قوله تعالى : { سلام قولاً من رب رحيم } أي : يقول الله لهم قولاً .
أخبرنا أبو سعيد أحمد بن إبراهيم الشريحي ، أنبأنا أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي ، أنبأنا عبد الخالق بن علي بن عبد الخالق المؤذن ، حدثني أبو بكر أحمد بن محمد بن موسى الملحمي الأصفهاني ، أنبأنا الحسن بن أبي علي الزعفراني ، أنبأنا ابن أبي الشوارب ، أنبأنا أبو عاصم العباداني ، أنبأنا الفضل الرقاشي ، عن محمد بن المنكدر ، عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " بينا أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع لهم نور فرفعوا رؤوسهم ، فإذا الرب تعالى قد أشرف عليهم من فوقهم ، فقال : السلام عليكم يا أهل الجنة ، فذلك قوله : { سلام قولا من رب رحيم } فينظر إليهم وينظرون إليه ، فلا يلتفتون إلي شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه حتى يحتجب عنهم فيبقى نوره بركة عليهم في ديارهم " وقيل : يسلم عليهم الملائكة في ديارهم . وقيل : تلسم عليهم الملائكة من ربهم ، وقال مقاتل : تدخل الملائكة على أهل الجنة من كل باب يقولون : سلام عليكم يا أهل الجنة من ربكم الرحيم . وقال : يعطيهم السلامة ، يقول : اسلموا السلامة الأبدية .
ولهم أيضا { سَلَامٌ } حاصل لهم { مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ } ففي هذا كلام الرب تعالى لأهل الجنة وسلامه عليهم ، وأكده بقوله : { قَوْلًا } وإذا سلم عليهم الرب الرحيم ، حصلت لهم السلامة التامة من جميع الوجوه ، وحصلت لهم التحية ، التي لا تحية أعلى منها ، ولا نعيم مثلها ، فما ظنك بتحية ملك الملوك ، الرب العظيم ، الرءوف الرحيم ، لأهل دار كرامته ، الذي أحل عليهم رضوانه ، فلا يسخط عليهم أبدا ، فلولا أن اللّه تعالى قدر أن لا يموتوا ، أو تزول قلوبهم عن أماكنها من الفرح والبهجة والسرور ، لحصل ذلك .
فنرجو ربنا أن لا يحرمنا ذلك النعيم ، وأن يمتعنا بالنظر إلى وجهه الكريم .
ثم ختم - سبحانه - هذا العطاء الجزيل للمؤمنين بقوله : { سَلاَمٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ } .
وللمفسرين فى إعراب قوله : { سَلاَمٌ } أقوال منها : أنه مبتدأ خبره الناصب للفظ { قَوْلاً } أى : سلا يقال لهم قولا . . .
وقد أشار صاحب الكشاف إلى بعض هذه الأقوال فقال : وقوله : { سَلاَمٌ } بدل من قوله { مَّا يَدَّعُونَ } كأنه قال لهم : سلام يقال لهم قولا من جهة رب رحيم .
والمعنى : أن الله - تعالى - يسلم عليهم بواسطة الملائكة ، أو بيغر واسطة ، مبالغة فى تكريمهم ، وذلك غاية متمناهم . .
وقد ذكر الإِمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية بعض الأحاديث ، منها ما رواه ابن أبى حاتم - بسنده - عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " بينما أهل الجنة فى نعيمهم ، إذ سطع لهم نور ، فرفعوا رءوسهم فإذا الرب - تعالى - قد أشرف عليهم من فوقهم ، فقال : السلام عليكم يا أهل الجنة . فذلك قوله : { سَلاَمٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ } قال : فينظر إليهم وينظرون إلأيه ، فلا يلتفتون إلى شئ من النعيم ما داموا ينظرون إليه . حتى يحتجب عنهم ، ويبقى نوره وبركته عليهم وفى ديارهم " .
والمتأمل فى هذه الآيات الكريمة - كما يقال الإِمام الفخر الرازى - يراها تشير إلى أن أصحاب الجنة ليسوا فى تعب ، كما تشير إلى وحدتهم وإلى حسن المكان ، وإلى إعطائهم كل ما يحتاجونه ، وإلى تلذذهم بالنعيم وإلى تلقيهم لأجمل تحية . .
