{ 22 } { لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا }
أي : لا تعتقد أن أحدا من المخلوقين يستحق شيئا من العبادة ولا تشرك بالله أحدا منهم فإن ذلك داع للذم والخذلان ، فالله وملائكته ورسله قد نهوا عن الشرك وذموا من عمله أشد الذم ورتبوا عليه من الأسماء المذمومة ، والأوصاف المقبوحة ما كان به متعاطيه ، أشنع الخلق وصفا وأقبحهم نعتا .
وله من الخذلان في أمر دينه ودنياه بحسب ما تركه من التعلق بربه ، فمن تعلق بغيره فهو مخذول قد وكل إلى من تعلق به ولا أحد من الخلق ينفع أحدا إلا بإذن الله ، كما أن من جعل مع الله إلها آخر له الذم والخذلان ، فمن وحده وأخلص دينه لله وتعلق به دون غيره فإنه محمود معان في جميع أحواله .
والخطاب فى قوله - تعالى - : { لا تجعل . . . } لكل من يصلح له .
والقعود فى قوله { فتقعد } قيل بمعنى المكث : كما يقول القائل : فلان قاعد فى أسوأ حال ، أى : ماكث فى أسوأ حال ، سواء أكان قاعدا أم غير قاعد . وقيل بمعنى العجز ، لأن العرب تقول : فلان ما أقعده عن المكارم ، أى : ما أعجزه عنها ، وقيل هو بمعنى الصيرورة ، من قولهم : فلان شحذ الشفرة حتى قعدت كأنها حربة ، أى : صارت .
والذى تطمئن إليه النفس أن القعود على حقيقته ، لأن من شأن المذموم المخذول أن يقعد حائرا نادما على ما فرط منه .
وقوله - سبحانه - : { مخذولا } من الخذلان ، وهو ترك النصرة عند الحاجة اليها .
يقال : خذل فلان صديقه ، أى : امتنع عن نصره وعونه مع حاجته الشديدة إليهما .
والمعنى : لا تجعل - أيها المخاطب - مع الله - تعالى - إلها آخر فى عبادتك أو خضوعك ، فتقعد جامعا على نفسك مصيبتين :
مصيبة الذم من الله - تعالى - ومن أوليائه ، لأنك تركت عبادة من له الخلق والأمر ، وعبدت ما لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا .
ومصيبة الخذلان ، بحيث لا تجد من يعينك أو ينصرك ، فى ساعة أنت أحوج ما تكون فيها إلى العون والنصر .
وجاء الخطاب فى قوله - تعالى - : { لا تجعل } عاما ، لكى يشعر كل فرد يصلح للخطاب أن هذا النهى موجه إليه ، وصادر إلى شخصه . لأن سلامة الاعتقاد مسألة شخصية ، مسئول عنها كل فرد بذاته وسيحمل وحده تبعة انحرافه عن طريق الحق
{ يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ }
وقوله { فتقعد } منصوب لأنه وقع بعد الفاء جوابا للنهى . وقوله { مذموما مخذولا } حالان من الفاعل .
وفى هذه الجملة الكريمة تصوير بديع لحال الإِنسان المشرك ، وقد حط به الذم والخذلان ، فقعد مهموما مستكينا عاجزا عن تحصيل الخيرات ، ومن السعى فى تحصيلها .
قال الآلوسى : وفى الآية الكريمة إشعار بأن الموحد جامع بين المدح والنصرة .
ثم ساق - سبحانه - بضع عشرة آية ، تناولت مجموعة من التكاليف تزيد على عشرين أمرا ونهيا .
وهذه التكاليف قد افتتحت بالنهى عن الإِشراك بالله - تعالى - وبالأمر بالإِحسان إلى الوالدين قال - تعالى - : { وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً . . . } .
