتَبْشِرُونَ بالّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ } : أي ويُسَرّون بلحوق من لحق بهم من إخوانهم على ما مضوا عليه من جهادهم ، ليشركوهم فيما هم فيه من ثواب الله الذي أعطاهم ، وأذهب الله عنهم الخوف والحزن .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { ويَسْتَبْشِرُونَ بالّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ } قال : هم إخوانهم من الشهداء ممن يستشهد من بعدهم ، { لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ } حتى بلغ : { وأنّ اللّهَ لا يُضِيعُ أجْرَ المُؤْمِنِينَ } .
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : أما { يَسْتَبْشِرُونَ بالّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ } ، فإن الشهيد يؤتى بكتاب فيه من يقدم عليه من إخوانه وأهله ، فيقال : يقدم عليك فلان يوم كذا وكذا ، ويقدم عليك فلان يوم كذا وكذا ! فيستبشر حين يقدم عليه ، كما يستبشر أهل الغائب بقدومه في ما الدنيا .
{ يستبشرون } معناه : يسرون ويفرحون ، وليست استفعل في هذا الموضع بمعنى طلب البشارة ، بل هي بمعنى ا ستغنى الله واستمجد المرخ والعفار{[3713]} ، وذهب قتادة والربيع وابن جريج وغيرهم : إلى أن هذا الاستبشار إنما هو بأنهم يقولون : إخواننا الذين تركناهم خلفنا في الدنيا يقاتلون في سبيل الله مع نبيهم فيستشهدون فينالون من الكرامة مثل ما نحن فيه فيسرون لهم بذلك ، إذ يحصلون{[3714]} لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، وذهب فريق من العلماء وأشار إليه الزجّاج وابن فورك : إلى أن الإشارة في قوله : { بالذين لم يلحقوا } إلى جميع المؤمنين ، أي لم يلحقوا بهم في فضل الشهادة لكن الشهداء لما عاينوا ثواب الله ، وقع اليقين بأن دين الإسلام هو الحق الذي يثيب الله عليه ، فهم فرحون لأنفسهم بما آتاهم الله من فضله ، { ويستبشرون } للمؤمنين بأنهم لا خوف عليهم ولا هم يحزنون « ، و { ألا } مفعول من أجله ، التقدير ، بأن لا خوف ، ويجوز أن يكون في موضع خفض بدل اشتمال .
قولُه : { فرحين } حال من ضمير { يرزقون } .
والاستبشار : حصول البشارة ، فالسين والتاء فيه كما هما في قوله تعالى : { واستغنى اللَّه } [ التغابن : 6 ] وقد جمع اللَّهُ لهم بين المسرّة بأنفسهم والمسرّة بمن بقي من إخوانهم ، لأنّ في بقائهم نكاية لأعدائهم ، وهم مع حصول فضل الشهادة لهم على أيدي الأعداء يتمنّون هلاك أعدائهم ، لأنّ في هلاكهم تحقيق أمنية أخرى لهم وهي أمنية نصر الدين .
فالمراد { بالذين لم يلحقوا بهم } رفقاؤهم الذين كانوا يجاهدون معهم ، ومعنى لم يلحقوا بهم لم يستشهدوا فيصيروا إلى الحياة الآخرة .
و { من خلفهم } تمثيل بمعنى من بعدهم ، والتقدير : ويستبشرون بالذين لم يصيروا إلى الدار الآخرة مِن رفاقهم بأَمْنِهم وانتفاءِ ما يُحْزنهم . وقوله : { ألا خوف عليهم } بدل اشتمال ، و ( لا ) عاملة عمل ليس ومفيدة معناها ، ولم يُبن اسم ( لا ) على الفتح هنا لظهور أنّ المقصود نفي الجنس ولا احتمال لنفي الوحدة فلا حاجة لبناء النكرة على الفتح ، وهو كقول إحدى نساء حديث أمّ زرع : « زوجي كلَيْلِ نِهَامَة ، لا حرٌّ ولا قرّ ولا مخافة ولا سَآمَهْ » برفع الأسماء النكرات الثلاثة .
