قوله تعالى : { تحيتهم } أي : تحية المؤمنين ، { يوم يلقونه } أي : يرون الله ، { سلام } أي : يسلم الله عليهم ، ويسلمهم من جميع الآفات . وروي عن البراء بن عازب قال : تحيتهم يوم يلقونه ، يعني : يلقون ملك الموت ، لا يقبض روح مؤمن إلا يسلم عليه . وعن ابن مسعود قال : إذا جاء ملك الموت ليقبض روح المؤمن قال : إن ربك يقرئك السلام . وقيل : تسلم عليهم الملائكة وتبشرهم حين يخرجون من قبورهم ، { وأعد لهم أجراً كريماً } يعني : الجنة .
هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا * }
أي : من رحمته بالمؤمنين ولطفه بهم ، أن جعل من صلاته عليهم ، وثنائه ، وصلاة ملائكته ودعائهم ، ما يخرجهم من ظلمات الذنوب والجهل ، إلى نور الإيمان ، والتوفيق ، والعلم ، والعمل ، فهذه أعظم نعمة ، أنعم بها على العباد الطائعين ، تستدعي منهم شكرها ، والإكثار من ذكر اللّه ، الذي لطف بهم ورحمهم ، وجعل حملة عرشه ، أفضل الملائكة ، ومن حوله ، يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون للذين آمنوا فيقولون : { رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُم وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَقِهِمْ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِي السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ }
فهذه رحمته ونعمته عليهم في الدنيا .
وأما رحمته بهم في الآخرة ، فأجل رحمة ، وأفضل ثواب ، وهو الفوز برضا ربهم ، وتحيته ، واستماع كلامه الجليل ، ورؤية وجهه الجميل ، وحصول الأجر الكبير ، الذي لا يدري ولا يعرف كنهه ، إلا من أعطاهم إياه ، ولهذا قال : { تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا }
ثم بين - عز وجل - ما أعده للمؤمنين فى الآخرة فقال : { تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلاَمٌ } .
والتحية : أن يقول قائل للشخص : حياك الله ، أى : جعل لك حاية طيبة .
وهذه التحية للمؤمنين فى الآخرة ، تشمل تحية الله - تعالى - لهم ، كما فى قوله - سبحانه - : { سَلاَمٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ }
وتشمل تحية الملائكة لهم ، كما فى قوله - تعالى - : { وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عقبى الدار } كما تشمل تحية بعضهم لبعض كما فى قوله - عز وجل - : { دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللهم وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين } أى : تحية المؤمنين يوم يلقون الله - تعالى فى الآخرة ، أو عند قبض أرواحهم ، سلام وأمان لهم من كل ما يفزعهم أو يخيفهم أو يزعجهم .
{ وَأَعَدَّ لَهُمْ } - سبحانه - يوم القيامة { أَجْراً كَرِيماً } هو الجنة التى فيها مالا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر .
وقوله : { تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ } الظاهر أن المراد - والله أعلم - { تَحِيَّتُهُمْ } أي : من الله تعالى يوم يلقونه { سَلامٌ } أي : يوم يسلم عليهم كما قال تعالى : { سَلامٌ قَوْلا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ } [ يس : 58 ] .
وزعم قتادة أن المراد أنهم يحيي{[23627]} بعضهم بعضا بالسلام ، يوم يلقون الله في الدار الآخرة . واختاره ابن جرير .
قلت : وقد يستدل بقوله{[23628]} تعالى : { دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [ يونس : 10 ] ، وقوله : { وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا }{[23629]} يعني : الجنة وما فيها من المآكل والمشارب ، والملابس والمساكن ، والمناكح والملاذ والمناظر وما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر .
تَحِيّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ يقول جلّ ثناؤه : تحية هؤلاء المؤمنين يوم القيامة في الجنة سلام ، يقول بعضهم لبعض : أمنة لنا ولكم بدخولنا هذا المدخل من الله أن يعذّبنا بالنار أبدا ، كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : تَحِيّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ قال : تحية أهل الجنة السلام .
وقوله : وأعَدّ لَهُمْ أجْرا كَرِيما يقول : وأعدّ لهؤلاء المؤمنين ثوابا لهم على طاعتهم إياه في الدنيا كريما ، وذلك هو الجنة ، كما :
حدثتا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وأعَدّ لَهُمْ أجْرا كَرِيما : أي الجنة .
أعقب الجزاء العاجل الذي أنبأ عنه قوله : { هو الذي يصلي عليكم وملائكته } [ الأحزاب : 43 ] بذكر جزاء آجل وهو ظهور أثر الأعمال التي عملوها في الدنيا وأثر الجزاء الذي عجّل لهم عليها من الله في كرامتهم يوم يلقون ربهم .
فالجملة تكملة للتي قبلها لإِفادة أن صلاة الله وملائكته واقعة في الحياة الدنيا وفي الدار الآخرة .
والتحية : الكلام الذي يخاطب به عندَ ابتداء الملاقاة إعراباً عن السرور باللقاء من دعاء ونحوه . وهذا الاسم في الأصل مصدر حيّاه ، إذا قال له : أحْياك الله ، أي أطال حياتك . فسمى به الكلام المعرب عن ابتغاء الخير للملاقَى أو الثناء عليه لأنه غلب أن يقولوا : أحياك الله عند ابتداء الملاقاة فأطلق اسمها على كل دعاء وثناء يقال عند الملاقاة وتحية الإِسلام : سَلامٌ عليك أو السلامُ عليكم ، دعاء بالسلامة والأمن ، أي من المكروه لأن السلامة أحسن ما يُبتغى في الحياة . فإذا أحياه الله ولم يُسلِّمه كانت الحياة أَلَما وشراً ، ولذلك كانت تحيةُ المؤمنين يوم القيامة السلامَ بشارة بالسلامة مما يشاهده الناس من الأهوال المنتظرة . وكذلك تحية أهل الجنة فيما بينهم تلذّذاً باسم ما هم فيه من السلامة من أهوال أهل النار ، وتقدم في قوله : { وتحيتهم فيها سلام } في سورة يونس ( 10 ) .
وإضافة التحية إلى ضمير المؤمنين من إضافة اسم المصدر إلى مفعوله ، أي تحية يُحَيَّون بها .
ولقاء الله : الحضور من حضرة قدسه للحساب في المحشر . وتقدم تفصيل الكلام عليها عند قوله تعالى : { واعلموا أنكم ملاقوه } في سورة البقرة ( 223 ) . وهذا اللقاء عام لجميع الناس كما قال تعالى : { فأعقبهم نفاقاً في قلوبهم إلى يوم يلقونه } [ التوبة : 77 ] فميّز الله المؤمنين يومئذٍ بالتحية كرامة لهم .
وجملة { وأعد لهم أجراً كريماً } حال من ضمير الجلالة ، أي يحييهم يوم يلقونه وقد أعد لهم أجراً كريماً . والمعنى : ومن رحمته بهم أن بدأهم بما فيه بشارة بالسلامة وقد أعدّ لهم أجراً كريماً إتماماً لرحمته بهم .
والأجر : الثواب . والكريم : النفيس في نوعه ، وقد تقدم عند قوله تعالى : { إني ألقي إلي كتاب كريم } في سورة النمل ( 29 ) . والأجر الكريم : نعيم الجنة .