قوله تعالى : { وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر } أي : ذاهب وسوف يذهب ويبطل ، من قولهم : مر الشيء واستمر إذا ذهب ، مثل قولهم : قر واستقر ، هذا قول مجاهد وقتادة . وقال أبو العالية والضحاك : مستمر أي : قوي شديد يعلو كل سحر ، من قولهم : مر الحبل ، إذا صلب واشتد ، وأمررته أنا إذا أحكمت فتله ، واستمر الشيء إذا قوي واستحكم .
فشاهدوا أمرا ما رأوا مثله ، بل ولم يسمعوا أنه جرى لأحد من المرسلين قبله نظيره ، فانبهروا لذلك ، ولم يدخل الإيمان في قلوبهم ، ولم يرد الله بهم خيرا ، ففزعوا إلى بهتهم وطغيانهم ، وقالوا : سحرنا محمد ، ولكن علامة ذلك أنكم تسألون من قدم{[922]} إليكم من السفر ، فإنه وإن قدر على سحركم ، لا{[923]} يقدر أن يسحر من ليس مشاهدا مثلكم ، فسألوا كل من قدم ، فأخبرهم بوقوع ذلك ، فقالوا : { سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ } سحرنا محمد وسحر غيرنا .
ثم بين - سبحانه - موقف هؤلاء المشركين من معجزاته - صلى الله عليه وسلم - فقال : { وَإِن يَرَوْاْ آيَةً يُعْرِضُواْ وَيَقُولُواْ سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ } .
أى : وإن يرى هؤلاء المشركون آية ومعجزة تدل على صدقك - أيها الرسول الكريم - يعرضوا عنها جحودا وعنادا . ويقولوا - على سبيل التكذيب لك - ما هذا الذى أتيتنا به يا محمد إلا سحر مستمر ، أى : سحر دائم نعرفه عنك ، وليس جديدا علينا منك .
قال صاحب الكشاف : { مُّسْتَمِرٌّ } أى دائم مطرد ، وكل شىء قد انقادت طريقته ، ودامت حاله ، قيل فيه قد استمر ، لأنهم لما رأوا تتابع المعجزات ، وترادف الآيات . قالوا : " هذا سحر مستمر " .
وقيل : مستمر ، أى : قوى محكم - من المرَّة بمعنى القوة - ، وقيلك هو من استمر الشىء إذا اشتدت مرارته ، أى : مستبشع عندنا مُرٌّ على لَهوَاتِنا ، لا نقدر أن نسيغه كما لا يساغ الشىء المر . وقيل : مستمر ، أى : مار ذاهب زائل عما قريب - من قولهم : مَرَّ الشىء واستمر إذا ذهب .
وقوله : { وَإِنْ يَرَوْا آيَةً } أي : دليلا وحجة وبرهانا { يعرضوا } أي : لا ينقادون له ، بل يعرضون عنه ويتركونه وراء ظهورهم ، { وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ } أي : ويقولون : هذا الذي شاهدناه من الحجج ، سحرٌ سحرنا به .
ومعنى { مُسْتَمِرٌّ } أي : ذاهب . قاله مجاهد ، وقتادة ، وغيرهما ، أي : باطل مضمحل ، لا دوام له .
وقوله : وَإنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا يقول تعالى ذكره . وإن ير المشركون علامة تدلهم على حقيقة نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم ، ودلالة تدلهم على صدقة فيما جاءهم به عن ربهم ، يعرضوا عنها ، فيولوا مكذّبين بها مُنكرين أن يكون حقا يقينا ، ويقولوا تكذيبا منهم بها ، وإنكارا لها أن تكون حقا : هذا سحر سَحَرنا به محمد حين خَيّلَ إلينا أنا نرى القمر منفلقا باثنين بسحره ، وهو سحر مستمرّ ، يعني يقول : سِحر مستمرّ ذاهب ، من قولهم : قد مرّ هذا السحر إذا ذهب . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : سِحْرٌ مُسْتَمِرّ قال : ذاهب .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وإنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرّ قال : إذا رأى أهل الضلالة آية من آيات الله قالوا : إنما هذا عمل السحر ، يوشك هذا أن يستمرّ ويذهب .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة وَيَقُولوا سِحْرٌ مُسْتَمِرّ يقول : ذاهب .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرّ كما يقول أهل الشرك إذا كُسِف القمر يقولون : هذا عمل السحرة .