هذا هو حال المؤمنين ، وهذا بعض ما يقال لهم من ألفاظ التكريم ، فماذا يقال للمجرمين .
وقوله : { سَلامٌ قَوْلا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ } قال ابن جريج : قال ابن عباس في قوله : { سَلامٌ قَوْلا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ } فإن الله نفسه سلام على أهل الجنة .
وهذا الذي قاله ابن عباس كقوله تعالى : { تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ } [ الأحزاب : 44 ]
وقد روى ابن أبي حاتم هاهنا حديثا ، وفي إسناده نظر ، فإنه قال : حدثنا موسى بن يوسف ، حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب ، حدثنا أبو عاصم العَبَّاداني ، حدثنا الفضل الرَّقاشيّ ، عن محمد بن المُنْكَدِر ، عن جابر بن عبد الله ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «بينا أهل الجنة في نعيمهم ، إذ سطع لهم نور ، فرفعوا رؤوسهم ، فإذا الرب تعالى قد أشرف عليهم من فوقهم ، فقال : السلام عليكم يا أهل الجنة . فذلك قوله : { سَلامٌ قَوْلا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ } . قال : «فينظر إليهم وينظرون إليه ، فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه ، حتى يحتجب عنهم ، ويبقى نوره وبركته عليهم وفي ديارهم » .
ورواه ابن ماجه في " كتاب السنة " من سننه{[24785]} ، عن محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب ، {[24786]} به .
وقال{[24787]} ابن جرير : حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، أخبرنا ابن وهب ، حدثنا حَرْمَلة ، عن سليمان بن حُمَيد قال : سمعت محمد بن كعب القُرَظِي يحدّث عن عمر بن عبد العزيز قال : إذا فرغ الله من أهل الجنة والنار ، أقبل في ظُلَل من الغمام والملائكة ، قال : فيسلم على أهل الجنة ، فيردون عليه السلام - قال القرظي : وهذا في كتاب الله { سَلامٌ قَوْلا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ } - فيقول : سلوني . فيقولون : ماذا نسألك أيْ ربّ ؟ قال : بلى سلوني . قالوا : نسألك - أيْ رب - رضاك . قال : رضائي أحلكم دار كرامتي . قالوا : يا رب ، فما الذي نسألك ، فوعزتك وجلالك وارتفاع مكانك ، لو قسمت علينا رزق الثقلين لأطعمناهم ولأسقيناهم ولألبسناهم ولأخدمناهم ، لا ينقصنا ذلك شيئًا . قال : إن لديَّ مزيدًا . قال فيفعل ذلك بهم في درجهم ، حتى يستوي في مجلسه . قال : ثم تأتيهم التحف من الله ، عز وجل ، تحملها إليهم الملائكة . ثم ذكر نحوه .
وهذا أثر غريب ، أورده ابن جرير من طرق . {[24788]}
وقوله : سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبّ رَحِيمٍ في رفع سلامٌ وجهان في قول بعض نحوييّ الكوفة أحدهما : أن يكون خبرا لما يدّعون ، فيكون معنى الكلام : ولهم ما يدّعون مسلّم لهم خالص . وإذا وُجّه معنى الكلام إلى ذلك كان القول حينئذٍ منصوبا توكيدا خارجا من السلام ، كأنه قيل : ولهم فيها ما يدّعون مسلّم خالص حقا ، كأنه قيل : قاله قولاً . والوجه الثاني : أن يكون قوله : سَلامٌ مرفوعا على المدح ، بمعنى : هو سلام لهم قولاً من الله . وقد ذُكر أنها في قراءة عبد الله : «سَلاما قَوْلاً » على أن الخبر متناه عند قوله : وَلَهُمْ ما يَدّعُونَ ، ثم نصب سلاما على التوكيد ، بمعنى : مسلما قولاً . وكان بعضُ نحوييّ البصرة يقول : انتصب قولاً على البدل من اللفظ بالفعل ، كأنه قال : أقول ذلك قولاً . قال : ومن نصبها نصبها على خبر المعرفة على قوله : وَلهُمْ فِيها ما يَدّعُونَ .
