قوله تعالى : { الذين يجادلون في آيات الله } قال الزجاج : هذا تفسير للسرف المرتاب ، يعني : الذين يجادلون في آيات الله ، أي : في إبطالها بالتكذيب ، { بغير سلطان } حجة ، { أتاهم } من الله . { كبر مقتاً } أي : كبر ذلك الجدال مقتاً ، { عند الله وعند الذين آمنوا كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار } قرأ أبو عمرو وابن عامر { قلب } بالتنوين ، وقرأ الآخرون بالإضافة ، دليله قراءة عبد الله ابن مسعود ( على قلب كل متكبر جبار ) .
ثم ذكر وصف المسرف الكذاب فقال : { الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ } التي بينت الحق من الباطل ، وصارت -من ظهورها- بمنزلة الشمس للبصر ، فهم يجادلون فيها على وضوحها ، ليدفعوها ويبطلوها { بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ } أي : بغير حجة وبرهان ، وهذا وصف لازم لكل من جادل في آيات الله ، فإنه من المحال أن يجادل بسلطان ، لأن الحق لا يعارضه معارض ، فلا يمكن أن يعارض بدليل شرعي أو عقلي أصلا ، { كَبُرَ } ذلك القول المتضمن لرد الحق بالباطل { مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا } فالله أشد بغضًا لصاحبه ، لأنه تضمن التكذيب بالحق والتصديق بالباطل ونسبته إليه ، وهذه أمور يشتد بغض الله لها ولمن اتصف بها ، وكذلك عباده المؤمنون يمقتون على ذلك أشد المقت موافقة لربهم ، وهؤلاء خواص خلق الله تعالى ، فمقتهم دليل على شناعة من مقتوه ، { كَذَلِكَ } أي : كما طبع على قلوب آل فرعون{ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ } متكبر في نفسه على الحق برده وعلى الخلق باحتقارهم ، جبار بكثرة ظلمه وعدوانه .
وقوله : { الذين يُجَادِلُونَ . . . } مبتدأ ، وخبره قوله - تعالى - : { كَبُرَ مَقْتاً . . } والفاعل ضمير يعود إلى الجدال المفهوم من قوله { يُجَادِلُونَ } أى : كبر جدالهم { مَقْتاً } تمييز محول عن الفاعل ، أى : عظم بغضا جدالهم عند الله وعند المؤمنين .
أى : الذين يجادلون فى آيات الله الدالة على وحدانيته ، وعلى صدق أنبيائه بغير دليل أو برهان أتاهم من الله - تعالى - عن طريق رسله ، هؤلاء الذين يفعلون ذلك ، كبر وعظم بغضا جدالهم عند الله - تعالى - وعند الذين آمنوا .
قال الجمل : وهذه الصفة - وهى الجدال بالباطل بدون برهان - موجودة فى فرعون وقومه ، ويكون الرجل المؤمن قد عدل عن مخاطبتهم إلى الاسم الغائب ، لحسن محاورته لهم ، واستجلاب قلوبهم . وأبرز ذلك فى صورة تذكرهم فلم يخصهم بالخطاب
وفى قوله : { كَبُرَ } ضرب من التعجب والاستعظام لجدالهم .
وقوله : { كَذَلِكَ يَطْبَعُ الله على كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ } أى : مثل ذلك الطبع العجيب ، يطبع الله - تعالى - ويختم بالكفر والعمى على قلب كل إنسان متكبر عن الاستماع للحق ، متطاول ومتجبر على خلق الله - تعالى - بالعدوان والإيذاء
ثم أنحى لهم على قوم صفتهم موجودة في قوم فرعون ، فكأنه أرادهم فزال عن مخاطبتهم حسن أدب واستجلاباً ، فقال { الذين يجادلون في آيات الله } .
أي بالإبطال لها والرد بغير برهان ولا حجة أتتهم من عند الله كبر مقت جدالهم عند الله ، فاختصر ذكر الجدال لدلالة تقدم ذكره عليه ، ورد الفاعل ب { كبر } نصيباً على التمييز كقولك : تفقأت شحماً{[10001]} وتصببت عرقاً . و : { يطبع } معناه . يختم بالضلال ويحجب عن الهدى .
