{ وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ } أي : امتنعوا من الفيئة ، فكان ذلك دليلا على رغبتهم عنهن ، وعدم إرادتهم لأزواجهم ، وهذا لا يكون إلا عزما على الطلاق ، فإن حصل هذا الحق الواجب منه مباشرة ، وإلا أجبره الحاكم عليه أو قام به .
{ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } فيه وعيد وتهديد ، لمن يحلف هذا الحلف ، ويقصد بذلك المضارة والمشاقة .
ويستدل بهذه الآية على أن الإيلاء ، خاص بالزوجة ، لقوله : { من نسائهم } وعلى وجوب الوطء في كل أربعة أشهر مرة ، لأنه بعد الأربعة ، يجبر إما على الوطء ، أو على الطلاق ، ولا يكون ذلك إلا لتركه واجبا .
وجواب الشرط في قوله { وَإِنْ عَزَمُواْ الطلاق } محذوف والتقدير وإن عزموا الطلاق فقد وجب عليهم ما اعتزموه ، والطلاق منصوب على نزع الخافض لأن عزم يتعدى بعلى .
وفي قوله : { فَإِنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ } وعيد شديد لمن يحلف على ترك مباشرة امرأته أو يمسكها بقصد إيذائها ومضارتها .
أي فإن الله - تعالى - سميع لكل ما كان من الزوج الحالف ، عليم بما يقع منه من مضار أو غيرها ، وسيجزيه يوم القيامة بما يستحقه .
قال القرطبي ما ملخصه : وقد جعل الله للزوج مدة أربعة أشهر في تأديب المرأة بالهجر ، وقد آلى النبي صلى الله عليه وسلم من أزواجه شهر تأديبا لهن - عندما طالبنه بزيادة النفقة - وقد قيل : الأربعة الأشهر هي التي لا تستطيع أن تصبر عنه أكثر منها ، وقد روى أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - سأل بعض النساء عن مقدار صبر المرأة عن زوجها فقلن أربعة أشهر ، فجعل عمر مدة الرجل في الغزو أربعة أشهر ، فإذا مضت أر بعة أشهر استرد الغازين ووجه بقوم آخرين ، وهذا - والله أعلم - يقوى اختصاص مدة الإِيلاء بأربعة أشهر " .
وعلى أية حال فإن الطبائع تختلف في مثل هذه الأمور ، والأربعة الأشهر مدة كافية ليختبر الرجل نفسه وميوله ، فإما أن يعود إلى معاشرة زوجه بالطريقة التي شرعها الله ، وإما أن تعاد إلى الزوجة حريتها بالطلاق ، ليبدأ كلاهما حياة زوجية جديدة مع شخص آخر . فذلك أكرم للزوجة وأعف وأصون ، وأنفع للرجل كذلك وأشرف . وقد اختار الله هذه المدة وهو الأعلم بحكمة اختياره فعلينا أن نتقبل ما شرعه لنا طائعين خاشعين .
هذا وجمهور - العلماء على أن الطلاق لا يقع بانتهاء هذه المدة ، وإنما بانتهائها يأمره الحاكم بالفيئة ، فإن تقبل أمر الحاكم بالرضا أمهله مدة يمكنه الفيئة فيها ، وإن لم يتقبله بالرضا أمره بالطلاق ، فإن طلق فبها وإلا طلقها الحاكم منه .
وعليه فإن الفاء في قوله تعالى : { فَإِنْ فَآءُو } لترتيب الحكم الذي يحصل بعد مدة التربص .
وقال الأحناف إن الطلاق يقع بمجرد انتهاء هذه المدة وهي الأربعة الأشهر ، والرجوع إنما يكون خلالها فلا زيادة فوقها ، ويكفى في مراجعته لنفسه تلك المدة ، وما دام لم يرجع إلى معاشرة امرأته خلالها فقد آثر فراقها ، ولا يصح أن نعطيه أية مهلة من الوقت بعدها . وعليه تكون الفاء عندهم للتفصيل ، أي تفصيل ما يحصل من الزوج في هذه المدة .
