وبقوله : { ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم } والاستبشار بمن يكون في الدنيا لا بد أن يكون قبل يوم القيامة . وذهب كثير من المحققين إلى أنهم أحياء في الحال لكن بحياة روحانية ، وأن أرواحهم تركع وتسجد كل ليلة تحت العرش إلى يوم القيامة . وذلك أن الإنسان ليس عبارة عن مجموع هذه البنية ، لأن أجزاء البدن في الذوبان والانحلال ويعرض لها السمن والهزال والقوّة والكلال ، وكلنا يجد من نفسه أنه شيء واحد من أول عمره إلى آخره والباقي مغاير للمتبدل . ولأن الإنسان يكون عالماً بنفسه حالماً يكون غافلاً عن جميع أعضائه وأجزائه ، والمعلوم مغاير لما ليس بمعلوم . ثم ذلك الشيء المغاير لهذا البدن المحسوس سواء كان جسماً مخصوصاً سارياً أو جوهراً مجرداً لا يبعد أن ينفصل بعد موت البدن حياً أو أماته الله فيعيده حياً ، وبهذا يثبت عذاب القبر وثوابه وتزول الشبهات . ومن تأمل في الأمور الواردة عليه وجد أحوال النفس مضادة لأحوال البدن ، ووجد قوة أحدهما مقتضية لضعف الآخر ، كما أن البدن يضعف وقت النوم وتقوى النفس على مشاهدة المغيبات ونقوش عالم الأرواح ، وإذا أعرضت النفس عن الطعام والشراب وأقبلت على مطالعة العالم العلوي زادت سروراً وابتهاجاً وفرحاً وارتياحاً ، وانطبعت فيها الجلايا القدسية ، وانكشفت لها المعارف الإلهية . وأكثر أرباب الشرع على أنهم أحياء في الحال بحياة جسمانية . ثم منهم من قال : إنه تعالى يصعد أجسادهم إلى السماوات وإلى قناديل تحت العرش ويوصل أنواع السعادات والكرامات إليها ، ومنهم من قال : بل يتركها في الأرض ويحييها ويوصل هذه السعادات إليها . ومن الناس من طعن في هذه القول وقال : إن تجويز كون البدن الميت الملقى في التراب حياً متنعماً عاقلاً عارفاً نوع من السفسطة . والحق في هذه المسألة عندي خلاف ما يقوله أهل التناسخ من أن النفس بعد موت بدنها تقبل على بدن آخر وتعرض عن الأوّل بالكلية ، وخلاف ما يقوله الفلاسفة من أن النفس تنقطع علاقتها عن البدن مطلقاً وإنما تلتذ أو تتألم هي بما اكتسبت من المعارف الحقة والأخلاق الفاضلة أو بالعقائد الباطلة والملكات الذميمة .
والذي أقوله : إن النفس تبقى لها علاقة مع بدنها لا بالتحريك واكتساب الأعمال ، ولكن بالتلذذ والتألم والتعقل ونحوها . وليس ببدع أن يتغير التعلق بحسب تغير الأطوار كما كان يتغير في مدّة العمر بحسب الأسنان والأمزجة . والتحقيق فيه أن النفس في هذا العالم جعلت متصرفة في البدن لأجل اكتساب الأعمال والملكات ، وأنه يفتقر إلى تحريك الأعضاء وأعمال الجوارح والآلات ، وبعد الموت تجعل متصرفة فيه من جهة الجزاء والحساب ، فكيف ينبغي أن يقاس أحدهما على الآخر ؟ فلعله يكفي بعد الموت أن يكون له علاقة التلذذ والتألم والإدراك فقط إلى أن تقوم القيامة الكبرى . وهذا القدر لا ينافي كون البدن مشاهداً في القبر من غير تحرك ولا إحساس ونطق ، ويؤيده ما روي أنه صلى الله عليه وسلم وقف على قليب بدر وقال : يا فلان ابن فلان ويا فلان ابن فلان هل وجدتم ما وعدكم الله ورسوله حقاً ؟ فإني وجدت ما وعدني الله حقاً . فقال عمر : يا رسول الله كيف تكلم أجساداً لا أرواح فيها ؟ فقال : ما أنتم بأسمع لما أقول منهم غير أنهم لا يستطيعون أن يردّوا عليّ شيئاً . وفي حديث عذاب القبر " إنه ليسمع قرع نعالهم " ولعل السر في أنه اكتفى بهذا القدر من التصرف أنه إن كان أكثر من ذلك كما سيكون في القيامة الكبرى نافى تكليف سائر الأحياء وأفضى الأمر إلى الإلجاء وهو السر في آخر حديث عذاب القبر " فيصيح صيحة يسمعها من يليه غير الثقلين " وأما الشهداء فلا يبعد أن يجازيهم الله تعالى بمزيد التلذذ بنعيم الآخرة كما قتلوا تعجيلاً للثواب . وكما عجلوا الانقطاع عن طيبات الدنيا ومشتهياتها فإن جزاء كل طائفة ينبغي أن يناسب عملهم . فافهم هذه الأسرار فإنها علق مضنة وبه ثبت جميع ما ورد في الشريعة الحقة والله أعلم . ومعنى { عند ربهم } أنهم مقربون ذوو كرامة كقوله :{ فالذين عند ربك }
[ فصلت :38 ] أو المراد بحيث لا يملك أحد جزاءهم سوى ربهم ، أو المراد في علمه وحكمه كما يقال : " هذه المسألة عند الشافعي كذا " . يرزقون كما يرزق سائر الأحياء يأكلون ويشربون وهو تأكيد لكونهم أحياء ووصف لحالهم التي هم عليها التنعم برزق الله كما ورد في الحديث . { فرحين بما آتاهم الله من فضله } وهو توفيق الشهادة وما خصصهم به من التفضيل على غيرهم من قبل تعجيل رزق الجنة ونعيمها . وقال المتكلمون : الثواب منفعة خالصة دائمة مقرونة بالتعظيم .
فقوله : { يرزقون } إشارة إلى المنفعة وقوله : { فرحين } إشارة إلى الابتهاج الحاصل بسبب التعظيم . بلسان الحكماء { يرزقون } إشارة إلى كون ذواتهم مشرقة بالمعارف الإلهية و { فرحين } رمز إلى ابتهاجها بالنظر إلى ينبوع النور ومصدر الكمال ، و { يستبشرون بالذين } بإخوانهم من المجاهدين الذين لم يقتلوا فيلحقوا بهم . والاستبشار السرور الحاصل بالبشارة . ومعنى { من خلفهم } أنهم بقوا بعدهم . وقيل لم يحلقوا بهم أي لم يدركوا فضلهم ومنزلتهم { ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون } بدل الاشتمال من " الذين " . وذلك أن الله يبشرهم بأن من تركوا خلفهم من المؤمنين يبعثون امنين يوم القيامة ، فهم مستبشرون بأنه لا خوف عليهم . وإنما بشرهم الله بذلك لأنهم لما فارقوا الدنيا بغتة كان ذلك مظنة أن يكون لهم نوع تعلق بأحوال إخوانهم وهو شبه تألم ، فأكرمهم الله تعالى بإزالة ذلك التعلق بأن أعلمهم أمن إخوانهم من عذاب الله فحصل لهم سروران : من قبل حالهم في أنفسهم وذلك قوله : { فرحين بما آتاهم الله من فضله } ومن قبل حال إخوانهم وأعزتهم وذلك قوله { ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم }
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.