اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَإِنۡ عَزَمُواْ ٱلطَّلَٰقَ فَإِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٞ} (227)

قوله تعالى : { وَإِنْ عَزَمُواْ الطَّلاَقَ } في نصب " الطَلاَقَ " وجهان :

أحدهما : أنه على إسقاط الخافضِ ؛ لأنَّ " عَزَمَ " يتعدَّى ب " عَلَى " ، قال : [ الوافر ]

عَزَمْتُ عَلَى إِقَامَةِ ذِي صَبَاحٍ *** لأَمْرٍ مَّا يُسَوَّدُ مَنْ يَسُودُ{[3599]}

والثاني : أن تُضَمَّن " عَزَمَ " معنى " نَوَى " ؛ فينتصب مفعولاً به .

والعَزْمُ : عَقْدُ القلبِ وتصميمُه : عَزَم يَعْزِمُ عَزْماً وعُزْماً بالفتحة والضمة ، وعَزِيمَةً وعِزَاماً بالكَسْر ، ويستعمل بمعنى القَسَم : عَزَمْتُ عَلَيْكَ لَتَفْعَلَنَّ ؛ والعزمُ والعَزِيمةُ : توطينُ النَّفْسِ على المُرادِ المَطْلُوب ، والأَمر المَقْصُود . والطلاقُ : انحلالُ العقدِ ، وأصلُه الانطلاق .

وقال القرطبي{[3600]} : والطَّلاق : التَّخليةُ ، يقال : نعجةٌ طالِقٌ ، وناقةٌ طالِق أي : مهملة ؛ قد تُرِكت في المرعى ، لا قيدَ عليها ولا رَاعِيَ وبعير طُلُق : بضم الطَّاء واللام ، والجمع أَطلاقٌ ويقال : طَلَقَتْ بفتح اللام تَطْلُقُ فهي طالِقٌ وطَالِقَةٌ ؛ قال الأعشى : [ الطويل ]

أَيَا جَارَتَا بَينِي فَإِنَّكِ طَالِقَهْ *** . . . {[3601]}

وحكى ثعلب : " طَلُقَتْ " بالضم ، وأنكره الأخفش . والطلاقُ يجوز أَنْ يكون مصدراً ، أو اسمَ مصدرٍ ، وهو التطليقُ .

قوله : { فَإِنَّ اللهَ } ظاهرُه أنَّه جوابُ الشرطِ ، وقال أبو حيان : ويَظْهَرُ أنَّه محذوفٌ ، أي : فَلْيُوقِعُوهُ ، وقرأ{[3602]} عبد اللهِ : " فَإِنْ فَاءُوا فيهنَّ " وقرأ أُبيُّ " فِيهَا " والضميرُ للأَشْهُرِ .