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، قوله : سِحْرٌ مُسْتَمِرّ قال : حين انشقّ القمر بفِلقتين : فِلْقة من وراء الجبل ، وذهبت فلقة أخرى ، فقال المشركون حين رأوا ذلك : سحر مستمرّ .
وكان بعض أهل المعرفة بكلام العرب من أهل البصرة يوجه قوله : مُسْتَمِرّ إلى أنه مستفعل من الإمرار من قولهم : قد مرّ الجبل : إذا صلب وقوي واشتدّ وأمررته أنا : إذا فتلته فتلاً شديدا ، ويقول : معنى قوله : وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرّ : سحر شديد .
يجوز أن يكون تذييلاً للإِخبار بانشقاق القمر فيكون المراد ب { آية } في قوله : { وإن يروا آية } القمرَ . فقد جاء في بعض الآثار : أن المشركين لما رأوا انشقاق القمر قالوا : « هذا سحر محمد بن أبي كبشة » وفي رواية قالوا : « قد سَحَر محمد القمر » ، ويجوز أن يكون كلاماً مستأنفاً من ذكر أحوال تكذيبهم ومكابرتهم وعلى كلا الوجهين فإن وقوع { آية } ، وهو نكرة في سياق الشرط يفيد العموم .
وجيء بهذا الخبر في صورة الشرط للدلالة على أن هذا ديدنهم ودأبهم .
وضمير { يروا } عائد إلى غير مذكور في الكلام دال عليه المقام وهم المشركون ، كما جاء في مواضع كثيرة من القرآن ، مع أن قصة انشقاق القمر وطعنهم فيها مشهور يومئذٍ معروفة أصحابه ، فهم مستمرون عليه كلما رأوا آية على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم .
ووصف { مستمر } يجوز أن يكون مشتقاً من فعل مَرّ الذي هو مجاز في الزوال والسين والتاء للتقوية في الفعل ، أي لا يبقى القمر منشقاً . ويجوز أن يكون مشتقاً من المِرة بكسر الميم ، أي القوة ، والسين والتاء للطلب ، أي طلب لفعله مِرّة ، أي قوة ، أي تمكناً . والمعنى : هذا سحر معروف متكرر ، أي معهود منه مثله .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَإِنْ يَرَ الْمُشْرِكُونَ عَلَامَةً تَدُلُّهُمْ عَلَى حَقِيقَةِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَدِلَالَةً تَدُلُّهُمْ عَلَى صِدْقِهِ فِيمَا جَاءَهُمْ بِهِ عَنْ رَبِّهِمْ، يُعْرِضُوا عَنْهَا، فَيُوَلُّوا مُكَذّبينِ بِهَا مُنْكِرِينَ أَنْ يَكُونَ حَقًّا يَقِينًا، وَيَقُولُوا تَكْذِيبًا مِنْهُمْ بِهَا، وَإِنْكَارًا لَهَا أَنْ تَكُونَ حَقًّا: هَذَا سِحْرٌ سَحَرَنَا بِهِ مُحَمَّدٌ حِينَ خَيَّلَ إِلَيْنَا أَنَّا نَرَى الْقَمَرَ مُنْفَلِقًا بِاثْنَيْنِ بِسِحْرِهِ، وَهُوَ سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ، يَعْنِي يَقُولُ: سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ: ذَاهِبٌ، مِنْ قَوْلِهِمْ: قَدْ مَرَّ هَذَا السِّحْرُ، إِذَا ذَهَبَ... وَكَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِكَلَامِ الْعَرَبِ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ يُوَجِّهُ قَوْلَهُ: {مُسْتَمِرٌّ} إِلَى أَنَّهُ مُسْتَفْعِلٌ مِنَ الْإِمْرَارِ، مِنْ قَوْلِهِمْ: قَدْ مَرَّ الْجَبَلُ: إِذَا صَلُبَ وَقَوِيَ وَاشْتَدَّ، وَأَمْرَرْتُهُ أَنَا: إِذَا فَتَلْتُهُ فَتلًا شَدِيدًا، وَيَقُولُ: مَعْنَى قَوْلِهِ: {وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ}: سِحْرٌ شَدِيدٌ...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
... {وإن يروا آية} حسّية {يُعرِضوا} لأن آيات رسول الله صلى الله عليه وسلم عامّتها وأكثرها، كانت عقلية وسمعية، فيُخبر عن سفهِهم وتعنّتهم أنهم {وإن يروا آية} حسّية {يعرضوا} عنها...