يقول تعالى : والمراد المكلفون من الأمة ، لا تجعل أيها المكلف في عبادتك ربك له شريكًا { فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا } على إشراكك{[17381]} { مَخْذُولا } لأن الرب تعالى لا ينصرك ، بل يكلك إلى الذي عبدت معه ، وهو لا يملك لك{[17382]} ضرًا ولا نفعًا ؛ لأن مالك الضر والنفع{[17383]} هو الله وحده لا شريك له . وقد قال الإمام أحمد :
حدثنا أبو أحمد الزبيري ، حدثنا بشير بن سلمان ، عن سَيَّار أبي الحكم ، عن طارق بن شهاب ، عن عبد الله - هو ابن مسعود - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من أصابته فاقة فأنزلها بالناس لم تسد فاقته ، ومن أنزلها بالله أوشك الله له بالغنى ، إما أجَلٌ [ عاجل ]{[17384]} وإما غنى عاجل " .
ورواه أبو داود ، والترمذي من حديث بشير بن سلمان ، به{[17385]} ، وقال الترمذي : حسن صحيح غريب .
القول في تأويل قوله تعالى { لاّ تَجْعَل مَعَ اللّهِ إِلََهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مّخْذُولاً } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : لا تجعل يا محمد مع الله شريكا في ألوهته وعبادته ، ولكن أخلص له العبادة ، وأفرد له الألوهة ، فإنه لا إله غيره ، فإنك إن تجعل معه إلها غيره ، وتعبد معه سواه ، تقعد مذموما يقول : تصير ملوما على ما ضيعت من شكر الله على ما أنعم به عليك من نعمه ، وتصييرك الشكر لغير من أولاك المعروف ، وفي إشراكك في الحمد من لم يشركه في النعمة عليك غيره ، مخذولاً قد أسلمك ربك لمن بغاك سوءا ، وإذا أسلمك ربك الذي هو ناصر أوليائه لم يكن لك من دونه وليّ ينصرك ويدفع عنك . كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله لا تَجْعَلْ مَعَ اللّهِ إلَها آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوما مَخْذُولاً يقول : مذموما في نعمة الله . وهذا الكلام وإن كان خرج على وجه الخطاب النبيّ لله صلى الله عليه وسلم ، فهو معنيّ به جميع من لزمه التكليف من عباد الله جلّ وعزّ .
تذييل هو فذلكة لاختلاف أحوال المسلمين والمشركين ، فإن خلاصة أسباب الفوز ترك الشرك لأن ذلك هو مبدأ الإقبال على العمل الصالح فهو أول خطوات السعي لمريد الآخرة ، لأن الشرك قاعدة اختلال التفكير وتضليل العقول ، قال الله تعالى في ذكر آلهة المشركين { وما زادوهم غير تتبيب } [ هود : 101 ] .
والخطاب للنبيء تبعٌ لخطاب قوله : { انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض } [ الإسراء : 21 ] . والمقصود إسماعُ الخطاب غيره بقرينة تحقق أن النبي قائم بنبذ الشرك ومُنْح على الذين يعبدون مع الله إلهاً آخر .
وتقعد } مستعار لمعنى المكث والدوام . أريد بهذه الاستعارة تجريد معنى النهي إلى أنه نهي تعريض بالمشركين لأنهم متلبسون بالذم والخذلان . فإن لم يقلعوا عن الشرك داموا في الذم والخذلان .
والمذموم : المذكور بالسوء والعيب .
فأما ذمه فمن ذوي العقول ، إذ أعظم سُخرية أن يتخذ المرء حجراً أو عُوداً رباً له ويعبده ، كما قال إبراهيم عليه السلام { أتعبدون ما تنحتون } [ الصافات : 95 ] ، وذمهُ من اللّهِ على لسان الشرائع .
وأما خذلانه فلأنه اتخذ لنفسه ولياً لا يغني عنه شيئاً { إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم } [ فاطر : 14 ] ، وقال إبراهيم عليه السلام { يا أبت لِمَ تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئاً } [ مريم : 42 ] ، وخذلانه من الله لأنه لا يتولى من لا يتولّاه قال : { ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم } [ محمّد : 11 ] وقال { وما دعاء الكافرين إلا في ضلال } [ غافر : 50 ] .