والذي هو أولى بالصواب على ما جاء به الخبر عن محمد بن كعب القُرَظيّ ، أن يكون سَلامٌ خبرا لقوله : وَلَهُمْ ما يَدّعُونَ فيكون معنى ذلك : ولهم فيها ما يدّعون ، وذلك هو سلام من الله عليهم ، بمعنى : تسليم من الله ، ويكون سلام ترجمة ما يدّعون ، ويكون القول خارجا من قوله : سلام . وإنما قلت ذلك أولى بالصواب لما :
حَدّثنا به إبراهيم بن سعيد الجوهريّ ، قال : حدثنا أبو عبد الرحمن المقري عن حرملة ، عن سليمان بن حميد ، قال : سمعت محمد بن كعب ، يحدّث عمر بن عبد العزيز ، قال : إذا فرغ الله من أهل الجنة وأهل النار ، أقبل يمشي في ظُلَل من الغمام والملائكة ، فيقف على أوّل أهل درجة ، فيسلم عليهم ، فيردّون عليه السلام ، وهو في القرآن : سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبّ رَحِيمٍ فيقول : سَلُوا ، فيقولون : ما نسألك وعزّتك وجلالك ، لو أنك قسمت بيننا أرزاق الثّقَلين لأطعمناهم وسقيناهم وكسوناهم ، فيقول : سَلُوا ، فيقولون : نسألك رضاك ، فيقول : رضائي أحلّكم دار كرامتي ، فيفعل ذلك بأهل كلّ درجة حتى ينتهي ، قال : ولو أن امرأة من الحُور العِين طلعت لأطفأ ضوء سِوارَيْها الشمس والقمر ، فكيف بالمُسَوّرة .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : حدثنا حرملة ، عن سليمان بن حميد ، قال : سمعت محمد بن كعب القرظيّ يحدّث عمر بن عبد العزيز ، قال : إذا فرغ الله من أهل الجنة والنار ، أقبل في ظُلَل من الغمام والملائكة ، قال : فيسلم على أهل الجنة ، فيردُون عليه السلام ، قال القُرظيّ : وهذا في كتاب الله : سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبّ رَحِيمٍ ؟ فيقول : سَلُوني ، فيقولون : ماذا نسألك ، أي رَبّ ؟ قال : بل سلوني قالوا : نسألك أي ربّ رضاك ، قال : رضائي أحلكم دار كرامتي ، قالوا : يا ربّ وما الذي نسألك فوعزّتك وجلالك ، وارتفاع مكانك ، لو قسمت علينا رزق الثقلين لأطعمناهم ، ولأسقيناهم ، ولألبسناهم ولأخدمناهم ، لا يُنقصنا ذلك شيئا ، قال : إن لديّ مزيدا ، قال : فيفعل الله ذلك بهم في درجهم حتى يستوي في مجلسه ، قال : ثم تأتيهم التحف من الله تحملها إليهم الملائكة . ثم ذكر نحوه .
حدثنا ابن سنان القزاز ، قال : حدثنا أبو عبد الرحمن ، قال : حدثنا حرملة ، قال : حدثنا سليمان بن حميد ، أنه سمع محمد بن كعب القرظي يحدّث عمر بن عبد العزيز ، قال : إذا فرغ الله من أهل الجنة وأهل النار ، أقبل يمشي في ظُلل من الغمام ويقف ، قال : ثم ذكر نحوه ، إلا أنه قال : فيقولون : فماذا نسألك يا ربّ ، فوعزّتك وجلالك وارتفاع مكانك ، لو أنك قسمت علينا أرزاق الثقلين ، الجنّ والإنس ، لأطعمناهم ، ولسقيناهم ، ولأخدمناهم ، من غير أن ينتقص ذلك شيئا مما عندنا ، قال : بلى فسلوني ، قالوا : نسألك رضاك ، قال : رضائي أحلّكم دار كرامتي ، فيفعل هذا بأهل كلّ درجة ، حتى ينتهي إلى مجلسه . وسائر الحديث مثله .
