اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{سَلَٰمٞ قَوۡلٗا مِّن رَّبّٖ رَّحِيمٖ} (58)

قوله : «سَلاَمٌ » العامة على رفعه وفيه أوجه :

أحدها : ما تقدم من كونه خبر «مَا يَدَّعُونَ »{[46453]}

الثاني : أنه بدل منها . قاله الزمخشري{[46454]} . قال أبو حيان : وإذا كان بدلاً كان «مَا يَدَّعُونَ » خصوصاً والظاهر أنه عموم في كل ما يدعونه وإذا كان عموماً لم يكن بدلاً منه{[46455]} .

الثالث : أنه صفةٍ{[46456]} «لِمَا » وهذا إذا جعلتها نكرة موصوفة . أما إذا جعلتها بمعنى الذي أو مصدرية تعذر ذلك لتخالفهما تعريفاً{[46457]} وتنكيراً .

الرابع : أنه خبر مبتدأ مضمر أي هو سلام{[46458]} .

الخامس : أنه مبتدأ خبره الناصب لِ ( قوله ) «قَوْلاً » أي سَلامَ يُقَالُ لَهُمْ قَوْلاً .

وقيل : تقديره سَلاَمٌ عليكم{[46459]} .

السادس : أنه مبتدأ وخبره «مِنْ ربّ » . و «قَوْلاً » مصدر مؤكد لمضمون الجملة وهو مع عامله معترض بين المبتدأ والخبر{[46460]} ، وقرأ أبيّ وعبدُ الله وعيسى سَلاَماً بالنصب{[46461]} . وفيه وجهان :

أحدهما : أنه حال{[46462]} ، قال الزمخشري : أي لهم مرادهم{[46463]} خالصاً .

والثاني : أنه مصدر{[46464]} ( أي ) يُسَلمُونَ سَلاَماً إما من التحية وإما من السلامة .

و «قَوْلاً » إما مصدر مؤكد{[46465]} ، وإما منصوب على الاختصاص{[46466]} . قال الزمخشري : وهو الأوجه{[46467]} و «منْ رَبِّ » إما صفة ل «قَوْلاً » وإما خبر «سلام » كما تقدم . وقرأ القُرَظِيُّ{[46468]} «سِلْمٌ » بالكسر والسكون ، وتقدم الفرق بينهما في البقرة .

فصل

إذا قيل : بأن سلام بدل مِنْ «مَا يَدَّعُونَ » فكأنه تعالى قال لهم ما يدعون ونبَّه ببدله فقال : لهم سلام فيكون{[46469]} مبتدأ وخبره الجار والمجرور كما يقال : «فِي الدَّارِ رَجُلٌ ولِزَيْدٍ مَالٌ » وإن كان في النحو ليس كذلك بل هو بدل وبدل النكرة من المعرفة جائز{[46470]} ، فتكون «ما » بمعنى الذي معرفة ، وسلام نكرة . ويحتمل على هذا أن يقال : «ما » في قوله تعالى : { مَّا يَدَّعُونَ } لا موصوفة ولا موصولة بل هي نكرة تقديره لهم شَيْءٌ يَدَّعُونَ ، ثم بين بذكر البدل فقال : «سَلاَم » . والأول أصحّ . وإن قيل : سلام خبر «ما » و «لهم » لبيان الجهة فتقديره ما يدعون سلام لهم أي خالص لهم . والسَّلاَمُ بمعنى السالم والسليم ، يقال : عَبْدٌ سَلاَم أي سليمٌ من العيوب كما يقال : لِزَيْدٍ الشَّرَفُ متوفر فالجَارّ والمجرور يكون لبيان من له ذلك ، «والشرف » هو المبتدأ «ومتوفر » خبره ، وإن قيل : «سلام » منقطع عما قبله وهو مبتدأ وخبره محذوف فتقديره : سَلاَمٌ عَلَيْهِمْ ويكون ذلك إخباراً من الله تعالى في يومنا هذا كأنه تعالى حكى لنا وقال : إنَّ أصحاب الجنة في شغل ، ثُمَّ لمَّا بين كمال حالهم قال : سلام عليهم كقوله تعالى : { سَلاَمٌ على نُوحٍ } [ الصافات : 79 ] و { سَلاَمٌ على المرسلين } [ الصافات : 81 ] فيكون الله تعالى أحسن إلى عباده المؤمنين كما أحسن إلى عباده المرسلين . أو يقال تقديره : سلام عليكم ويكون التفاتاً حيث قال لهم كذا وكذا ، ثم قال : { سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ }{[46471]} [ الأنعام : 54 ]

فصل

إذا قيلَ : إنَّ «قَوْلاً » منصوب على المصدر فتقديره على قولنا إن المراد لهم سلام هو أن يقال لهم سَلاَم يَقُولُهُ اللَّهُ قَوْلاً . أو تقول{[46472]} الملائكة قَوْلاً ، وعلى قولنا ما يدعون{[46473]} سلام لهم فتقديره قال الله ذلك قولاً ووعدهم أن لهم ما يدعون سلامٌ وعداً ، وعلى قولنا : سلام عليهم{[46474]} فتقديره أقُولُهُ قَوْلاً ، وقوله { مِنْ رَبِّ{[46475]} رَحِيم } يكون لبيان ( أن ){[46476]} السلام منه أي سلام عليهم من رب رحيم أقوله{[46477]} قولاً ، ويحتمل{[46478]} أن يقال على هذا بأنه تمييز{[46479]} ؛ لأن السلام قد يكون قولاً وقد يكون فِعلاً فإن من يدخل على الملك يطأطئُ رأسه يقال{[46480]} : سلمت على الملك فهو حينئذ كقول القائل : موجود حُكْماً لا حِسًّا .

