اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{فَرِحِينَ بِمَآ ءَاتَىٰهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦ وَيَسۡتَبۡشِرُونَ بِٱلَّذِينَ لَمۡ يَلۡحَقُواْ بِهِم مِّنۡ خَلۡفِهِمۡ أَلَّا خَوۡفٌ عَلَيۡهِمۡ وَلَا هُمۡ يَحۡزَنُونَ} (170)

قوله : { فَرِحِينَ } فيه خمسة أوجهٍ :

أحدها : أن يكون حالاً من الضمير في " أحياء " .

ثانيها : أن يكون حالاً من الضمير في الظرف .

ثالثها : أن يكون حالاً من الضمير في { يُرْزَقُونَ } .

رابعها : أنه منصوبٌ على المَدْح .

خامسها : أنه صفة ل " أحياء " .

وهذا مختص بقراءة ابن أبي عبلة و " بما " يتعلق ب " فرحين " .

قوله : { مِن فَضْلِهِ } في " من " ثلاثة أوجهٍ :

أحدها : أن معناها السببية ، أي بسببب فضله ، أي : الذي آتاهم الله متسبب عن فضله .

الثاني : أنها لابتداء الغايةِ ، وعلى هذين الوجهين تتعلق ب " آتاهم " .

الثالث : أنها للتبعيض ، أي : بعض فضله ، وعلى هذا فتتعلق بمحذوف ، على أنه حال من الضمير العائدِ على الموصول ولكنه حُذِف ، والتقدير : بما آتاهموه كائناً من فَضْلهِ .

قوله : " ويستبشرون " فيه أربعة أوجهٍ :

أحدها : أن يكون من باب عطفِ الفعلِ على الاسم ؛ لكون الفعل في تأويله ، فيكون عطفاً على " فرحين " كأنه قيل : فرحين ومُسْتَبْشِرِين ، ونظَّروه بقوله تعالى :

{ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ } [ الملك : 19 ] .

الثاني : أنه - أيضاً - يكون من باب عطف الفعل على الاسم ، ولكن لا لأن الاسم في تأويل الفعل ، قال أبو البقاء هو معطوف على " فرحين " لأن اسم الفاعل - هنا - يُشْبه الفعل المضارع يعني أن " فرحين " بمنزلة يفرحون ، وكأنه جعله من باب قوله : { إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُواْ اللَّهَ }

[ الحديد : 18 ] والتقديرُ الأولُ أولى ، لأن الاسم - وهو " فرحين " لا ضرورة بنا إلى أن نجعله في محل فعل مضارع - حتى يتأول الاسم به - والفعل فَرْع عليه ، فينبغي أن يُرَدَّ إليه .

وإنما فعلنا ذلك في الآية ؛ لأن " أل " الموصولة بمعنى : الذي و " الذي " لا يُوصَل إلا بجملة أو شبهها ، وذلك الشبهُ - في الحقيقة - يتأول بجملة .

الثالث : أن يكونَ مُستأنفاً ، والواو للعطف ، عطفت فعلية على اسمية .

الرابع : أن يكون خبراً لمبتدأ محذوفٍ ، أي : وهم يستبشرون ، وحينئذٍ يجوز وجهان :

أحدهما : أن تكون الجملةُ حاليةً من الضمير المستكن في " فرحين " أو من العائد المحذوف من " آتاهم " وإنما احتجنا إلى تقدير مبتدأ عند جعلنا إياها حالاً ؛ لأن المضارعَ المثبت لا يجوز اقترانه بواو الحال لما تقدم مراراً .

الثاني من هذين الوجهين : أن تكون استئنافية ، عطف جملة اسمية على مثلها .

و " استفعل " - هنا - ليست للطلب ، بل تكون بمعنى المجرد ، نحو : استغنى الله - بمعنى : غَنِيَ ، وقد سُمِع بَشِر الرجل - بكسر العين - فيكون استبشر بمعناه ، قاله ابنُ عطية . ويجوز أن يكون مطاوع أبشَرَ ، نحو : أكانَهُ فاستكان ، وأراحه فاستراح ، وأشلاه فاستشلى ، وأحكمَه فاستحكم - وهو كثيرٌ - وجعله أبو حيّان أظهر ؛ من حيث إن المطاوعَة تدل على الاستفعال عن الغيرِ ، فحصلت لهم البُشرى بإبشار الله تعالى ، وهذا لا يلزم إذَا كان بمعنى المجردِ .

قوله : { مِّنْ خَلْفِهِمْ } في هذا الجارّ وجهان :

أحدهما : أنه متعلق ب " لم يلحقوا " على معنى أنهم قد بَقُوا بَعْدَهم ، وهم قد تقدموهم .

الثاني : أن يكون متعلقاً بمحذوفٍ على أنه حال من فاعل " يلحقوا بهم " ، أي : لم يلحقوا بهم حال كونهم متخلِّفين عنهم - أي : في الحياة - .

فصل

معنى الكلام : ويستبشرون : ويفرحون بالذين لم يلحقوا بهم ، من إخوانهم الذين تركوهم أحياءً في الدنيا على مناهج الإيمان والجهاد ؛ لِيُعْلِمَهم انهم إذَا استشهدوا لحقوا بهم ، ونالوا من الكرامةِ ما نَالوا هُمْ ؛ فلذلك يستبشرون .

وقال الزّجّاجُ وابن فورك : الإشارة - بالاستبشار للذين لم يلحقوا بهم - إلى جميع المؤمنين - وإن لم يقتلوا - ولكنهم لما عايَنُوا ثوابَ الله وقع اليقينُ بأن دينَ الإسلام هُوَ الحقُّ الذي يُثِيبُ الله عليه ، فهم فرحون لأنفسهم بما آتاهم الله من فضله ، مستبشرون للمؤمنين بأن لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون .

قوله : { أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } فيه وجهان :

أحدهما : أن " أن " وما في حَيِّزها في محل جَرّ ، بدلاً من " بالذين " بدل اشتمال ، أي : يستبشرون بعد خوفهم وحُزْنهم ، فهو المستبشَر به في الحقيقة ، لأن الذواتَ لا يُسْتَبْشَرُ بها .

الثاني : أنها في محل نَصْبٍ ؛ على أنها مفعول من أجله ، أي : لأنهم لا خوف عليهم .

و " أن " - هذه - هي المخفَّفة ، واسمها ضمير الشأن ، وجملة النفي بعدها في محل الخبر . فإن قيل : الذوات لا يُسْتبشر بها - كما تقدم - فكيف قال : { وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ } ؟ .

فالجوابُ أن ذلك على حَذفِ مُضَافٍ مناسبٍ ، تقديره : ويَسْتبشرون بسلامةِ الذين ، أو لحوقهم بهم في الدرجة .

وقال مكيٌّ - بعد أن حكى أنها بدلُ اشتمالٍ - : ويجوز أن يكون في موضع نَصْب ، على معنى : بأن لا وهذا - هو بعينه - وجه البدل المتقدِّم ، غاية ما في الباب أنه أعاد مع البدل العامل في تقديره اللهُمّ إلا أن يعني أنها - وإن كانت بدلاً من " الذين " - ليست في محل جَرٍّ ، بل في محل نَصْبٍ ، لأنها سقطت منها الباء ؛ فإن الأصل : بأن لا ، وإذا حُذِف منها حرفُ الجرِ كانت في محل نصبٍ - على رأي سيبويه والفرَّاء - وهو بعيدٌ .