فهذا القول الذي قاله محمد بن كعب ، ينبىء عن أن «سلام » بيان عن قوله : ما يَدّعُونَ ، وأن القول خارج من السلام . وقوله : مِنْ رَبّ رَحِيمٍ يعني : رحيم بهم إذ لم يعاقبهم بما سلف لهم من جُرْم في الدنيا .
وقوله : { سلام } بدل منها أو صفة أخرى ، ويجوز أن يكون خبرها أو خبر محذوف أو مبتدأ محذوف الخبر أي ولهم سلام ، وقرئ بالنصب على المصدر أو الحال أي لهم مرادهم خالصا . { قولا من رب رحيم } أي يقول الله أو يقال لهم قولا كائنا من جهته ، والمعنى أن الله يسلم عليهم بواسطة الملائكة أو بغير واسطة تعظيما لهم وذلك مطلوبهم ومتمناهم ، ويحتمل نصبه على الاختصاص .
استئناف قطع عن أن يعطف على ما قبله للاهتمام بمضمونه ، وهو الدلالة على الكرامة والعناية بأهل الجنة من جانب القدس إذ يوجه إليهم سلام الله بكلام يعرفون أنه قول من الله : إمّا بواسطة الملائكة ، وإما بخلق أصوات يُوقنون بأنها مجعولة لأجل إسماعهم كما سمع موسى كلام الله حين ناداه من جانب الطور من الشجرة فبعد أن أخبر بما حباهم به من النعيم مشيراً إلى أصول أصنافه ، أخبر بأن لهم ما هو أسمى وأعلى وهو التكريم بالتسليم عليهم قال تعالى : { ورضوان من الله أكبر } [ التوبة : 72 ] .
و { سَلامٌ } مرفوع في جميع القراءات المشهورة . وهو مبتدأ وتنكيره للتعظيم ورفعه للدلالة على الدوام والتحقق ، فإن أصله النصب على المفعولية المطلقة نيابة عن الفعل مثل قوله : { فقالوا سلاماً } [ الذاريات : 25 ] . فلما أريدت الدلالة على الدوام جيء به مرفوعاً مثل قوله : { قال سلام } [ هود : 69 ] ، وقد تقدم بيان ذلك عند قوله تعالى : { الحَمدُ لله رَبّ العالمين } [ الفاتحة : 2 ] .
وحذف خبر { سَلامٌ } لنيابة المفعول المطلق وهو قوله { قَوْلاً } عن الخبر لأن تقديره : سلام يقال لهم قولاً من الله ، والذي اقتضى حذف الفعل ونيابة المصدر عنه هو استعداد المصدر لقبول التنوين الدال على التعظيم ، والذي اقتضى أن يكون المصدر منصوباً دون أن يؤتى به مرفوعاً هو ما يشعر به النصب من كون المصدر جاء بدلاً عن الفعل .
و { من } ابتدائية . وتنوين { رَّبّ } للتعظيم ، ولأجل ذلك عدل عن إضافة { رب } إلى ضميرهم ، واختير في التعبير عن الذات العلية بوصف الرب لشدة مناسبته للإِكرام والرضى عنهم بذكر أنهم عبدوه في الدنيا فاعترفوا بربوبيته .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ذلك أن الملائكة تدخل على أهل الجنة من كل باب يقولون: سلام عليكم يا أهل الجنة من ربكم الرحيم...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبّ رَحِيمٍ"، في رفع "سلامٌ "وجهان في قول بعض نحوييّ الكوفة، أحدهما: أن يكون خبرا لما يدّعون، فيكون معنى الكلام: ولهم ما يدّعون مسلّم لهم خالص. وإذا وُجّه معنى الكلام إلى ذلك كان القول حينئذٍ منصوبا توكيدا خارجا من السلام، كأنه قيل: ولهم فيها ما يدّعون مسلّم خالص حقا، كأنه قيل: قاله قولاً. والوجه الثاني: أن يكون قوله: سَلامٌ مرفوعا على المدح، بمعنى: هو سلام لهم قولاً من الله...