وبذلك نرى أن هذه الآيات الكريمة قد نهت المسلم عن اتخاذ الحلف بالله حاجزاً بينه وبين فعل الخير ، وأمرته بأن يحفظ لسانه عن الإِكثار من الحلف بالله في الأمور الصغيرة والكبيرة ، وحذرته من تعمد الأيمان الكاذبة التي تؤدي إلى غضب الله - تعالى - لأن اليمين الكاذتبة الفاجرة من كبائر الذنوب ، وحذرته كذلك من أن يهجر زوجته بقصد إيذائها والإِضرار بها ، لأن الحياة الزوجية يجب أن تقوم على المودة والرحمة ، وأرشدته إلى أن أقصى مدة لهجر الزوجة بقصد تأديبها وعلاج أعوجاجها هي أربعة أشهر يراجع فيها نفسه ، فإما أن يعود إليها ويكفر عن يمينه ، وإما أن يقع بينهما الفراق { وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ الله كُلاًّ مِّن سَعَتِهِ } وبهذه الأحكام السامية يكون الإِسلام قد شرع للرجل والمرأة ما ينفعهما ويصون كرامتهما ، ويحفظ لهما حريتهما وحسن استمتاعهما بالحياة .
( وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ )
وفي هذه الحالة ينبغي أن تفك هذه العقدة ؛ وأن ترد إلى الزوجة حريتها بالطلاق . فإما طلق وإما طلقها عليه القاضي . وذلك ليحاول كل منهما أن يبدأ حياة زوجية جديدة مع شخص جديد . فذلك أكرم للزوجة وأعف وأصون ؛ وأروح للرجل كذلك وأجدى ؛ وأقرب إلى العدل والجد في هذه العلاقة التي أراد الله بها امتداد الحياة لا تجميد الحياة .
قوله : { وإن عزموا الطلاق } دليل على شرط محذوف ، دل عليه قوله : { فإن فاءو } فالتقدير : وإن لم يفيئوا فقد وجب عليهم الطلاق ، فهم بخير النظرين بين أن يفيئوا أو يطلقوا فإن عزموا الطلاق فقد وقع طلاقهم .
وقوله { فإن الله سميع عليم } دليل الجواب ، أي فقد لزمهم وأمضى طلاقهم ، فقد حد الله للرجال في الإيلاء أجلاً محدوداً ، لا يتجاوزونه ، فإما أن يعودوا إلى مضاجعة أزواجهم ، وإما أن يطلقوا ، ولا مندوحة لهم غير هذين .
وقد جعل الله للمولي أجلاً وغاية ، أما الأجل فاتفق عليه علماء الإسلام ، واختلفوا في الحالف على أقل من أربعة أشهر ، فالأئمة الأربعة على أنه ليس بإيلاء ، وبعض العلماء : كإسحاق بن راهويه وحماد يقول : هو إيلاء ، ولا ثمرة لهذا الخلاف فيما يظهر ، إلاّ ما يترتب على الحلف بقصد الضرِّ من تأديب القاضي إياه إذا رفعت زوجه أمرها إلى القاضي ومِن أمرِه إياه بالفَيْئَة .
وأما الغاية فاختلفوا أيضاً في الحاصل بعد مضي الأجل ، فقال مالك والشافعي : إن رفعته امرأته بعد ذلك يوقف لدى الحاكم ، فإما أن يفىء أو يطلق بنفسه ، أو يطلق الحاكم عليه ، وروي ذلك عن اثنى عشر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وقال أبو حنيفة : إن مضت المدة ولم يفيءْ فقد بانت منه ، واتفق الجميع على أن غير القادر يكفي أن يفيء بالعزم ، والنية ، وبالتصريح لدى الحاكم ، كالمريض والمسجون والمسافر .
