محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{وَإِن يَرَوۡاْ ءَايَةٗ يُعۡرِضُواْ وَيَقُولُواْ سِحۡرٞ مُّسۡتَمِرّٞ} (2)

{ وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر 2 } .

{ وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر } قال ابن جرير :{[6863]} كان ذلك ، فيما ذكر ، على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة ، قبل هجرته إلى المدينة . وذلك أن كفار أهل مكة سألوه آية ، فأراهم صلى الله عليه وسلم انشقاق القمر حجة على صدق قوله ، وحقيقة نبوته . فلما أراهم ، أعرضوا وكذبوا ، وقالوا هذا سحر مستمر ، سحرنا محمد . ثم روي ذلك عن أنس وابن مسعود وابن عباس ، وغير واحد من التابعين .

وقال القاضي عياض في ( الشفا ) أخبر تعالى بوقوع انشقاقه بلفظ الماضي ، وإعراض الكفرة عن آياته . وأجمع المفسرون وأهل السنة على وقوعه ، ثم سرد الآثار في ذلك .

/ وزعم ابن كثير أن أحاديثه متواترة ، إلا أن الشهاب نقل عن الإمام الخطابيّ أن معجزاته صلى الله عليه وسلم ، غير القرآن ، لم تتواتر . والحكمة فيه أنها لو تواترت كانت عامة ، والمعجزة إذا عمت أهلك الله من كذبها ، كما جرت به العادة الإلهية ، والنبي صلى الله عليه وسلم بعث رحمة ، وأمّن الله أمته من عذاب الاستئصال .

ثم قال : وسبب تعرضهم للتواتر طعن بعض الملاحدة بأن القمر يشاهده كل أحد ، فلو انقسم قطعتين تواتر وشاع في جميع الناس ، ولم يخف على أحد . والطبائع حريصة على إشاعة ما لم يعهد مثله ، ولا أغرب من هذا . مع أن الملازمة غير لازمة ، لأنه في الليل ، وزمان الغفلة ، ولا يلزم امتداده ، ولا أن يُرى إذ ذاك في جميع الآفاق ، لاختلاف المطالع . انتهى .

وقد ذكر ابن قتيبة في ( تأويل مختلف الحديث ) أن الذي طعن في تلك الآثار المروية عن ابن مسعود هو النظام ، إلا أنه لم ينقل تأويله للآية على رأيه ، ولعله هو القول الثاني الذي حكاه الزمخشري والبيضاوي ، ورواه أبو السعود عن عثمان بن عطاء عن أبيه أن المعنى : وسينشق القمر ، يعني يوم القيامة إذا انكدرت النجوم وانتثرت . والمراد بالآية إما القرآن أو ما يقترحونه لو أجيبوا إلى طلبه .

ومعنى { مستمر } دائم مطرد ، أو محكم قوي ، من ( مررت الحبل ) إذا أحكمت فتله . أو مارّ ذاهب لا يبقى . تعليلا لأنفسهم بالأماني الفارغة . أو منفور عنه لشدة مرارته مجازا .

وجملة { وإن يروا } مستأنفة أو حالية .

قال الشهاب : ولو كانت هذه الجملة حالية ، والمعنى . أن الساعة اقتربت ، وانشقاق القمر فيها دنا زمانه ، وظهرت آثاره ، والحال أنهم مصرون على العناد – كان منتظما أتم انتظام ، ولا ضير فيه سوى مخالفته للمنقول عن السلف في تفسيرها ، فتأمل . انتهى .

أقول : ولي ههنا كلمة لا بد من التنبيه عليها ، وهي أن الرمي بالإلحاد لمنكر حديث غير مجمع على تواتره ، جناية كبرى ، وزلة عظمى . فإن باب التكفير والتضليل ، ليس بالأمر/ القليل . ولأجله صنف حجة الإسلام الغزالي كتابه ( فيصل التفرقة ) ودمغ بحججه أولئك المتعصبين الذين سهل عليهم الرمي لمن خالفهم بالزندقة . ولعمر الحق إن هذا مما فرّق الكلمة ، ونفّر حملة العلم عن تعرف المشارب والآراء ، حتى أصبح باب التوسع في العلم مرتجا ، ومحيطه بعد مده منحسرا ، إذ هجرت كتب الفرق الأخرى بل أحرقت ، وأهين من يتأثلها ، ورمي بالابتداع أو التزندق ، كما يمر كثير من مثل هذا بمطالع كتب التاريخ وطبقات الرجال ، فلا جرم نسيت الأقوال الباقية ، وعدت من الشاذ غير المقبول . وإذا ألصق اسم الإلحاد بقائلها ، فماذا يكون حالها ؟ وهذا ، كما لا يخفاك ، حيف على قواعد العلم ، وغل للأفكار . نعم ! تفلت منهم علم الأصول ، فلم تزل الأقوال الغريبة تتراءى على صفحاته ، وإن كان مما يغمز كثير منها ، إلا أنها سارت تلج آذانهم ، ويحتج بها عليهم . وقد تنبه كثير من المحققين لما ذكرناه ، وأشاروا له في مواضع ، فقرروا في كتب العقائد أنه لا يكفر أحد من أهل القبلة .