وقراءةُ الجمهورِ ظاهرُها أنَّ الفَيْئَة والطَّلاق إنما تكونُ بعد مُضِيِّ الأربعة الأشهر ، إلاَّ أنَّ الزمخشريَّ لمَّا كان يرَى بمذهبِ أبي حنيفة : وهو أنَّ الفَيْئَة في مُدَّة الأربعةِ الأشهرِ ، ويؤيِّدُه القراءةُ المتقدِّمَةُ ، احتاجَ إلى تأويل الآيةِ بما نصُّه : " فإِنْ قلتَ : كيف موقعُ الفاءِ ، إذا كانت الفيئةُ قبل انتهاءِ مدةِ التربُّصِ ؟ قلت : موقعٌ صحيحٌ ؛ لأنَّ قوله : " فَإِنْ فَاءَوُا . وَإِنْ عَزَمُوا " تفصيلٌ لقوله : { لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَائِهِمْ } ، والتفصيلُ يَعْقُب المُفَصَّلَ ، كما تقول : أنَّا نزيلُكُمْ هذا الشَّهْرَ ، فإِنْ أَحْمَدْتُكُمْ ، أَقَمْتُ عندَكُمْ إلى آخره ، وإلاَّ لم أقُم إلاَّ رَيْثما أَتَحَوَّلُ " ، قال أبو حيان{[3603]} : " وليس بصحيحٍ ؛ لأنَّ ما مثل به ليس نظيرَ الآيةِ ؛ ألا ترَى أنَّ المثالَ فيه إخبارٌ عن المُفَصَّل حاله ، وهو قوله : " أَنَا نَزِيلُكُمْ هذا الشَّهْر " ، وما بعد الشرطينِ مُصَرَّحٌ فيه بالجواب الدالِّ على اختلاف متعلَّقِ فعل الجزاء ، والآيةُ ليسَتْ كذلك ؛ لأنَّ الذين يُؤلُونَ ليس مُخْبَراً عنهم ، ولا مُسْنَداً إليهم حُكْمٌ ، وإنما المحكُومُ عليه تربُّصُهُمْ ، والمعنى : تربُّصُ المُؤلين أربعةَ أَشْهُرٍ مشروعٌ لهم بعد إيلائهم ، ثم قال : " فَإِنْ فَاءُوا وَإِنْ عَزَمُوا " فالظاهرُ أَنَّهُ يَعْقُبُ تربُّصَ المدةِ المشروعةِ بأَسْرِهَا ، لأنَّ الفيئةَ تكونُ فيها ، والعَزْمَ على الطلاقِ بعدَها ؛ لأنَّ التقييد المغاير لا يَدُلُّ عليه اللفظُ ، وإنما يُطابقُ الآيةَ أَنْ تقول : " للضَّيْفِ إكرامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ، فإنْ أقامَ ، فنحنُ كرماءُ مُؤثِرُونَ ، وإنْ عَزَمَ على الرحيلِ ، فله أن يَرْحَلَ " ، فالمتبادَرُ إلى الذِّهْنِ أنَّ الشرطين مُقَدَّرَانِ بعد إكرامهِ " .

قوله : { سَمِيعٌ عَلِيمٌ } قال أبو حنيفة : سَمِيعٌ لإِيلائِه ، عليم بعزمِه .

قال القرطبي{[3604]} : دلَّت هذه الآية على أَنَّ الأَمة الموطوءة بملك اليمين لا يكون فيها إيلاءٌ ، إذ لا يقع عليها طلاقٌ .

فصل

قال أبو حنيفة والثَّوري : إنه لا يكون مُؤْلِياً حتى يحلف ألاَّ يطأها أربعة أشهر أو فيما زاد .

وقال الشَّافعيّ وأحمد ومالك : لا يكون مُؤلياً حتَّى تزيد المُدَّة على أربعة أشهر .

وفائدة الخلاف : أنه إذا آلَى منها أكثر من أربعة أشهرٍ أجل أربعة أشهر ، وهذا المُدَّة تكون حَقّاً للزَّوج ، فإذا مضت تطالب المرأة الزَّوج بالفيئة أو بالطَّلاق فإن امتنع الزَّوجُ منهما ، طلَّقها الحاكمُ عليه ، وعند أبي حنيفة : إذا مضت أربعةُ أشهر ، يقعُ الطَّلاق . حجة الشَّافعي وجوهٌ .

الأول : أنَّ " الفاء " في قوله { فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } ، { وَإِنْ عَزَمُواْ الطَّلاَقَ فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } يقتضي كون هذين الحُكمين مشروعين متراخياً على انقضاء الأَرْبَعة أشهُر .

قال ابن الخطيب{[3605]} لما ذكر قول الزَّمخشريِّ المتقدِّم على سبيل الإيراد : وهذا ضعيفٌ ، لأن قوله : { لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ } إشارةٌ إلى حُكمين :

أحدهما : صدور الإيلاء عنهم .

والثاني : وجوب تَرَبُّص هذه المُدَّة على النِّسَاء .