واحتج المالكية بأن الله تعالى قال : { فإن الله سميع عليم } فدل على أن هنالك مسموعاً ؛ لأن وصف الله بالسميع معناه العليم بالمسموعات ، على قول المحققين من المتكلمين ، لا سيما وقد قرن بعليم ، فلم يبق مجال لاحتمال قول القائلين من المتكلمين بأن السميع مرادف للعليم وليس المسموع إلاّ لفظ المولي ، أو لفظ الحاكم ، دون البينونة الاعتبارية . وقوله { عليم } يرجع للنية والقصد . وقال الحنفية { سميع } لإيلائه ، الذي صار طلاقاً بمضي أجله ، كأنهم يريدون أن صيغة الإيلاء جعلها الشرع سبب طلاق ، بشرط مضي الأمد { عليم } بنية العازم على ترك الفَيئة . وقول المالكية أصح ؛ لأن قوله : { فإن الله سميع عليم } جُعل مفرعاً عن عزم الطلاق لا عن أصل الإيلاء ؛ ولأن تحديد الآجال وتنهيتها موكول للحكام .
وقد خفي على الناس وجه التأجيل بأربعة أشهر ، وهو أجل حدده الله تعالى ، ولم نطلع على حكمته ، وتلك المدة ثلث العام ، فلعلها ترجع إلى أن مثلها يعتبر زمناً طويلاً ، فإن الثلث اعتبر معظم الشيء المقسوم ، مثل ثلث المال في الوصية ، وأشار به النبي عليه الصلاة والسلام على عبد الله بن عمرو بن العاص في صوم الدهر . وحاول بعض العلماء توجيهه بما وقع في قصة مأثورة عن عمر بن الخطاب ، وعزا ابن كثير في « تفسيره » روايتها لمالك في « الموطأ » عن عبد الله بن دينار . ولا يوجد هذا في الروايات الموجودة لدينا : وهي رواية يحيى بن يحيى الليثي ، ولا رواية ابن القاسم والقعنبي وسويد بن سعيد ومحمد بن الحسن الشيباني ، ولا رواية يحيى بن يحيى بن بكير التميمي التي يرويها المهدي بن تومرت ، فهذه الروايات التي لدينا فلعلها مذكورة في رواية أخرى لم نقف عليها . وقد ذكر هذه القصة أبو الوليد الباجي في شرحه على الموطأ المسمى « بالمنتقى » ، ولم يعزها إلى شيء من روايات « الموطأ » : أن عمر خرج ليلة يطوف بالمدينة يتعرف أحوال الناس فمر بدار سمع امرأة بها تنشد :
أَلاَ طَالَ هذا الليلُ واسَود جانبه *** وأَرَّقني أَن لا خليلَ أُلاَعِبُه
فلولا حذار الله لا شيء غيـره *** لَزعزعَ من هذا السرير جوانبه
فاستدعاها من الغد فأخبرته أن زوجها أرسل في بعث العراق ، فاستدعى عمر نساء فسألهن عن المدة التي تستطيع المرأة فيها الصبر على زوجها قلن شهران ويقل صبرها في ثلاثة أشهر ، وينفد في أربعة أشهر وقيل إنه سأل ابنته حفصة فأمر عمر قواد الأجناد ألا يمسكوا الرجل في الغزو أكثر من أربعة أشهر ، فإذا مضت استردَّ الغازين ووجه قوماً آخرين .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وإن عزموا الطلاق} "فإن حققوا {الطلاق}: أنفذوا في السراح، فلم يجامعها أربعة أشهر، بانت منه بتطليقه.
{فإن الله سميع}: ليمينه، {عليم} يعني عالم بها...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
اختلف أهل التأويل في معنى قول الله تعالى ذكره:"وَإنْ عَزَمُوا الطّلاقَ" فقال بعضهم: معنى ذلك: للذين يؤلون أن يعتزلوا من نسائهم تربص أربعة أشهر، فإن فاءوا فرجعوا إلى ما أوجب الله لهن من العشرة بالمعروف في الأشهر الأربعة التي جعل الله لهم تربصهم عنهن وعن جماعهن وعشرتهن في ذلك بالواجب، فإن الله لهم غفور رحيم، وإن تركوا الفيء إليهن في الأشهر الأربعة التي جعل الله لهم التربص فيهن حتى ينقضين طلق منهم نساؤهم اللاتي آلوا منهنّ بمضيهن، ومضيهن عند قائلي ذلك هو الدلالة على عزم المولي على طلاق امرأته التي آلى منها.
