اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{ٱلَّذِينَ يُجَٰدِلُونَ فِيٓ ءَايَٰتِ ٱللَّهِ بِغَيۡرِ سُلۡطَٰنٍ أَتَىٰهُمۡۖ كَبُرَ مَقۡتًا عِندَ ٱللَّهِ وَعِندَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْۚ كَذَٰلِكَ يَطۡبَعُ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ قَلۡبِ مُتَكَبِّرٖ جَبَّارٖ} (35)

ثم بين تعالى ما لأجله بقُوا في ذلك الشك والإسراف فقال : { الذين يُجَادِلُونَ في آيَاتِ الله بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ } أي بغير حجة إما بناء على التقليد ، وأما بناء على شبهات خسيسة .

قوله : «الَّذِينَ يُجَادِلُونَ » يجوز فيه عشرة أوجه :

أحدها : أنه بدل من{[48179]} قوله «من هو مسرف » وإنما جمع اعتباراً بمعنى «من »{[48180]} .

الثاني : أن يكون{[48181]} بياناً له .

الثالث : أن يكون صفة له وإنما جمع على معنى «من » أيضاً{[48182]} .

الرابع : أن ينتصب بإضمار أعني{[48183]} .

الخامس : أن يرتفع خبر مبتدأ مضمر أي هم الذين{[48184]} .

السادس : أن يرتفع مبتدأ خبره «يَطْبَعُ اللهُ » ، و«كذلك » خبر مبتدأ مضمر أيضاً أي الأمر كذلك ، والعائد من الجملة وهي يطبع على المبتدأ محذوف أي على كل متكبر منهم{[48185]} .

السابع : أن يكون مبتدأ ، والخبر «كَبُرَ مَقْتاً » ولكن لا بُدّ من حذف مضاف ليعود الضمير من «كبر » عليه والتقدير : قال الذين يجادلون كَبُرَ مقتاً ، ويكون «مَقْتاً » تمييزاً ، وهو منقول من الفاعلية ؛ إذ التقدير كبر مَقْتُ حالهم أي جادل المجادلين{[48186]} .

الثامن : أن يكون «الَّذِينَ » مبتدأ أيضاً ، ولكن لا يقدر حذف مضاف ، ويكون فاعل كبر ضميراً عائداً على ما تقدم أي كبر مقت{[48187]} جدالهم .

التاسع : أن يكون «الذين » مبتدأ أيضاً ، والخبر { بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ } قاله الزمخشري{[48188]} . ورده أبو حيان بأن فيه تفكيك الكلام بضعه من بعض ؛ لأن الظاهر تعلق «بغَيْرِ سُلْطَانٍ » «بِيُجَادِلُونَ » ولا يتعلق جعله خبراً «للذين » لأنه جار ومجرور فيصير التقدير : الذي يجادلون كائنونَ أو مستقرونَ بغير سلطان أي في غير سلطان ؛ لأن الباء إذْ ذَاكَ ظرفية خبرٌ عن الجثث{[48189]} .

العاشر : أنه مبتدأ وخبره محذوف أي معاندون ونحوه قاله ِأبو البقاء{[48190]} .

قوله : «كَبُرَ مَقْتاً » يحتمل أن يراد به التعجب{[48191]} والاستفهام ، وأن يراد به الذم «كبئس » وذلك أنه يجوز أن يبنى ( فَعُلَ ) - بضم العين - مما يجوز فيه التعجب منه ، ويَجْرِي مَجْرَى نِعْمَ وَبِئْسَ في جميع الأحكام ، وفي فاعله ستة أوجه :

الأول : أنه ضمير عائد على حال المضاف إلى الذين ، كما تقدم تقريره{[48192]} .

الثاني : أنه ضمير يعود على جدالهم المفهوم من «يُجَادِلُونَ » كما تقدم تقريره أيضاً{[48193]} .

الثالث : أنه الكاف في «كَذَلِكَ » . قال الزمخشري : وفاعل «كَبُرَ » قوله : كذلك ، أي كَبُرَ مقْتاً مِثْل ذَلِكَ الجِدال ، و«يَطْبَعُ اللهُ » كلام مستأنف{[48194]} .

ورده أبو حيان : بأن فيه تفكيكاً للكلام وارتكابَ مذهب ليس بصحيح ، أما التفكيك فلأن ما جاء في القرآن من «كَذَلِكَ يطبع أو تطبع » إنما جاء مربوطاً بعضه ببعض ، وكذلك هذا{[48195]} وأما ارتكاب مذهب غير صحيح فِإنه جعل الكاف اسماً ، ولا يكون اسماً إلا في ضرورة خلافاً للأخفش{[48196]} .