{ويقولوا سحرٌ مستمر} اختلف فيه: منهم من قال: {سحر مستمر} أي ماض لم يزل الرسل عليهم السلام كانوا يأتون بمثله من السّحر. ومنهم من قال: {سحر مستمر} أي قوي مأخوذ من المرّة، وهي القوة... ومنهم من قال: {سحرٌ مستمر} أي ذاهب، يذهب، ويتلاشى، ولا يبقى.
{وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر} تقديره: وبعد هذا إن يروا آية يقولوا سحر، فإنهم رأوا آيات أرضية، وآيات سماوية، ولم يؤمنوا، ولم يتركوا عنادهم، فإن يروا ما يرون بعد هذا لا يؤمنون.
وفيه وجه آخر وهو أن يقال: المعنى أن عادتهم أنهم إن يروا آية يعرضوا، فلما رأوا انشقاق القمر أعرضوا لتلك العادة، وفيه مسائل:
المسألة الثالثة: التنكير في الآية للتعظيم أي إن يروا آية قوية أو عظيمة يعرضوا. المسألة الرابعة: قوله تعالى: {ويقولوا سحر مستمر} ما الفائدة فيه؟
نقول: فائدته بيان كون الآية خالية عن شوائب الشبه، وأن الاعتراف لزمهم لأنهم لم يقدروا أن يقولوا: نحن نأتي بمثلها وبيان كونهم معرضين لا إعراض معذور، فإن من يعرض إعراض مشغول بأمر مهم فلم ينظر في الآية لا يستقبح منه الإعراض مثل ما يستقبح لمن ينظر فيها إلى آخرها ويعجز عن نسبتها إلى أحد ودعوى الإتيان بمثلها، ثم يقول: هذا ليس بشيء هذا سحر لأن ما من آية إلا ويمكن المعاند أن يقول فيها هذا القول.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{ويقولوا} أي على سبيل التجديد منهم والاستمرار: هذا {سحر} أي هذا الذي يأتينا به هذا الرجل من وادي الخيال الذي لا حقيقة له وهو {مستمر} أي لأنه فارق السحر بأنه لا ينكشف في الحال لأنه محكم ثابت دائم بشموله وإحاطته بجميع الأنواع، ولذلك يتأثر عنه غاية الخوارق المتباينة الأنواع الكثيرة.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
فإن وقوع {آية}، وهو نكرة في سياق الشرط يفيد العموم. وجيء بهذا الخبر في صورة الشرط للدلالة على أن هذا ديدنهم ودأبهم. ووصف {مستمر} يجوز أن يكون مشتقاً من فعل مَرّ الذي هو مجاز في الزوال والسين والتاء للتقوية في الفعل، أي لا يبقى القمر منشقاً. ويجوز أن يكون مشتقاً من المِرة بكسر الميم، أي القوة، والسين والتاء للطلب، أي طلب لفعله مِرّة، أي قوة، أي تمكناً. والمعنى: هذا سحر معروف متكرر، أي معهود منه مثله.