الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَإِنۡ عَزَمُواْ ٱلطَّلَٰقَ فَإِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٞ} (227)

قوله تعالى : { عَزَمُواْ الطَّلاَقَ } : في نصبِ " الطلاق " وجهان ، أحدُهما : أنه على إسقاطِ الخافضِ ، لأنَّ " عزم " يتعدَّى ب " على " ، قال :

عَزَمْتُ على إقامةِ ذي صباحٍ *** لأمرٍ ما يُسَوَّدُ مَنْ يسَودُ

والثاني : أن تَضَمِّن " عزم " معنى نَوَى ، فينتصبَ مفعولاً به .

والعَزْم : عَقْدُ القلبِ وتصميمُه : عَزَمَ يَعْزِم عَزْماً وعُزْماً بالفتحة والضمة ، وعَزِيمة وعِزاماً بالكسر . ويستعمل بمعنى القَسَمِ : عَزَمْتُ عليكَ لتَفعلَّنَّ .

والطلاقُ : إحلالُ العَقْدِ ، يقال : طَلَقَتْ بفتح اللام - تَطْلُقُ فهي طالِقٌ وطالقَةٌ ، قال الأعشى :

أيا جارتا بيني فإنَّكِ طالِقَهْ *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وحكى ثعلب : " طَلُقت " بالضم ، وأنكره الأخفش ، والطلاقُ يجوز أَنْ يكون مصدراً أو اسمَ مصدرٍ وهو التطليقُ .

قوله : { فَإِنَّ اللَّهَ } ظاهرُه أنَّه جوابُ الشرطِ ، وقال الشيخ : " ويَظْهَرُ أنَّه محذوفٌ ، أي : فَلْيُوقِعوه . وقرأ عبد الله : " فإن فاؤوا فيهنَّ " وقرأ أبَيّ " فيها " ، والضميرُ للأَشْهُرِ .

وقراءةُ الجمهورِ ظاهرُها أنَّ الفَيْئَة والطلاقَ إنما تكونُ بعد مضيِّ أربعة الأشهر ، إلاَّ أنَّ الزمخشريَّ لمَّا كان يَرى بمذهبِ أبي حنيفة : وهو أنَّ الفَيْئَة في مدة أربعةِ الأشهرِ ، ويؤيِّدُه القراءةُ المقتدِّمَةُ احتاج إلى تأويلِ الآيةِ بما نصُّه . " فإنْ قلت : كيف موقعُ الفاءِ إذا كانت الفيئةُ قبل انتهاءِ مدةِ التربُّص ؟ قلت : موقعٌ صحيحٌ ، لأنَّ قولَه : " فإنْ فاؤوا ، وإنْ عَزَموا " تفصيلٌ لقولِه : " للذين يُؤْلُون مِنْ نسائِهِم ، والتفصيلُ يَعْقُب المُفَصَّل ، كما تقول : " أنَا نزيلُكم هذا الشهرَ فإنْ أَحْمَدْتُكم أقمتُ عندَكم إلى آخرِه ، وإلاَّ لم أقُمْ إلاَّ ريثما أتحولُ " . قال الشيخ : " وليس بصحيحٍ ، لأنَّ ما مثَّله ليس بنظيرِ الآيةِ ، ألا ترى أنَّ المثالَ فيه إخبارٌ عن المُفَصَّل حالُه ، وهو قولُه : " أنا نزيلُكم هذا الشهر " ، وما بعد الشرطينِ مُصَرَّحٌ فيه بالجوابِ الدالِّ على اختلافِ متعلَّقِ/ فعلِ الجزاء ، والآيةُ ليسَتْ كذلك ، لأنَّ الذين يُؤْلُون ليس مُخْبَراً عنهم ولا مُسْنَداً إليهم حكمٌ ، وإنما المحكومُ عليه تربُّصُهم ، والمعنى : تربُّص المُؤْلِين أربعةُ أشهر مشروعٌ لهم بعد إيلائِهم ، ثم قال : فإنْ فاؤوا وإنْ عَزَموا " فالظاهرُ أنَّهُ يَعْقُبُ تربُّصَ المدةِ المشروعةِ بأسْرِها ، لأنَّ الفيئةَ تكونُ فيها ، والعَزْمَ على الطلاقِ بعدَها ، لأنهَّ التقييدَ المغايرَ لا يَدُلُّ عليه اللفظُ ، وإنما يُطابقُ الآيةَ أَنْ تقولَ : " للضيفِ إكرامُ ثلاثةِ أيامٍ ، فإنْ أقامَ فنحن كرماءُ مُؤْثِرُون وإنْ عَزَم على الرحيلِ فله أنْ يَرْحَلَ " فالمتبادَرُ إلى الذِّهْنِ أنَّ الشرطينُ مُقَدَّران بعدَ إكرامِه " .