ثم اختلف متأولو هذا التأويل بينهم في الطلاق الذي يلحقها بمضيّ الأشهر الأربعة؛ فقال بعضهم: هو تطليقة بائنة. وقال آخرون: بل الذي يلحقها بمضي الأربعة الأشهر تطليقة يملك فيها الزوج الرجعة.
وقال آخرون: معنى قوله: "لِلّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ "إلى قوله: "فَإنّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ": للذين يؤلون على الاعتزال من نسائهم تنظر أربعة أشهر بأمره وأمرها، فإن فاءوا بعد انقضاء الأشهر الأربعة إليهنّ، فرجعوا إلى عشرتهن بالمعروف، وترك هجرانهن، وأتوا إلى غشيانهن وجماعهن، فإن الله غفور رحيم، وإن عزموا الطلاق فأحدثوا لهن طلاقا بعد الأشهر الأربعة، فإن الله سميع لطلاقهم إياهن، عليم بما فعلوا بهن من إحسان وإساءة.
وقال متأوّلو هذا التأويل: مضيّ الأشهر الأربعة يوجب للمرأة المطالبة على زوجها المؤلي منها بالفيء أو الطلاق، ويجب على السلطان أن يقف الزوج على ذلك، فإن فاء أو طلق، وإلا طلق عليه السلطان.
وقال آخرون: ليس الإيلاء بشيء. وقال آخرون من أهل هذه المقالة: بل معنى قوله: "وَإنْ عَزَمُوا الطّلاقَ": وإن امتنعوا من الفيئة بعد استيقاف الإمام إياهم على الفيء أو الطلاق.
وأشبه هذه الأقوال بما دل عليه ظاهر كتاب الله تعالى ذكره؛ أن قوله: "فإنْ فاءُوا فإنّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَإنْ عَزَمُوا الطّلاقَ فإنّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ" إنما معناه: فإن فاءوا بعد وقف الإمام إياهم من بعد انقضاء الأشهر الأربعة، فرجعوا إلى أداء حق الله عليهم لنسائهم اللاتي آلوا منهن، فإن الله لهم غفور رحيم، وإن عزموا الطلاق فطلقوهن، فإن الله سميع لطلاقهم إذا طلقوا، عليم بما أتوا إليهن.
وإنما قلنا ذلك أشبه بتأويل الآية، لأن الله تعالى ذكره ذكر حين قال: "وَإنْ عَزَمُوا الطّلاقَ فإنّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ"، ومعلوم أن انقضاء الأشهر الأربعة غير مسموع، وإنما هو معلوم، فلو كان عزم الطلاق انقضاء الأشهر الأربعة لم تكن الآية مختومة بذكر الله الخبر عن الله تعالى ذكره أنه سَمِيعٌ عَلِيمٌ كما أنه لم يختم الآية التي ذكر فيها الفيء إلى طاعته في مراجعة المؤلي زوجته التي آلى منها وأداء حقها إليها بذكر الخبر عن أنه شديد العقاب، إذ لم يكن موضع وعيد على معصية، ولكنه ختم ذلك بذكر الخبر عن وصفه نفسه تعالى ذكره بأنه غفور رحيم، إذ كان موضع وعد المنيب على إنابته إلى طاعته، فكذلك ختم الآية التي فيها ذكر القول، والكلام بصفة نفسه بأنه للكلام سميع وبالفعل عليم، فقال تعالى ذكره: وإن عزم المؤلون على نسائهم على طلاق من آلوا منه من نسائهم، فإن الله سميع لطلاقهم إياهن إن طلقوهن، عليم بما أتوا إليهن مما يحلّ لهم، ويحرم عليهم. وقد استقصينا البيان عن الدلالة على صحة هذا القول في كتابنا «كتاب اللطيف من البيان عن أحكام شرائع الدين» فكرهنا إعادته في هذا الموضع.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
إنْ ملَّ حق صحبتها، وأكَّد العزم على مفارقتها، فإن الله مطلع على حاله وسره، فإن بدا له بادٍ من ندم فلا يُلبِس بأركان الطلاق، فإن الله سبحانه عليم أنه طلَّقها. ولمَّا كان الفراق شديداً عَزَّى المرأة بأن قال إنه {سمِيعُ} أي سمعنا موحش تلك القالة، فهذا تعزية لها من الحق سبحانه...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{وَإِنْ عَزَمُواْ الطلاق} فتربصوا إلى مُضيِّ المدة {فَإِنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ} وعيد على إصرارهم وتركهم الفيئة،
فإن قلت: كيف موقع الفاء إذا كانت الفيئة قبل انتهاء مدّة التربص؟ قلت: موقع صحيح لأن قوله {فَإِن فَآءُوا}، {وَإِنْ عَزَمُواْ} تفصيل لقوله {لّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نّسَائِهِمْ} والتفصيل يعقب المفصل، كما تقول: أنا نزيلكم هذا الشهر، فإن أحمدتكم أقمت عندكم إلى آخره، وإلا لم أقم إلا ريثما أتحوّل.