وفي هذا دلالة على أنّ أرواح هؤلاء الشهداء مُنحت الكشفَ على ما يسرّها من أحوال الذين يهمّهم شأنهم في الدنيا . وأنّ هذا الكشف ثابت لجميع الشهداء في سبيل الله ، وقد يكون خاصّاً الأحوال السارّة لأنّها لذّة لها . وقد يكون عامّاً لِجميع الأحوال لأنّ لذّة الأرواح تحصل بالمعرفة ، على أنّ الإمام الرازي حَصَر اللذّة الحقيقية في المعارف . وهي لذّة الحكماء بمعرفة حقائق الأشياء ، ولو كانت سيئة .
وفي الآية بشارة لأصحاب أُحُد بأنّهم لا تلحقهم نكبة بعد ذلك اليوم .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم قال سبحانه: {فرحين بما آتاهم الله}، يعني راضين بما أعطاهم الله {من فضله}، يعني الرزق، {ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم}، يعني من بعدهم من إخوانهم في الدنيا أنهم لو رأوا قتالا لاستشهدوا ليلحقوا بهم، ثم قال سبحانه: {ألا خوف عليهم} من العذاب، {ولا هم يحزنون} عند الموت.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يعني بذلك تعالى ذكره: ويفرحون بمن لم يلحق بهم من إخوانهم الذين فارقوهم وهم أحياء في الدنيا على مناهجهمّ، من جهاد أعداء الله مع رسوله، لعلمهم بأنهم إن استشهدوا فلحقوا بهم، صاروا من كرامة الله إلى مثل الذي صاروا هم إليه، فهم لذلك مستبشرون بهم، فرحون أنهم إذا صاروا كذلك، {لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} يعني بذلك: لا خوف عليهم لأنهم قد أمنوا عقاب الله، وأيقنوا برضاه عنهم، فقد أمنوا الخوف الذي كانوا يخافونه من ذلك في الدنيا، ولا هم يحزنون على ما خلفوا وراءهم من أسباب الدنيا، ونكد عيشها، للخَفْض الذي صاروا إليه والدعة والزّلفة، ونصب أن لا بمعنى: يستبشرون لهم بأنهم لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
وقيل: {ويستبشرون} لإخوانهم الذين فارقوهم على دينهم وأمرهم بما قدموا عليه من الكرامة والفضل والنعم التي أعطاهم الله. وقيل: {ويستبشرون} يعني يفرحون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم يعني من بعدهم من إخوانهم في الدنيا رأوا قتالا استشهدوا فلحقوا. وقيل: {لم يلحقوا بهم من خلفهم} الذين يدخلون في الإسلام من بعدهم والاستبشار من بعدهم هو الفرح أو طلب البشارة كأنهم طلبوا البشارة لقومهم ليعلموا بكرامتهم عند الله ومنزلتهم كقول من {قال يا ليت قومي يعلمون} {بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين} (يس 26 و27
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
قوله تعالى: {وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِنْ خلفِهِم} فيه قولان: أحدهما: يقولون: إخواننا يقتلون كما قتلنا فيصيبون من كرامة الله ما أصبنا، وهو قول قتادة، وابن جريج.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
مَنْ علم أن أحباءه ينتظرونه وهم في الرَّفَه والنعمة، لا يهنأ بعيش دون التأهب والإلمام بهم والنزول عليهم.