الرابع : أن الفاعل محذوف نقله الزمخشري ، قال : ومن قال كبر مقتاً عند الله جِدَالهُم فقد حذف الفاعل والفاعل لا يصح حذفه . قال شهاب الدين : القائل بذلك هو الحَوْفِيُّ لكنه لا يريد بذلك تفسير الإعراب إنما يريد به تفسير المعنى ، وهو معنى ما تقدم من أنّ الفاعل ضمير يعود على جدالهم المفهوم من فعله ، فصرح به الحوفي بالأصل ، وهو الاسم الظاهر ، ومراده ضمير يعود عليه{[48197]} .

الخامس : أن الفاعل ضمير يعود على ما بعده ، وهو التمييز ، نحو : نعم رجلاً زيد ، وبئس غلاماً عَمْرو{[48198]} .

السادس : أنه ضمير يعود على من في قوله : «من هو مسرف » وأعاد الضمير من كبر مقتاً اعتباراً بلفظها وحينئذ يكون قد راعى لفظ من أولاً في قوله كبر مقتاً{[48199]} .

وهذا كله إذا أعربت «الذين » تابعاً ل { مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ } نعتاً أو بياناً ، أو بدلا . وقد تقدم أن الجملة من قوله «كبر مقتاً » فيها وجهان :

أحدهما : الرفع ، إذا جعلناها خبر المبتدأ .

والثاني : أنها لا محل لها ، إذا لم نجعلها خبراً ، بل هي جملة استئنافية .

وقوله : «عِنْدَ الله » متعلق «بكَبُرَ » ، فكذلك قد تقدم أنه يجوز أن يكون خبر المبتدأ محذوفاً وأن يكون فاعلاً وهم ضعيفان .

والثالث - وهو الصحيح - : أنه معمول ل «يَطْبَعُ » أي مثل ذلك الطبع يطبع الله{[48200]} ، و«يطبع الله » فيه وجهان :

أظهرهها : أنه مستأنف{[48201]} .

والثاني : أنه خبر للموصول كما تقدم .

قوله : «قَلْبِ متكبّر » قرأ أبو عمرو ، وابن ذَكْوَانَ بتنوين «قَلْبٍ »{[48202]} ، وصف القلب بالتكبر والجبروت لأنهما ناشئان منه ، وإن كان المراد الجملة ، كما وصف بالإثم في قوله : { فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ } [ البقرة : 283 ] وفي قوله : { إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ } [ غافر : 56 ] قال ابن الخطيب : «وأيضاً قال قوم : الإنسان الحقيقي هو القلب »{[48203]} والباقون بإضافة «قلب » إلى ما بعده ، أي كُلِّ قَلْبِ شخصٍ متكبرٍ . قال أبو عبيد : الاختيار الإضافة ، لوجوه :

الأول : أن عبد الله قرأ : «على قلب كمل متكبر »{[48204]} وهو شاهد لهذه القراءة .

الثاني : أن وصف الإنسان بالتكبر والجبروت أولى من وصف القلب بهما{[48205]} . وقد قدر الزمخشري مضافاً في القراءة الأولى ، أي على كُلّ ذِي قلبٍ متكبر ، فجعل الصفة لصاحبِ{[48206]} القلب . قال أبو حيان : «ولا ضرورة تدعو إلى{[48207]} اعتقاد الحذف » . قال شهاب الدين : بل ثَمَّ ضرورة إلى ذلك ، وهو توافقُ القراءتين واحداً وهو صاحب القلب بخلاف عدم التقدير ، فإنه يصير الموصوف في إحداهما القلب وفي الأخرى صاحبه{[48208]} .

فصل

قال الزَّجَّاجُ : قوله : «الذين » تفسير ل «المسرف المرتاب » ، يعني{[48209]} هم الذين يجادلون في آيات الله أي في إبطالها بالتكذيب «بغير سلطان » حجة ، «أتاهم » ، «كبر مقتاً » أي كبر ذلك الجدال مقتاً عند الله وعند الذين آمنوا . ودلت الآية على أنه يجوز وصف الله تعالى بأنه قد مقت بعض عباده ، إلا أنها صفة التأويل في حق الله ، كالغضب ، والحياء ، والعجب .

ثم بين أن هذا المقت كما حصل عند الله فكذلك حصل عند الذين آمنوا ، قال القاضي : مقت الله إياهم يدل على أن كل فعل ليس بخلق لا أنّ كونه فاعلاً للفعل ، وما قاله محال{[48210]} .