فإن قلت: ما تقول في قوله: {فَإِنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ} وعزمهم الطلاق بما يعلم ولا يسمع؟ قلت: الغالب أن العازم للطلاق وترك الفيئة والضرار، لا يخلو من مقاولة ودمدمة ولا بد له من أن يحدّث نفسه ويناجيها بذلك، وذلك حديث لا يسمعه إلا الله كما يسمع وسوسة الشيطان.
التفسير القيم لابن القيم 751 هـ :
{وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم} فإن الطلاق لما كان لفظا يسمع، ومعنى يقصد، عقبه باسم {السميع} لما نطق به {العليم} بمضمونه.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان الحال في مدة الإيلاء شبيهاً بحال الطلاق وليس به قال مبيناً أن الطلاق لا يقع بمجرد مضي الأربعة الأشهر بل إما أن يفيء أو يطلق فإن أبى طلق عليه الحاكم: {وإن عزموا الطلاق} فأوقع عليه العزم من غير حرف جر بمعنى أنهم تركوا ما كانوا فيه من الذبذبة وجعلوا الطلاق عزيمة واقعاً من غير مجمجة ولا ستر، والعزم الإجماع على إنفاذ الفعل، والطلاق هو في المعنى بمنزلة إطلاق الشيء من اليد الذي يمكن أخذه بعد إطلاقه -قاله الحرالي.
ولما كان المطلق ربما ندم فحمله العشق على إنكار الطلاق رهبه بقوله: {فإن الله} أي الملك الذي له الجلال والإكرام {سميع} أي لعبارتهم عنه.
قال الحرالي: في إشارته إعلام بأن الطلاق لا بد له من ظاهر لفظ يقع مسموعاً... {عليم} أي به وبنيتهم فيه.
قال الحرالي: وفيه تهديد بما يقع في الأنفس والبواطن من المضارة والمضاجرة بين الأزواج في أمور لا تأخذها الأحكام ولا يمكن أن يصل إلى علمها الحكام فجعلهم أمناء على أنفسهم فيما بطن وظهر، ولذلك رأى العلماء أن الطلاق أمانة في أيدي الرجال كما أن العدد والاستبراء أمانة في أيدي النساء، فلذلك انتظمت آية تربص المرأة في عدتها بآية تربص الزوج في إيلائه...