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
فيه قول آخر، أن الشهداء يقولون: ياليت إخواننا أصيبوا مثل ما أُصِبْنَا؛ فيصلون إلى ما وصلنا.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{فَرِحِينَ بِمَا ءاتاهم الله مِن فَضْلِهِ} وهو التوفيق في الشهادة وما ساق إليهم من الكرامة والتفضيل على غيرهم، من كونهم أحياء مقرّبين معجلاً لهم رزق الجنة ونعيمها الذين لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم} أي لم يقتلوا فيلحقوا بهم {مّنْ خَلْفِهِمْ} يريد الذين من خلفهم قد بقوا بعدهم وهم قد تقدموهم. وقيل: لم يلحقوا بهم، لم يدركوا فضلهم ومنزلتهم {أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} بدل من الذين. والمعنى: ويستبشرون بما تبين لهم من حال من تركوا خلفهم من المؤمنين، وهو أنهم يبعثون آمنين يوم القيامة. بشرهم الله بذلك فهم مستبشرون به. وفي ذكر حال الشهداء واستبشارهم بمن خلفهم بعث للباقين بعدهم على ازدياد الطاعة، والجد في الجهاد، والرغبة في نيل منازل الشهداء وإصابة فضلهم، وإحماد لحال من يرى نفسه في خير فيتمنى مثله لإخوانه في الله، وبشرى للمؤمنين بالفوز في المآب.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
قوله: {فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ [مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ] 7} أي: الشهداء الذين قتلوا في سبيل الله أحياء عند الله، وهم فَرحون مما هم فيه من النعمة والغبطة، ومستبشرون بإخوانهم الذين يقتلون بعدهم في سبيل الله أنهم يقدَمون عليهم، وأنهم لا يخافون مما أمامهم ولا يحزنون على ما تركوه وراءهم.
قال محمد بن إسحاق {وَيَسْتَبْشِرُونَ} أي: ويُسَرون بلحوق من خَلْفهم من إخوانهم على ما مَضَوْا عليه من جهادهم؛ ليشركوهم فيما هم فيه من ثواب الله الذي أعطاهم.
[و] قال السدي: يُؤتى الشهيد بكتاب فيه:"يَقْدَمُ عَلَيْكَ فُلانٌ يَوْمَ كَذَا وكَذَا، ويَقْدَمُ عَلَيْكَ فُلانٌ يَوْمَ كَذَا وكَذَا، فَيُسَرُّ بِذَلِكَ كَمَا يُسَرُّ أَهْلُ الدُّنْيَا بِقُدُومِ غُيَّابِهِمْ".
وقال سعيد بن جبير: لَمّا دخلوا الجنة ورَأوْا ما فيها من الكرامة للشهداء قالوا: يا ليت إخواننا الذين في الدنيا يعلمون ما عرفناه من الكرامة، فإذا شهدوا للقتال باشروها بأنفسهم، حتى ويُستشهدوا فيصيبوا ما أصبنا من الخير، فأُخبِر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بأمرهم وما هم فيه من الكرامة، وأخبرهم -أي ربهم- [أني] قد أنزلت على نبيكم وأخبرته بأمركم، وما أنتم فيه، فاستَبْشروا بذلك، فذلك قوله: {وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ} الآية.
وقد ثبت في الصحيحين عن أنس، رضي الله عنه، في قصة أصحاب بئر مَعُونة السبعين من الأنصار، الذين قتلوا في غداة واحدة، وقَنَت رسول الله صلى الله عليه وسلم على الذين قتلوهم، يدعو عليهم ويَلْعَنهم، قال أنس: ونزل فيهم قرآن قرأناه حتى رفع: "أنْ بَلغُوا عَنّا قَوْمَنا أنّا لَقِينَا رَبَّنَا فَرَضِيَ عَنّا وأرْضَانا".
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
(فرحين بما آتاهم الله من فضله) أي مسرورين بما أعطاهم الله من فضله أي زيادة على ذلك الرزق الذي استحقوه بعملهم فالفضل ما كان في غيره مقابلة عمل كما قال: (ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله إنه غفور شكور) [فاطر: 30] (ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم) الاستبشار السرور الحاصل بالبشارة وأصل الاستفعال طلب الفعل، فالمستبشرون بمنزلة من طلب السرور فوجده بالبشارة كذا قالوا والعبارة للرازي. ويصح أن يكون معنى الطلب فيه على حاله، والذين لم يلحقوا بهم هم الذي بقوا في الدنيا. قال الأستاذ الإمام: إنما قال "من خلفهم "للدلالة على أنهم وراءهم يقتفون أثرهم ويحذرون حذورهم قدما بقدم، فهو قيد فيه الخبر والحث والترغيب والمدح والبشارة وهو من البلاغة بالمكان الذي لا يطاول. والمعنى على الأول ويطلبون البشرى بالذين لم يلحقوا بهم من إخوانهم أي يتوقعون أن يبشروا في وقت قريب بقدومهم عليهم مقتولين في سبيل الله كما قتلوا، مستحقين من الرزق والفضل الإلهي مثل ما أوتوا، والمعنى على الثاني أنهم يسرون بذلك عند حصوله.