والفاء في قوله : " فَإِن فَاءُوا " ورد عقيب ذكرهما معاً ، فلا بُدَّ وأن يكون هذا الحُكمُ مشروعاً عقيب الأَمرين : عقيب الإيلاءِ ، وعقيب حُصُولِ التَّرَبُّص في هذه المُدَّة ، بخلاف المثال الَّذِي ذكرهُ ، وهو قوله : " أَنَا أَنْزِلُ عِنْدَكُم ؛ فإن أكرمتموني بقيتُ وإلا تَرَحَّلتُ " ؛ لأن هناك " الفاء " صارت مذكُورة عقيب شيء واحدٍ ، وهو النُّزول ، وهي هُنا مذكورة عقيب ذكر الإيلاء ، وذكر التَّربُّص ، فلا بُدَّ وأن يكُون ما دخلت " الفَاءُ " عليه واقعاً بين هذين الأمرين .

الحجة الثَّانية : قوله : { وَإِنْ عَزَمُواْ الطَّلاَقَ } صريحٌ في أنّ وقوع الطَّلاَق ، إنَّما يكون بإيقاع الزَّوج .

وعند أبي حنيفة : يقع الطَّلاَق بِمُضِيِّ المُدَّة ، لا بإيقاع الزَّوج .

فإن قيل : الإيلاءُ طلاقٌ في نفسه ؛ فالمراد من قوله : { وَإِنْ عَزَمُواْ الطَّلاَقَ } الإيلاء المتقدِّم .

فالجواب : هذا بعيد ؛ لأن قوله : { وَإِنْ عَزَمُواْ الطَّلاَقَ } لا بُدَّ وأن يكون معناه : " وإن عَزَمُوا الَّذِين يُؤلُونَ مِنْ نِسَائِهُمُ الطَّلاق " فجعل المُؤلي عازماً ، وهذا يقتضي أن يكون الإيلاءُ والعزم قد اجتمعا ، وأما الطَّلاق فهو مُتعلَّقُ العزم ، ومُتعلِّق العزم مُتأخرٌ عن العزم ؛ فإذن الطَّلاَق مُتأَخِّر عن العَزْمِ لا محالة ، والإِيلاءُ إمَّا أن يَكُون مقارناً للعزم أو متقدِّماً عليه ، وهذا يُفيد أن الطَّلاق مُغَاير لذلك الإِيلاءِ .

الحجة الثَّالثة : قوله تعالى : { وَإِنْ عَزَمُواْ الطَّلاَقَ فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } يقتضي أن يصدرَ من الزَّوج شيءٌ يكون مسموعاً وما ذاك إلاَّ أن نقول تقديره : " وإِن عَزَمُوا الطَّلاَق وطلّقوا فاللهُ سمِيعٌ لكَلاَمِهِم ، عَلِيمٌ بما في قُلُوبِهِم " .

فإن قيل : لِمَ لا يجوزُ أن يَكُون المُرادُ إن الله سَمِيعٌ لِذَلِك الإيلاءِ .

فالجواب : أنّ هذا التهديد لم يحصُل على نفس الإيلاء ، بل إنَّمَا حصل عن شيءٍ حصل بعد الإيلاء ، فلا بُدَّ وأن يَصْدُر عن الزَّوج بعد ذلك الإيلاء ، وهو كلام غيره ؛ حتى يكون قوله : { فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } تهديداً عليه .

الحجة الرَّابعة : قوله : " فَإِنْ فَاءُوا " ، " وَإِنْ عَزَمُوا " ظاهره التَّخيير بين الأَمرين ؛ وذلك يقتضي أن يكون ثبوتهما واحداً ، وعلى قول أبي حنيفة ليس الأمر كذلك .