وقرأ أبو عمرو وحده الأعرج بخلاف عنه «على كلِّ قلب » بالتنوين «متكبراً » على الصفة . وقرأ الباقون : «على كلِّ قلبِ » بغير تنوين وبإضافته إلى «متكبرٍ » . قال أبو علي : المعنى يطبع الله على القلوب إذ كانت قلباً قلباً من كل متكبر ، ويؤكد ذلك أن في مصحف عبد الله بن مسعود : «على قلب كل متكبر جبار »{[10002]} .
قال القاضي أبو محمد : ويتجه أن يكون المراد عموم قلب المتكبر الجبار بالطبع أي لا ذرة فيه من إيمان ولا مقاربة فهي عبارة عن شدة إظلامه .
وقوله : { الذين يجادلون في آيات الله } يجوز أن يكون مبتدأ خبره { كَبُرَ مُقْتاً } ويجوز أن يكون بدلاً من ( مَن ) في قوله : { من هو مسرف مرتاب } فبيّن أن مَاصْدَقَ ( مَن ) جماعة لا واحد ، فروعي في { مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرتاب } لفظ ( مَن ) فأخبر عنه بالإِفراد ، وروعي في البدل معنى ( مَن ) فأبدل منه موصول الجمع .
وصلة { الذين } عُرف بها المشركون من قريش قال تعالى : { إن الذين يلحدون في آياتنا لا يخفون علينا } [ فصلت : 40 ] وقال في هذه السورة [ 4 ] : { ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا فلا يغررك تقلبهم في البلاد }
واختيار المضارع في { يجادلون } لإِفادة تجدد مجادلتهم وتكررها وأنهم لا ينفكون عنها . وهذا صريح في ذمهم وكنايةٌ عن ذم جدالهم الذي أوجب ضلالهم .
وفي الموصولية إيماء إلى علة إضلالهم ، أي سببُ خلق الضلال في قلوبهم الإِسراف بالباطل تكررُ مجادلتهم قصداً للباطل . والمجادلة : تكرير الاحتجاج لإِثبات مطلوب المجادل وإبطال مطلوب مَن يخالفهُ قال تعالى : { وجادلهم بالتي هي أحسن } [ النحل : 125 ] ، فمن المجادلة في آيات الله المحاجّة لإِبطال دلالتها ، ومنها المكابرة فيها كما قالوا : { قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب } [ فصلت : 5 ] ، ومنها قطع الاستماع لها ، كما قال عبد الله بن أُبَيّ بنُ سلول في وقت صراحة كفره للنبيء صلى الله عليه وسلم وقد جاء النبي صلى الله عليه وسلم مجلساً فيه ابن سلول فقرأ عليهم القرآن فقال عبد الله بن سلول لاَ أحسنَ مما تقول أيُّها المرءُ ولاَ تَغْشَنَا به في مجالسنا واجلِسْ في رحلك فمن جاءك فاقْرَأ عليه .
و { بِغَيْرِ سلطان } مُتعلق ب { يجادلون ، } والباء للاستعانة ، والسلطان : الحجة . والمعنى : أنهم يجادلون بما ليس بحجة ولكن باللَّجاج والاستهزاء . و { أتاهم } صفة ل { سلطان . } والإِتيان مستعار للظهور والحصول .
وحصول الحجة هو اعتقادها ولَوْحُها في العقل ، أي يجادلون جدلاً ليس مما تثيره العقول والنظر الفكري ولكنه تمويه وإسكات .
وجملة { كَبُرَ مَقْتاً عِندَ الله } خبر { إنَّ من باب الإِخبار بالإِنشاء ، وهي إنشاء ذمِّ جدالِهم المقصود منه كَمُّ فم الحق ، أي كبر جدالهم مَقْتاً عند الله ، ففاعل كبر } ضمير الجدال المأخوذ من { يجادلون } على طريقة قوله : { إعدلوا هو أقرب للتقوى } [ المائدة : 8 ] .
و { مقتاً تمييز للكُبْر وهو تمييز نسبة محول عن الفاعل ، والتقدير : كبر مَقْتُ جدالهم .