والذي هو أولى بالصواب على ما جاء به الخبر عن محمد بن كعب القُرَظيّ، أن يكون سَلامٌ خبرا لقوله: "وَلَهُمْ ما يَدّعُونَ "فيكون معنى ذلك: ولهم فيها ما يدّعون، وذلك هو سلام من الله عليهم، بمعنى: تسليم من الله، ويكون سلام ترجمة ما يدّعون، ويكون القول خارجا من قوله: سلام... وقوله: "مِنْ رَبّ رَحِيمٍ" يعني: رحيم بهم إذ لم يعاقبهم بما سلف لهم من جُرْم في الدنيا.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
هذا يحتمل وجوها: أحدها: يردّون إليهم، أعني الملائكة سلام الله بحق التبليغ إليهم سلام، نحو ما يبلّغ بعضهم إلى بعض سلام بعض: اقرئ فلانا مني السلام. فعلى ذلك يقولون: إن الله أقرأ عليكم السلام.
والثالث: أن يكون القول من الله وعدا بالسلام لهم فيها من كل آفة وبلاء، يكون في الدنيا كقوله: {ادخلوها بسلام آمنين} [الحجر: 46] ونحوه.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
لهم سلام قولا من رب رحيم يسمعونه من الله تعالى ويؤذنهم بدوام الأمن والسلامة ودوامهما مع سبوغ النعمة والكرامة.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
يسمعونَ كلامَه وسلامَه بلا واسطة، وأكَّد ذلك بقوله:"قولاً".
{مِّن رَّبٍّ} ليعلم أنه ليس سلاماً على لسان سفير...
ويقال إنما قال: {مِّن رَّبٍّ رَّحيمٍ} ليكون للعصاة من المؤمنين فيه نَفَسٌ، ولرجائهم مساغ؛ فإن الذي يحتاج إلى الرحمة العاصي.
ويقال: قال ذلك ليعلم العبدُ أنه لم يصل إليه بفعله واستحقاقه، وإنما وصل إليه برحمة ربه.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
مبالغة في تعظيمهم، وذلك متمناهم، ولهم ذلك لا يمنعونه.
هو أكمل الأشياء وهو آخرها الذي لا شيء فوقه ولنبينه في مسائل:
المسألة الأولى: ما الرافع لقوله {سلام}؟ نقول يحتمل ذلك وجوها:
أحدها: هو بدل مما يدعون كأنه تعالى لما قال: {لهم ما يدعون} بينه ببدله فقال لهم سلام، فيكون في المعنى كالمبتدأ الذي خبره جار ومجرور، كما يقال في الدار رجل ولزيد مال وإن كان في النحو ليس كذلك بل هو بدل وبدل النكرة من المعرفة جائز، فتكون ما بمعنى الذي معرفة وسلام نكرة.
ويحتمل على هذا أن يقال ما في قوله تعالى: {ما يدعون} لا موصوفة ولا موصولة بل هي نكرة تقديره لهم شيء يدعون، ثم بين بذكر البدل فقال: {سلام} والأول هو الصحيح.
وثانيها: سلام خبر ما ولهم لبيان الجهة تقديره ما يدعون سالم لهم أي خالص؛ والسلام بمعنى السالم الخالص أو السليم يقال عبد السلام أي سليم من العيوب كما يقال لزيد الشرف متوفر والجار والمجرور يكون لبيان من له ذلك والشرف هو المبتدأ ومتوفر خبره.
وثالثها: قوله تعالى: {سلام} منقطع عما تقدم وسلام مبتدأ وخبره محذوف تقديره سلام عليهم فيكون ذلك إخبارا من الله تعالى في يومنا هذا كأنه تعالى حكى لنا وقال: {إن أصحاب الجنة اليوم في شغل} ثم لما بين كمال حالهم قال سلام عليهم، وهذا كما في قوله تعالى: {سلام على نوح} {سلام على المرسلين} فيكون الله تعالى أحسن إلى عباده المؤمنين كما أحسن إلى عباده المرسلين وهذا وجه مبتكر جيد ما يدل عليه منقول، أو نقول تقديره سلام عليكم ويكون هذا نوعا من الالتفات حيث قال لهم كذا وكذا، ثم قال سلام عليكم.
