محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{وَإِنۡ عَزَمُواْ ٱلطَّلَٰقَ فَإِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٞ} (227)

{ للذين يؤلون من نسائهم تربّص أربعة أشهر فإن فاءوا فإن الله غفور رحيم 226 } .

{ للذين يؤلون من نسائهم تربّص أربعة أشهر فإن فاءوا فإن الله غفور رحيم } { وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم } اشتملت هذه الآية على حكم الإيلاء ، وهو لغة ، الامتناع باليمين . وخص في عرف الشرع : بالامتناع باليمين من وطء الزوجة . ولهذا عدى فعله بأداة ( من ) تضمينا له معنى : يمتنعون من نسائهم . وهو أحسن من إقامة ( من ) مقام ( على ) . وجعل سبحانه للأزواج مدة أربعة أشهر يمتنعون فيها من نسائهم بالإيلاء ، فإذا مضت فإما أن يفيء وإما أن يطلق .

/ وقد اشتهر عن علي وابن عباس رضي الله عنهم أن الإيلاء إنما يكون في حال الغضب دون الرضا ، كما وقع لرسول الله صلى الله عليه وسلم{[1288]} مع نسائه . وظاهر القرآن مع الجمهور . وقد تناظر في هذه المسألة محمد بن سيرين ورجل آخر . فاحتج على محمد بقول علي كرم الله وجهه ، فاحتج عليه محمد بالآية فسكت . وقد اتفق الأئمة على أن المُولي إذا فاء إلى المواصلة لزمته كفارة يمين ، وإنما ترك ذكرها هنا لأنها معلومة من موضع آخر في التنزيل العزيز . فعموم وجوب التفكير ثابت على حالف .

قال العلاّمة صديق خان في ( تفسيره ) : اعلم أن أهل كل مذهب قد فسروا هذه الآية بما يطابق مذهبهم ، وتكلفوا بما لا يدل عليه اللفظ ولا دليل آخر . ومعناها ظاهر واضح وهو أن الله جعل الأجل لمن يولي ( أي : يحلف من امرأته ) أربعة أشهر ؛ ثم قال مخبرا لعباده بحكم هذا المولي بعد هذه المدة { فإن فاءوا } أي : رجعوا إلى بقاء الزوجية واستدامة النكاح { فإن الله غفور رحيم } أي : لا يؤاخذهم بتلك اليمين ، بل يغفر لهم ويرحمهم ؛ { وإن عزموا الطلاق } أي : وقع العزم منهم عليه والقصد له { فإن الله سميع } لذلك منهم { عليم } به . فهذا معنى الآية الذي لا شك فيه ولا شبهة . فمن حلف أن لا يطأ امرأته ولم يقيد بمدة ، أو قيّد بزيادة على أربعة أشهر كان علينا إمهاله أربعة أشهر . فإذا مضت فهو بالخيار : إما رجع إلى نكاح امرأته ، وكانت زوجته بعد مضي المدة كما كانت زوجته قبلها . أو طلقها ، أو كان له حكم المطلق لامرأته ابتداء . وأما إذا وقّت بدون أربعة أشهر : فإن أراد / أن يبر في يمينه اعتزل امرأته التي حلف منها حتى تنقضي المدة . كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين آلى من نسائه شهرا . فإنه اعتزلهن حتى مضى الشهر . وإن أراد أن يطأ امرأته قبل مضي تلك المدة التي هي دون أربعة أشهر حنث في يمينه ولزمته الكفارة . وكان ممتثلا لما صح عنه صلى الله عليه وسلم من قوله : ( من حلف على يمين فرأى غيره خيرا منه فليأت الذي هو خير وليكفّر عن يمينه ) .

قال الحراليّ : وفي قوله تعالى : { فإن الله سميع عليم } تهديد لما يقع في الأنفس والبواطن من المضارة والمضاجرة بين الأزواج في أمور لا تأخذها الأحكام ، ولا يمكن أن يصل إلى علمها الحكام ، فجعلهم أمناء على أنفسهم فيما بطن وظهر . ولذلك رأى العلماء أن الطلاق أمانة في أيدي الرجال ، كما أن العِدَد والاستبراء أمانة في أيدي النساء . فلذلك انتظمت آية تربّص المرأة في عدتها بآية تربّص الزوج في إيلائه .

قال الإمام ابن كثير : وقد ذكر الفقهاء وغيرهم في مناسبة تأجيل المُولِي بأربعة أشهر الأثر الذي رواه مالك عن عبد الله بن دينار قال : ( خرج عمر بن الخطاب من الليل فسمع امرأة تقول :

تطاول هذا الليل واسودّ جانبُهْ ***وأرّقني إلا خليل ألاعبُهْ

فوالله ! لولا الله ، أني أراقبُه*** لحُرِّك من هذا السرير جوانبُهْ . . !

فسأل عمر ابنته حفصة رضي الله عنهما : كم أكثر ما تصبر المرأة عن زوجها ؟ فقالت : ستة أشهر أو أربعة أشهر . فقال عمر : لا أحبس أحدا من الجيوش أكثر من ذلك ) . وقال محمد بن إسحق عن السائب بن جبير مولى ابن عباس وكان قد أدرك أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال : ما زلت أسمع حديث عمر أنه خرج ذات ليلة يطوف بالمدينة وكان يفعل ذلك كثيرا إذ مر بامرأة من نساء العرب مُغلقة بابها تقول :

/ تطاول هذا الليل وازورّ جانبه ***وأرّفني إلا ضجيع ألاعبُه

ألاعبه طورا وطورا كأنما*** بدا قمرا في ظلمة الليل حاجبه

يُسَرُّ به من كان يلهو بقربه*** لطيف الحشا لا يحتويه أقاربه

فوالله ! لولا الله ، لا شيء غيره ، *** لنُقِّض من هذا السرير جوانبه

ولكنني أخشى رقيبا موكّلا*** بأنفاسنا ، لا يفتر ، الدهر ، كاتبه

مخافة ربي ، والحياء يصدّني ، ***وإكرام بعلي ، أن تنال مراكبه . !

ثم ذكر بقية ذلك كما تقدم أو نحوه وقد روي هذا من طرق ، وهو من المشهورات .


[1288]:أخرجه البخاري في: 30 ـ كتاب الصوم، 11 ـ باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا رأيتم الهلال فصوموا). عن أم سلمة رضي الله عنها (أن النبي صلى الله عليه وسلم آلى من نسائه شهرا. فلما مضى تسعة وعشرون يوما غدا أو راح فقيل له: إنك حلفت أن لا تدخل شهرا فقال: إن الشهر يكون تسعة وعشرين يوما).