هذا ما روي في وجه الاستبشار عن ابن جريج وقتادة. وروي عن السدي أن الشهيد يؤتى بكتاب فيه ذكر من يقدم عليه من إخوانه يبشر بذلك فيسر ويستبشر كما يستبشر أهل الغائب بقدومه عليهم في الدنيا. واختار أبو مسلم والزجاج أن الذين لم يلحقوا بهم من خلفهم هم إخوانهم الذين لا يحصلون فضيلة الشهادة فلا ينالون مثل درجتهم وأن استبشارهم بهم يكون عند دخولهم الجنة بعد القيامة قبلهم فيرون منازلهم فيها ويعلمون أنهم من أهلها، وإن فاتتهم درجة الشهادة لا سيما إذا كان المراد بالذين من خلفهم من جاهد مثلهم ولم يقتل (فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى، وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما درجات منه ومغفرة ورحمة وكان الله غفورا رحيما) [النساء: 95- 96] والآية الآتية تؤيد كون المراد بمن خلفهم بقية المجاهدين الذين لم يقتلوا.
وقوله: (ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون) بدل اشتمال من الذين لم يلحقوا بهم، أي يستبشرون بهم من حيث إنه لا خوف عليهم. فالخوف والحزن على هذا منفيان عن الذين لم يلحقوا بهم. أو الباء للسببية والمعنى بسبب أنه لا خوف عليهم الخ وحينئذ يحتمل أن يكونا منفيين عنهم أنفسهم، أي أن الفرح والاستبشار يكونان شاملين لهم بحالهم وبحال من خالفهم من إخوانهم بسبب انتفاء الخوف والحزن عنهم هم حيث هم. كما يحتمل أن يكون المراد نفيهما عن الذين لم يلحقوا بهم أيضا. والمختار عندي أن المراد بنفي الخوف والحزن نفيهما عن الذين لم يلحقوا بهم ممن قاتل معهم ولم يقتل وأن الآية الآتية مفسرة لذلك. والخوف تألم من مكروه يتوقع والحزن تألم من مكروه وقع. وتقدم تفسير هذا التركيب في الجزء الأول راجع تفسير (إن الذين آمنوا والذين هادوا) [البقرة: 62]. وقد قيل إن المراد بالخوف والحزن ما يكون في الدنيا وقيل بل المراد ما يكون في الآخرة. ويجوز أن يكون المعنى أنه لا خوف عليهم في الدنيا من استئصال المشركين لهم أو ظفرهم بهم ثانية ولا هم يحزنون في المستقبل البعيد عندما يقدمون على ربهم في الآخرة. فاعرض هذا على الآيات الآتية إلى قوله: (فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين).
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ويخبرنا كذلك بما لهم من خصائص الحياة الأخرى:
(فرحين بما آتاهم الله من فضله)..
فهم يستقبلون رزق الله بالفرح؛ لأنهم يدركون أنه "من فضله "عليهم. فهو دليل رضاه وهم قد قتلوا في سبيل الله. فأي شيء يفرحهم إذن أكثر من رزقه الذي يتمثل فيه رضاه؟
ثم هم مشغولون بمن وراءهم من إخوانهم؛ وهم مستبشرون لهم؛ لما علموه من رضى الله عن المؤمنين المجاهدين:
(ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون). (يستبشرون بنعمة من الله وفضل، وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين).