{من رب رحيم} يكون لبيان أن السلام منه أي سلام عليهم من رب رحيم أقوله قولا، ويحتمل أن يقال على هذا إنه تمييز لأن السلام قد يكون قولا وقد يكون فعلا فإن من يدخل على الملك فيطأطئ رأسه يقول سلمت على الملك، وهو حينئذ كقول القائل البيع موجود حكما لا حسا وهذا ممنوع عنه قطعا لا ظنا.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
فسر الذي يدعونه -أي يطلبونه- بغاية الاشتياق إليه أو استأنف الإخبار عنه بقوله: {سلام} أي عظيم جداً لا يكتنه وصفه، عليكم يا أهل الجنة، كائن هو أو مقول هو، والسلام يجمع جميع النعم، ثم بين حال هذا السلام بما أظهر من عظمه بقوله: {قولاً من رب} أي دائم الإحسان.
{رحيم} أي عظيم الإكرام بما ترضاه الإلهية، كما كانوا في الدنيا يفعلون كل ما فيه الرضا، فيرحمهم في حال السلام،وسماع الكلام بلذة الرؤية مع التقوية عن الدهش والصعق لعظيم الأمر، وبالتأهيل لهذا المقام الأكرم مع قصورهم عنه، وقد أوضح هذا السياق أنه من الله تعالى بلا واسطة، فإنه أكده بالقول وحرف الابتداء، وذكر صفات الإحسان كما قال الأستاذ أبو القاسم القشيري: ولا ارتياب في أنه لا شيء يعدل هذا في النعيم وقرة العين والشرف وعلو القدر، ولا شك أن هذا هو المقصود بالحقيقة، فهو قلب النعيم في ذلك اليوم الذي هو قلب الوجود حقاً خفاء وصلاحاً وفساداً، فصح أن هذه الآية قلب هذه السورة كما كانت هذه السورة قلب القرآن.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
في هذا كلام الرب تعالى لأهل الجنة وسلامه عليهم، وأكده بقوله: {قَوْلًا} وإذا سلم عليهم الرب الرحيم، حصلت لهم السلامة التامة من جميع الوجوه، وحصلت لهم التحية، التي لا تحية أعلى منها، ولا نعيم مثلها، فما ظنك بتحية ملك الملوك، الرب العظيم، الرءوف الرحيم، لأهل دار كرامته، الذي أحل عليهم رضوانه، فلا يسخط عليهم أبدا، فلولا أن اللّه تعالى قدر أن لا يموتوا، أو تزول قلوبهم عن أماكنها من الفرح والبهجة والسرور، لحصل ذلك. فنرجو ربنا أن لا يحرمنا ذلك النعيم، وأن يمتعنا بالنظر إلى وجهه الكريم.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
استئناف قطع عن أن يعطف على ما قبله للاهتمام بمضمونه، وهو الدلالة على الكرامة والعناية بأهل الجنة من جانب القدس؛ إذ يوجه إليهم سلام الله بكلام يعرفون أنه قول من الله: إمّا بواسطة الملائكة، وإما بخلق أصوات يُوقنون بأنها مجعولة لأجل إسماعهم كما سمع موسى كلام الله حين ناداه من جانب الطور من الشجرة، فبعد أن أخبر بما حباهم به من النعيم مشيراً إلى أصول أصنافه، أخبر بأن لهم ما هو أسمى وأعلى وهو التكريم بالتسليم عليهم قال تعالى: {ورضوان من الله أكبر} [التوبة: 72].
و {سَلامٌ} مرفوع في جميع القراءات المشهورة. وهو مبتدأ وتنكيره للتعظيم ورفعه للدلالة على الدوام والتحقق، فإن أصله النصب على المفعولية المطلقة نيابة عن الفعل مثل قوله: {فقالوا سلاماً} [الذاريات: 25]. فلما أريدت الدلالة على الدوام جيء به مرفوعاً مثل قوله: {قال سلام} [هود: 69]، وقد تقدم بيان ذلك عند قوله تعالى: {الحَمدُ لله رَبّ العالمين} [الفاتحة: 2].