وفعل { كبر } هنا ملحق بأفعال الذم مثل : ساء ، لأن وزن فَعْل بضم العين يجيء بمعنى : نِعْم وبِئس ، ولو كانت ضمة عينه أصلية وبهذا تفظيع بالصراحة بعد أن استفيد من صلة الموصول أن جدالهم هو سبب إضلالهم ذلك الإِضلال المكين ، فحصل بهذا الاستئناف تقرير فظاعة جدالهم بطريقي الكناية والتصريح .
والكِبَر : مستعار للشدة ، أي مُقِت جدالُهم مَقْتاً شديداً . والمقت : شدة البغض ، وهو كناية عن شدة العقاب على ذلك من الله . وكونه مَقتاً عند الله تشنيع لهم وتفظيع .
أما عطف { وَعِندَ الذِينَ ءامَنُوا } فلم أر في التفاسير الكثيرة التي بين يدي من عَرج على فائدة عطف { وعند الذين آمنوا } ما عدا المَهائمي في « تبصرة الرحمان » إذ قال : { كَبُرَ مقْتَاً عِندَ الله } وهو موجب للإِضلال ، ويدل على أنه كبر مقتاً أنه عند الذين آمنوا ، وهم المظاهر التي يظهر فيها ظهورُ الحق اهـ . وكلمة المهائمي كلمة حسنة يعني أن كونه مقتاً عند الله لا يحصل في علم الناس إلا بالخبَر فزيد الخبر تأييداً بالمشاهدة فإن الذين آمنوا على قِلتهم يومئذٍ يظهر بينهم بغض مجادلة المشركين .
وعندي : أن أظهرَ من هذا أنّ الله أراد التنويه بالمؤمنين ولم يُرد إقناع المشركين فإنهم لا يعبأون ببغض المؤمنين ولا يصدقون ببغض الله إيّاهم ، فالمقصود الثناء على المؤمنين بأنهم يكرهون الباطل ، كما قال : { والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر } [ التوبة : 71 ] مع الإِشارة إلى تبجيل مكانتهم بأن ضمت عنديتهم إلى عندية الله تعالى على نحو قوله تعالى : { شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم } [ آل عمران : 18 ] وقوله : { يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين } [ الأنفال : 64 ] وقوله : { هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين } [ الأنفال : 62 ] ونحو قول النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر حديث كلام الذئب فتعجب بعض من حضر فقال : « آمنت بذلك وأبُو بكر » ولم يكن أبو بكر في المجلس .
وفي إسناد كراهية الجدال في آيات الله بغير سلطان للمؤمنين تلقين للمؤمنين بالإِعراض عن مجادلة المشركين على نحو ما في قوله تعالى : { وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه } [ القصص : 55 ] ، وقوله : { وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً } [ الفرقان : 63 ] وقوله : { وإذا مروا باللغو مروا كراماً } [ الفرقان : 72 ] .
والقول في { كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار } كالقول في { كذلك يضل الله من هو مسرف مرتاب } .
والطبع : الختم ، وتقدم في قوله تعالى : { ختم الله على قلوبهم } في سورة [ البقرة : 7 ] .
والختم والطبع والأَكِنَّة : خَلْق الضلالة في القلب ، أي النفس . والمتكبر : ذو الكبْر المبالغ فيه ولذلك استعيرت صيغة التكلف . والجبّار : مثال مبالغة من الجبر ، وهو الإكراه ، فالجبار : الذي يُكره الناس على ما لا يحبون عمله لظلمه .
وقرأ الجمهور : { على كل قلب متكبر } بإضافة { قلب } إلى { متكبر . } وقرأ أبو عمرو وحْده وابنُ ذكوان عن ابن عامر بتنوين { قلبٍ على أن يكون متكبر } و { جبار } صفتين ل { قلب ، } ووصفُ القلب بالتكبر والجبر مجاز عقلي . والمقصود وصف صاحبه كقوله تعالى : { فإنه آثم قلبه } [ البقرة : 283 ] لأنه سبب الإِثم كما يقال : رأتْ عيني وسمعتْ أُذْني .