فصل

قد تقدم الكلام في الطبع{[48211]} ، والرَّيْنِ{[48212]} ، والقَسوة{[48213]} ، قال أهل السنة : قوله : { كَذَلِكَ يَطْبَعُ الله } يدل على أن الكل مِنْ عند الله . وقالت المعتزلة : الآية تدل على أن هذا الطبع إنما حصل ، لأنه كان في نفسه متكبراً جباراً . قال ابن الخطيب : وعند هذا تصيِرُ الآية حجة لكل واحد من الفريقين من وجه ، وعليه من وجه آخر ، والقول الثاني يخرج عليه رُجْحَانُ مذهبنا ، وهو أنه تعالى يخلق دواعي الكبر والرياسة في القلب فتصير تلك الدواعي مانعة من حصول ما يدعو إلى الطاعة ، والانقياد لأمر الله ، فيكون القول بالقضاء والقدر حقاً{[48214]} ، فيكون تعليل القلب بكونه متكبراً متجبراً باقياً ، فثبت أن القول بالقضاء والقدر هو ما ينطبق عليه لفظ القرآن من أوله لي آخره{[48215]} .

فصل

قال مقاتل : الفرق بين المتكبر ، والجبار ، أن المتكبر عن قبول التوحيد ، والجبار في غير حق . قال ابن الخطيب : كمال السعادة في أمرين : التعظيم لأمر الله ، والشفقة على خلق الله فعلى قول مقاتل المتكبر كالمضاد للتعظيم لأمر الله ، والجبروت كالمضاد للشفقة على خلق الله{[48216]} .


[48179]:وهو قول الزمخشري في الكشاف المرجع السابق، ومكي في المشكل 2/266، وأبو البقاء في التبيان لم يذكره بل ذكر أوجها أخر، كما قال بالبدلية ابن الأنباري في البيان 2/331، والنحاس في الإعراب 4/33 والزجاج في معاني القرآن وإعرابه 3/384.
[48180]:الكشاف 3/427.
[48181]:الدر المصون 4/692.
[48182]:المرجع السابق.
[48183]:التبيان 1119.
[48184]:البيان والتبيان والمشكل وإعراب النحاس ومعاني الزجاج السابقة.
[48185]:قاله أبو البقاء من المرجع السابق.
[48186]:مفهوم كلام الزمخشري في الكشاف 3/427 وباللفظ في الدر المصون 4/694.
[48187]:البحر المحيط 7/465.
[48188]:الكشاف 3/427.
[48189]:في البحر "الجثة" وانظر بحر أبي حيان 7/465.
[48190]:التبيان 1119.
[48191]:قاله العلامة الرضي في شرح الكافية 2/307، 308.
[48192]:قاله السمين في الدر المصون 4/695.
[48193]:ذكره أبو حيان في بحره 7/465.
[48194]:الكشاف 3/427.
[48195]:في البحر: فكذلك هنا.
[48196]:في البحر لا يجوز على مذهب البصريين إلا الأخفش وانظر البحر 7/464 و465.
[48197]:انظر معاني الفراء 3/8 والكشاف 3/427 والدر 4/498.
[48198]:الدر المصون 4/698 السابق بإيضاح لكلام أبي حيان في البحر 4/465.
[48199]:الدر المصون 4/698 السابق بإيضاح لكلام أبي حيان في البحر 4/465.
[48200]:الدر المصون 4/698 السابق بإيضاح لكلام أبي حيان في البحر 4/465.
[48201]:قال بهذا الإمام الزمخشري في الكشاف 3/427 قال: "ويطبع الله كلام مستأنف".
[48202]:من القراءة المتواترة ذكرها صاحب السبعة 570، والإتحاف 378 والنشر 2/365.
[48203]:كذا في تفسيره، وفي النسختين جزء القلب وانظر تفسيره 27/63.
[48204]:المختصر لابن خالويه 133.
[48205]:لم أعثر على رأي أبي عبيد بعلته هذه.
[48206]:قال: ويجوز أن يكون على حذف المضاف، أي على كل ذي قلب متكبر تجعل الصفة لصاحب القلب. الكشاف 3/427 و428.
[48207]:البحر 7/465.
[48208]:الدر المصون 4/696.
[48209]:قال: "ويجوز أن يكون موضع الذين رفعا على معنى من هو مسرف مرتاب هم الذين يجادلون" معاني القرآن وإعرابه 4/374.
[48210]:انظر تفسير الإمام الفخر الرازي 27/63.
[48211]:من قوله" {بل طبع عليها بكفرهم} [النساء: 155].
[48212]:من نفس السورة فقد قيل: إن الرين هو الطبع وقال مجاهد: الرين أسهل من الطبع والطبع أيسر من الإقفال والإقفال أشد من ذلك كله.
[48213]:والقسوة الغلظة قال: "ثم قست قلوبكم من بعد ذلك".
[48214]:في الرازي حيا.
[48215]:الرازي 27/73.
[48216]:السابق.