وحذف خبر {سَلامٌ} لنيابة المفعول المطلق وهو قوله {قَوْلاً} عن الخبر لأن تقديره: سلام يقال لهم قولاً من الله، والذي اقتضى حذف الفعل ونيابة المصدر عنه:هو استعداد المصدر لقبول التنوين الدال على التعظيم، والذي اقتضى أن يكون المصدر منصوباً دون أن يؤتى به مرفوعاً هو ما يشعر به النصب من كون المصدر جاء بدلاً عن الفعل.
و {من} ابتدائية. وتنوين {رَّبّ} للتعظيم، ولأجل ذلك عدل عن إضافة {رب} إلى ضميرهم، واختير في التعبير عن الذات العلية بوصف الرب؛ لشدة مناسبته للإِكرام والرضى عنهم بذكر أنهم عبدوه في الدنيا فاعترفوا بربوبيته.
وبعد ذلك يتكلم الحق -سبحانه وتعالى- عن معنى كان يريده لخَلْقه في الدنيا نتيجة للسير على منهجه وصراطه المستقيم، فيقول سبحانه: {سَلاَمٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ} فثمرة الإسلام أنْ يُسْلِموا زمامهم جميعاً إلى يد خالقهم، وأن يكونوا إخوة عابدين لمعبود واحد، وأن يعيشوا معاً في أمن واطمئنان وسلام.
إذن: فالأمن والسلام هما الغاية من منهج الله، وهما تمام النعمة، وإلا فلو نعِم الإنسانُ بكل ألوان النعيم وفقد نعمة الأمن والسلام لنغَّصَتْ عليه كل النعم، وما هنئ بعيش ولا تمتُّع بلذة؛ لذلك امتن الله تعالى على قريش فقال: {الَّذِيۤ أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ} [قريش: 4].
السلام يكون منك حين تُقبل على آخر فتقول: السلام عليكم يعني: أنا مقبل عليك بسلام، فيردُّ عليك: وعليكم السلام، والمعنى: لا أنت تؤذينا، ولا نحن نؤذيك، وكُلٌّ يعطَى من السلام على قدر إمكاناته، فإذا كان السلام من الله، فهو السلام المطلق، السلام الذي يحميك من كل جوانبك، فلا ينفذ إليك شيء يضرُّك.
ومعنى: {سَلاَمٌ قَوْلاً} يعني: الله تعالى هو قائله ليس مناولةً عن طريق الملائكة مثلاً، فيقول لهم: سلِّموا على فلان، فالمعنى: سلام حالة كونه قَوْلاً من رب رحيم، وليس بلاغاً عن الله من أحد، واختار هنا لفظ الربوبية التي تقتضي أن المربِّي يحب المربَّى، فما بالك إذا وصفتَ الربوبية بالرحمة {مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ}.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
وأي سلام ذلك الذي يمثّل رحمته الخاصّة! أي أنّه ينبعث من مقام رحيميته وجميع ألطافه وكراماته مجموعة فيه، ويا لها من نعمة عظيمة!! ملاحظة أنواع «السلام» المنثور على أهل الجنّة الجنّة هي «دار السلام» كما ورد في الآية (25) من سورة يونس حيث نقرأ: (والله يدعو إلى دار السلام).
وأهل الجنّة الذين يسكنون هناك، يقابلون بسلام الملائكة حينما يدخلون عليهم الجنّة (والملائكة يدخلون عليهم من كلّ باب، سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار) ويناديهم ساكنو الأعراف ويسلّمون عليهم (ونادوا أصحاب الجنّة أن سلاماً عليكم).
وعندما يدخلون الجنّة يقابلون بسلام وتحيّة الملائكة. وحينما تقبض الأرواح يتلقّى المؤمن هذا السلام من ملائكة الموت:
(الذين تتوفّاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنّة بما كنتم تعملون). ويسلّم بعضهم على بعض (تحيتهم فيها سلام). وأخيراً، أسمى وأعظم سلام هو سلام الله عزّ وجلّ (سلام قولا من ربّ رحيم).
الخلاصة: (لا يسمعون فيها لغواً ولا تأثيماً إلاّ قيلا سلاماً سلاماً).
والسلام ليس لفظاً فحسب، بل سلام يؤدّي إلى خلق الهدوء والسلامة، وينفذ في أعماق الروح الإنسانية ويغمرها بالهدوء والسلام.