وبقي من أحكام الإيلاء قسم ثالث ترك التصريح به إشارة إلى أنهم ينبغي أن يكونوا في غاية النزاهة عنه وهو الإصرار على الإضرار، وأشار بصفتي المغفرة والرحمة لفاعل ضده إلى أن مرتكبه يعامل بضدهما مما حكمه معروف في الفقه والله الموفق.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{وإن عزموا الطلاق} أي صمموا قصده وعزموا على أن لا يعودوا إلى ملامسة نسائهم {فإن الله سميع عليم} أي فليراقبوا الله تعالى عالمين أنه سميع لإيلائهم وطلاقهم، عليم بنيتهم فيه، فإن كانوا يريدون به إيذاء النساء ومضارتهن فهو يتولى عقابهم، وإن كان لهم عذر شرعي بأن كان الباعث على الإيلاء تربية النساء لأجل إقامة حدود الله، وعلى الطلاق ترك غشيان امرأته فلا يجوز له أن يتربص أكثر من أربعة أشهر فإن تاب وعاد قبل انقضائها لم يكن عليه إثم، وإن أتمها تعين عليه أحد الأمرين الفيئة والرجوع إلى المعاشرة الزوجية أو الطلاق، وعليه أن يراقب الله تعالى فيما يختاره منهما. فإن لم يطلق هو بالقول كان مطلقا بالفعل، أي أنها تطلق منه بعد انتهاء المدة رغم أنفه منعا للضرر، وقيل ترفع أمرها إلى الحاكم فيطلق عليه، والمسألة خلافية في هذا ولكن لا خلاف في عدم جواز بقائها على عصمته وعدم إباحة مضارتها. وقد فضل الله تعالى الفيئة على الطلاق إذ جزاء الفيئة المغفرة والرحمة، وهدى إلى مراقبته في العزم على الطلاق، وذكر المؤلي بسمعه تعالى لما يقول وعلمه بما يسره في نفسه ويقصده من عمله.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وفي هذه الحالة ينبغي أن تفك هذه العقدة؛ وأن ترد إلى الزوجة حريتها بالطلاق. فإما طلق وإما طلقها عليه القاضي. وذلك ليحاول كل منهما أن يبدأ حياة زوجية جديدة مع شخص جديد. فذلك أكرم للزوجة وأعف وأصون؛ وأروح للرجل كذلك وأجدى؛ وأقرب إلى العدل والجد في هذه العلاقة التي أراد الله بها امتداد الحياة لا تجميد الحياة.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
{وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم} هذا هو الفرض القاسي الغليظ بعد الفرض الرحيم الرفيق، وهذه هي العقوبة التي وضعها الشارع الحكيم، و الطلاق في هذه الحال هو عقوبة عادلة، لأنه من جنس الجريمة، وهي نتيجة طبيعية لمن يظلم زوجه في العشرة الزوجية، وهو باب الفضيلة، إذ يمنع الزوج من أن تتقحم في الرذيلة. وقد أشار الله سبحانه إلى غضبه وعقوبته إن عزم الطلاق، فقد جعل جزاء الشرط كونه سميعا عليما، إذ قال: {وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم] أي أن الله سبحانه وتعالى سميع إلى ما كان من الزوج الحالف، قد سمع يمينه التي لم يرد بها خيرا، وكلامه الذي لم يرد به إلا ضرا، عليم بما وقع منه من مضارة وإيذاء، وأنه لم يحسن العشرة الزوجية، ولم يحسن الفراق، فإنه لم يسرحها بمعروف، بل تركها هملا حتى أنقذها الله من ظلمه بحكمه العادل الحاسم الرحيم. وإن الله سبحانه إذا كان عليما بما وقع، سميعا لما قيل فإنه لابد يوم القيامة مجاز الإحسان إحسانا والسوء سوءا. والطلاق ليس العقوبة الكاملة، إنما العقوبة الكاملة يوم الجزاء الأوفى، وعندئذ تجزى كل نفس بما كسبت، وإلى الله مرجع الأمور.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
[و] ما [تجدر] الإشارة إليه، فهو أنَّ اللّه قد فرض على الإنسان أن يتراجع عن يمينه في الحالة التي يتحوّل فيها اليمين إلى عنصر مضاد للحكم الشرعي، وإلى وسيلة من وسائل الضغط النفسي على الآخرين بالاعتداء على حقوقهم الشرعية؛ وبذلك كانت هذه الآية نموذجاً تطبيقياً للآية السابقة: {وَلاَ تَجْعَلُواْ اللّه عُرْضَةً لأيْمَانِكُمْ}.