إنهم لم ينفصلوا من إخوانهم (الذين لم يلحقوا بهم من خلفهم) ولم تنقطع بهم صلاتهم. إنهم "أحياء" كذلك معهم، مستبشرون بما لهم في الدنيا والآخرة. موضع استبشارهم لهم: ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وقد جمع اللَّهُ لهم بين المسرّة بأنفسهم والمسرّة بمن بقي من إخوانهم، لأنّ في بقائهم نكاية لأعدائهم، وهم مع حصول فضل الشهادة لهم على أيدي الأعداء يتمنّون هلاك أعدائهم، لأنّ في هلاكهم تحقيق أمنية أخرى لهم وهي أمنية نصر الدين. فالمراد {بالذين لم يلحقوا بهم} رفقاؤهم الذين كانوا يجاهدون معهم، ومعنى لم يلحقوا بهم لم يستشهدوا فيصيروا إلى الحياة الآخرة.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
وقد بين الله سبحانه وتعالى حالهم فقال سبحانه: {فرحين بما آتاهم الله من فضله}.
أي أنهم في هذه الحياة التي يحيونها يشعرون بسعادة عظيمة؛ لأنهم يرون ثمرات أعمالهم من الجهاد في سبيل الله، ويشعرون برضا الله سبحانه وتعالى، وأنهم في تكريم، وقد آتاهم الله تعالى نعمة الطاعة ونعمة الجهاد، وأشعرهم بالسعادة المطلقة في حياتهم الروحية، ورحابه الكريم. وأن الملائكة -أولئك الأرواح الطاهرة- تحفهم بالتكريم والترحيب، ويروي في ذلك البخاري أن جابرا، قال: لما قتل أبي جعلت أبكي وأكشف الثوب عن وجهه، فجعل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهونني، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول:" لا تبك، ما زالت الملائكة تظله بأجنحتها حتى رفع "فأرواح الشهداء في تكريم من الملائكة الأطهار، والله سبحانه وتعالى يتغمدها برضاه وتقريبها حتى عن النبي صلى الله عليه وسلم ليذكر ان الله تعالى يخاطبها كفاحا، أي مواجهة، وأي تكريم أعلى من ذلك وأسمى؟ ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
وإن أرواح الشهداء الأبرار لترضى بجهاد الذين أعقبوهم في الميدان فلم يخلوه، ولذا قال سبحانه: {ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون}.
الاستبشار: طلب البشرى هي الأمر الذي يدخل السرور في النفس، لأمر كان يتوقع منه مرهوبا أو محبوبا، فتجئ البشرى بالمحبوب دون المرهوب، وفي بيان استبشار أولئك الشهداء الأبرار تخريجان: أحدهما- ان يكون المراد طلبهم البشرى بأن الذين لم يلحقوا بهم في الاستشهاد وخلفوهم في الميدان، لا خوف عليهم من أن يستمكن العدو منهم ولا ينتصر عليهم، ولاهم في حزن أو غم بسبب أنهم لم ينالوا ما يرغبون من نصرة كلمة الحق، ورفع كلمة الدين، فهم على اطلاع بما يجري للمؤمنين، ويريدون أن تجيئ إليهم البشرى بالانتصار الباهر، والفوز الظاهر الذي يذهب معه الخوف ويكون بدله المن، ولا يكون حزن من هزيمته، أو غم من قرح يصيبهم، وتكون كلمة يستبشرون معناها يطلبون البشرى.
التخريج الثاني: أن يكون معنى الاستبشار طلب البشرى ونيلها، فالاستجابة معناها طلب الإجابة ونيلها، والمعنى أنهم في سرور وحبور مما آتاهم الله تعالى من فضله، ولأنهم جاءتهم البشرى بأن الذين لم يلحقوا بهم في الاستشهاد من غير خوف، ولا رهبة، ولا حزن، بل تلقيا لأسباب المنون بإيمان قوي؛ لأنها إما الشهادة في عزة وكرامة، وإما الانتصار وإعلاء كلمة الله تعالى.