الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{فَرِحِينَ بِمَآ ءَاتَىٰهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦ وَيَسۡتَبۡشِرُونَ بِٱلَّذِينَ لَمۡ يَلۡحَقُواْ بِهِم مِّنۡ خَلۡفِهِمۡ أَلَّا خَوۡفٌ عَلَيۡهِمۡ وَلَا هُمۡ يَحۡزَنُونَ} (170)

قوله تعالى : { فَرِحِينَ } : فيه خمسةُ أوجه ، أحدها : أن يكونَ حالاً من الضمير في " أحياءٌ " . الثاني : من الضمير في الظرف . الثالث : من الضمير في " يُرْزَقون " : الرابع أنه منصوب على المدح . الخامس أنه صفةٌ ل " أحياء " ، وهذا يختصُّ بقراءة ابن أبي عبلة . و " بما " يتعلَّقُ ب " فرحين " .

قوله : { مِن فَضْلِهِ } في " مِنْ " وجهان ، أحدُهما : أنَّ معناها السببيّة أي : بسبب فضله أي : الذي آتاهم الله متسبِّبٌ عن فضله . الثاني : أنها لابتداءِ الغاية ، وعلى هذين الوجهين تتعلق بآتاهم . الثالث : أنها للتبعيضِ أي : بعضَ فضله ، وعلى هذا فتتعلق بمحذوف على أنها حال من الضمير العائد على الموصول ، ولكنه حُذِف والتقدير : بما آتاهموه كائناً من فضله .

قوله : { وَيَسْتَبْشِرُونَ } فيه أربعةُ أوجه ، أحدها : أن يكونَ من باب عطفِ الفعلِ على الاسم لكونِ الفعلِ في تأويلهِ ، فيكونُ عطفاً على " فرحين " كأنه قيل : فَرِحين ومستبشرين ، ونَظَّروه بقوله تعالى : { فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ } [ الملك : 19 ] . والثاني : أنه أيضاً/ يكونُ من باب عطف الفعل على الاسم ، لكنْ لأنَّ الاسم في تأويل الفعل . قال أبو البقاء : " هو معطوفٌ على " فرحين " ؛ لأنَّ اسم الفاعل هنا يُشْبه الفعل المضارع " يعني أنَّ " فرحين " بمنزلة " يفرحون " ، وكأنه جعله من باب قوله : { إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُواْ } [ الحديد : 18 ] ، والتقديرُ الأولُ أَوْلى ، لأنَّ الاسمَ وهو " فرحين " لا ضرورةَ بنا إلى أَنْ نجعلَه في مَحلِّ فعلٍ مضارعٍ حتى نتأَوَّل الاسمَ به ، والفعلُ فرعٌ عليه ، فينبغي أن يُرَدَّ إليه ، وإنما فعلنا ذلك في الآيةِ لأنَّ أل الموصولةَ بمعنى الذي ، و " الذي " لا تُوصَلُ إلا بجملة أو شبههِا ، وذلك الشَّبَهُ في الحقيقةِ يِتأوَّل بجملة .

الثالث : أَنْ يكونَ مستأنفاً ، الواو للعطف عَطَفْت فعليةً على اسمية .

الرابع : أن يكونَ خبراً لمبتدأ محذوف أي : وهم يستبشرون ، وحينئذ يجوز وجهان ، أحدُهما : أن تكونَ الجملةُ حاليةً من الضمير المستكِنِّ في " فرحين " أو من العائد المحذوف من " آتاهم " ، وإنما احتجنا إلى تقدير مبتدأ عند جَعْلِنا إياها حالاً لأنَّ المضارع المثبت لا يجوز اقترانُه بواو الحال لِما تقدَّم غيرَ مرة . والثاني من هذين الوجهين : أن تكونَ استئنافية عَطَفَتْ جملةً اسميةً على مثلها .

واستفعل هنا ليست للطلب ، بل تكون بمعنى المجردِ نحو : " استغنى الله ، واستمجد المَرْخ والعَفار " بمعنى غَنِي ومَجُد . وقد سمع " بَشِر الرجل " بكسر العين فيكون استبشر بمعناه ، قاله ابن عطية . ويجوز أن يكونَ مطاوعَ أبشر نحو : " أكأنه فاستكان ، وأراحه فاستراح ، وأشلاه فاستشلى ، وأَحْكمه فاستحكم " وهو كثير .

وجَعَله الشيخ أظهرَ مِنْ حيث إنَّ المطاوعة تدلُّ على الانفعال عن الغير ، فحصلت لهم البشرى بإبشار الله تعالى ، وهذا لا يلزمُ إذا كان بمعنى المجرد .

قوله : { مِّنْ خَلْفِهِمْ } في هذا الجارِّ وجهان ، أحدهما : أنه متعلق ب " يَلْحقوا " على معنى أنهم قد بَقُوا بعدهم ، وهم قد تقدَّموهم . والثاني : أن يكونَ متعلقاً بمحذوف على أنه حال من فاعل " يلحقوا " أي : لم يلحقوا بهم حالَ كونِهم مُتَخَلِّفين عنهم أي : في الحياة .

قوله : { أَلاَّ خَوْفٌ } فيه وجهان أحدُهما : أنَّ " أَنْ " وما في حَيِّزها في محل جر بدلاً من " بالذين " بدلَ اشتمال أي : يستبشرون بعدم خوفهم وحزنهم فهم المُسْتَبْشَرُ به في الحقيقة لأنَّ الذواتِ لا يُسْتَبْشَر بها . والثاني : أنها في محل نصب على أنها مفعولٌ من أجله أي : لأنهم لا خوف . و " أَنْ " هذه هي المخففةُ ، واسمها ضمير الشأن ، وجملةُ النفي بعدها في محلِّ الخبر ، والذواتُ لا يُسْتبشر بها كما تقدَّم فلا بد من حذف مضاف مناسبٍ ، والتقدير : ويستبشرون بسلامةِ الذين ، أو لُحوقهم بهم في الدرجة .

وقال مكيّ بعد أَنْ حَكَى أنها بدلُ اشتمال : " ويجوز أن تكون " أَنْ " في موضع نصب على معنى " بأن لا " . وهذا هو بعينِه هو وجه البدلِ المتقدم ، غايةُ ما في الباب أنه أعاد مع البدلِ العاملَ في تقديره ، اللهم أَنْ يعني أنها وإنْ كانت بدلاً من " الذين " فليست في محلِّ جر بل في محلِّ نصب ، لأنها سقطت منها الباءُ فإنَّ الأصل " بأَنْ لا " و " أَنْ " إذا حُذِف منها حرفُ الجر كانت في محلِّ نصب على رأي سيبويه والفراء . وهو بعيد .