وقال العلامة الفناريّ في ( فصول البدائع ) ؛ ولا يضلل جاحد الآحاد .

وقال الإمام ابن تيمية : الصواب أن من رد الخبر الصحيح ، كما كانت الصحابة ترده ، لاعتقاد غلط الناقل أو كذبه ، لاعتقاد الرادّ أن الدليل قد دل على أن الرسول لا يقول هذا ، فإن هذا لا يكفر ولا يفسق ، وإن لم يكن اعتقاده مطابقا . فقد رد غير واحد من الصحابة غير واحد من الأخبار التي هي صحيحة عند أهل الحديث . انتهى .

وذكر الغزاليّ في ( الإحياء ) في كتاب آداب تلاوة القرآن في الباب الثالث في أعمال الباطن في التلاوة ؛ أن من أركانها التخلي عن موانع الفهم . قال : فإن أكثر الناس منعوا عن فهم معاني القرآن لأسباب وحجب أسدلها الشيطان على قلوبهم ، فعميت عليهم عجائب أسرار القرآن . وحجب الفهم أربعة . إلى أن قال :

وثانيها : أن يكون مقلدا لمذهب سمعه بالتقليد ، وجمد عليه ، وثبت في نفسه التعصب له بمجرد الاتباع للمسموع من غير وصول إليه ببصيرة ومشاهدة . فهذا شخص قيده معتقده / عن أن يجاوزه ، فلا يمكنه أن يخطر بباله غير معتقده ، فصار نظره موقوفا على مسموعه ، فإن لمع برق على بعد وبدا له معنى من المعاني التي تباين مسموعه ، حمل عليه شيطان التقليد حملة ، وقال : كيف يخطر هذا ببالك ، وهو خلاف معتقد آبائك ؟ فيرى أن ذلك غرور الشيطان فيتباعد منه ، ويحترز عن مثله . ثم قال :

رابعها –أن يكون قرأ تفسيرا ظاهرا ، واعتقد أنه لا معنى لكلمات القرآن إلا ما تناوله النقل عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما ، وأن ما وراء ذلك تفسير بالرأي ، وأن من فسر القرآن برأيه فقد تبوأ مقعده من النار ، فهذا أيضا من الحجب العظيمة . ثم قال :

وسنبين معنى التفسير بالرأي ، وأن ذلك لا يناقض قول علي رضي الله عنه : ( إلا أن يؤتي الله عبدا فهما في القرآن ) . وأنه لو كان المعنى هو الظاهر المنقول ، لما اختلف الناس فيه .

ثم ذكر بعد ، عليه الرحمة ، أن النهي عن التفسير بالرأي ينزل على أحد وجهين :

أحدهما – أن يكون له في الشيء رأيه ، وإليه ميل من طبعه وهواه ، فيتأول القرآن على وفق رأيه وهواه ، ليحتج على تصحيح غرضه ، كالمحتج على تصحيح بدعة بتأويل يخترعه تلبيسا على خصمه ، وكالجاهل المتقحّم يتأول ما شاء هواه .

وثانيهما – أن يتسارع إلى التأويل بظاهر العربية من غير استظهار بالسماع والنقل فيما يتعلق بغرائب التنزيل . انتهى .

ويأتي مثل البحث في كثير من المواضع التي فسرها بعض السلف بشيء ، أو روى فيها ما أنكره غيره لما قام لديه . ولا ملام في معترك الأفهام – وبالله التوفيق- .


[6863]:انظر الصفحة رقم 84 من الجزء السابع والعشرين(طبعة الحلبي الثانية(.