الحجة الخامسة : أَنَّ الإيلاء في نفسه ليس بطلاقٍ ، بل هو حلفٌ على الامتناع عن الجماع مُدَّة مخصوصة ، إلاَّ أنّ الشَّرعَ ضرب لذلك مقداراً معلوماً من الزَّمان ؛ وذلك لأَنَّ الرَّجُل قد يترُك جماع المرأة مُدَّة من الزَّمان لا بسبب المضارّة ، وهذا إنّما يكُون إذا كان الزَّمَانُ قصيراً ، فَأَمَّا ترك الجماعِ زماناً طويلاً ، فلا يَكُون إلاَّ عند قصد المضَارَّة ، ولما كان الطُّول والقِصرُ في هذا الباب أَمراً غير مضبوطٍ ، قَدَّر له الشَّارع حدّاً فاصِلاً بين القَصِير والطَّويل ، وذلك لا يُوجبُ وقُوعَ الطَّلاق ، بل اللائِقُ بحكم الشَّرع عند ظهور قصد المضارَّة ، أن يَأْمُر بتركِ المَضَارَّة ، أو بتخليصها من قَيْد الإيلاءِ ، وهذا المعنى مُعْتَبرٌ في الشَّرع ؛ كضرب الأَجل في مُدَّة العنينِ{[3606]} وغيره .

حجة أبي حنيفة - رضي الله عنه - : قراءة عبد الله بن مسعود : " فَإِنْ فَاءُوا فِيهِنَّ " .

والجواب : أنّ القراءة الشَّاذَّة مردودة ؛ لأن القرآن لا يَثْبتُ كونه قُرآناً إلاَّ بالتَّواتُر ؛ فحيث فلم يثبُت بالتَّواتر ، قطعنا بأنَّه ليس بقُرآن وأَوْلى النَّاس بهذا أبو حنيفة ؛ فإنّه تَمَسَّك بهذا الحرف في أَنَّ التَّسمية ليست من القُرْآن .


[3599]:- البيت لأنس بن مدركة ينظر: أمالي ابن الشجري 1/186، المقتضب 4/ 435، شرح المفصل (3/12)، الدرر 1/168، الدر المصون 1/552.
[3600]:- ينظر: تفسير القرطبي 3/74.
[3601]:- صدر بيت وعجزه: كذاك أمور الناس غاد وطارقه ينظر: ديوانه (263)، الإنصاف (760)، المخصص 3/48، القرطبي 3/110، الدر المصون 1/ 552.
[3602]:- انظر: المحرر الوجيز 1/303 غير أن ابن عطية نسبهما إلى أبي، وانظر: البحر المحيط 2/193.
[3603]:- ينظر: البحر المحيط 2/195.
[3604]:- ينظر: تفسير القرطبي 3/74.
[3605]:- ينظر: تفسير الفخر الرازي 6/ 72.
[3606]:- (العنين) بكسر العين والنون المشددة، وهو العاجز عن الوطء، وربما اشتهاه، ولا يمكنه. مشتق من عن الشيء إذا اعترض لأن ذكره يعنّ أي يعترض عن يمين الفرج وشماله. وقيل: من عنان الدابة للينه، قالوا: يقال: عن يعنّ ويعنّ عنا وعنونا. واعتنّ اعترض، قال ابن الأعرابي: جمع العِنّين والمعنون عُنُنٌ. قال: يقال: عنَّ الرجل، وعُنِّنَ، وعُنِنَ، واعتنّ، فهو عِنْين، مَعْنُونٌ، مُعَنٌّ مُعَنَّن. قال صاحب المحكم: هو عِنِّينَ بين العَنَانَة والعِنْيَنة، والعِنِّينِيَّة. قال أبو عبيد: امرأة عنينة وهي التي لا تريد الرجال، وأما ما يقع في كتب أصحابنا من قولهم: العنّة يريدون التعنين فليس بمعروف في اللغة، وإنما العنّة الحظيرة من الخشب تجعل للإبل والغنم تحبس فيها. ينظر تحرير التنبيه ص 283، 284، المحكم 1/48.