فصل

روى جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «بَيْنَا أَهْلُ الجَنَّةِ في نَعِيمِهمْ إذْ سَطَعَ لَهُمْ نُورٌ فَرَفَعُوا رُؤوسَهُمْ فَإذَا الرَّبُّ - عَزَّ وَجَلَّ- قَدْ أَشْرَفَ عَلَيْهِمْ مِنْ فَوقهِمْ فَقَالَ : السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ يَا أَهْلَ الجَنَّةِ ؛ فَذَلِكَ قَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ- : { سَلاَمٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ } فَيَنْظُرُ إلَيْهِمْ وَيَنْظُرُونَ إلَيْهِ فَلاَ يَلْتَفِتُونَ إلى شَيْءٍ من النَّعِيم مَا دَامُوا يَنْظُرُون إليْهِ حَتَّى يَحْتَجب عَنْهُمْ فَيَبْقَى نُورُهُ وبَرَكَتَهُ عَلَيْهِمْ في دِيارهمْ »{[46481]} . وقيل : تسلم عليهم الملائكة من ربهم كقوله : { وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُم } [ الرعد : 23-24 ] أي يقولون سلام عليكم يا أهل الجنة من ربكم الرحيم ، وقيل : يعطيهم السلامة{[46482]} .


[46453]:المراجع السابقة.
[46454]:الكشاف 3/327.
[46455]:البحر المحيط له 7/343.
[46456]:البيان 2/201 والمشكل 2/231 والتبيان 1085 والإعراب 4/402 وانظر في وجه البدلية مع الكشاف المراجع السابقة ومعاني القرآن وإعرابه للزجاج 4/292. وانظر في هذا كله السمين 4/527.
[46457]:البحر المحيط 7/343 والسمين المرجع السابق.
[46458]:التبيان السابق ومعاني الفراء 2/381 والسمين 4/527.
[46459]:قاله أبو حيان في البحر 7/343 والسمين في الدر 4/527 و 528.
[46460]:المرجع السابق.
[46461]:ذكرها ابن خالويه في المختصر 127 وابن جني في المحتسب 2/215 والكشاف 3/327 ومعاني الفراء 2/380 وهي من الشواذ.
[46462]:الكشاف 3/327 ومشكل الإعراب 2/230 والتبيان 1085.
[46463]:الكشاف 3/327.
[46464]:البيان 2/301 وانظر المراجع السابقة.
[46465]:التبيان والكشاف والإعراب للنحاس 3/402 والمشكل 2/231.
[46466]:وهو قول الزمخشري.
[46467]:كشافه 3/327.
[46468]:هو محمد بن كعب بن سليم أبو حمزة القرظي تابعي روى عن فضالة بن عبيد وغيره مات سنة 120 هـ. انظر: غاية النهاية 133/2. وقد ذكر قراءته ابن جني في المحتسب 2/2147 وهي من الشواذ وذكر المؤلف هناك في البقرة الفرق بين السِّلم والسًّلم عند الآية 208 {ادخلوا في السلم كافة} وبين هناك أن السلم -بالكسر- هو السلام وبالفتح الصلح أو أنهما بمعنى. اللباب 1/420.
[46469]:أي سلام وخبره الجار والمجرور ويكون في المعنى.
[46470]:هذا رأي الجمهور فقد قال السيوطي في الهمع: والجمهور لا تجب موافقة البدل لمتبوعه في التعريف والإظهار وضدهما فتبدل النكرة من المعرفة والمضمر من المظهر والمفرد من غيره وبالعكوس كقوله تعالى: {إلى صراط مستقيم. صراط الله}. {ولنسفعا بالناصية. ناصية كاذبة خاطئة}.
[46471]:وهذا كلام الإمام فخر الدين الرازي كله في تفسيره الكبير 26/94 من كون رفع "سلام" واتصاله بما قبله وانقطاعه ومن كون إعراب "ما" ونوعيتها وقد أوضحته قبل قليل بالتفصيل من كلام المؤلف نفسه وغيره مما اعتمد عليهم في آرائهم. والآيتان {سلام على نوح} {وسلام على المرسلين} من الصافات الأولى 79، والثانية 181.
[46472]:كذا في النسختين وفي الرازي : تقوله بالهاء. وهذا على اعتبار أن "سلام" مبتدأ مؤخر.
[46473]:وهذا على اعتبار أن "سلام" خبر ما.
[46474]:وهذا على اعتبار أن سلام مبتدأ وخبره الناصب لـ "قولا" كما أوضح هو وهذا رأي أبي حيان كما سبق.
[46475]:وهو الجار والمجرور.
[46476]:سقط ما بين القوسين من ب.
[46477]:في ب أقول بدون عائد أو ضمير. وكلاهما صحيحان.
[46478]:هذا رأي الإمام الفخر في تفسيره.
[46479]:في النسختين مميز والتصحيح من الرازي والعرف اللغوي والسياق.
[46480]:في ب قال. وفي الرازي يقول.
[46481]:أخرجيه البغوي في تفسيره عن محمد بن المنكدر. انظره 6/12.
[46482]:السابق.