{ وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ ْ } أي : وما وجدنا لأكثر الأمم الذين أرسل اللّه إليهم الرسل من عهد ، أي : من ثبات والتزام لوصية اللّه التي أوصى بها جميع العالمين ، ولا انقادوا لأوامره التي ساقها إليهم على ألسنة رسله .
{ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ ْ } أي : خارجين عن طاعة اللّه ، متبعين لأهوائهم بغير هدى من اللّه ، فاللّه تعالى امتحن العباد بإرسال الرسل وإنزال الكتب ، وأمرهم باتباع عهده وهداه ، فلم يمتثل لأمره إلا القليل من الناس ، الذين سبقت لهم من اللّه ، سابقة السعادة .
وأما أكثر الخلق فأعرضوا عن الهدى ، واستكبروا عما جاءت به الرسل ، فأحل اللّه بهم من عقوباته المتنوعة ما أحل .
ثم كشف القرآن عن طبيعتهم فقال : { وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِم مِّنْ عَهْدٍ وَإِن وَجَدْنَآ أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ } .
أى : ما وجدنا لأكثر الناس من وفاء بعهودهم في الإيمان والتقوى ، بل الحال والشأن أننا علمنا أن أكثرهم فاسقين ، أى خارجين عن طاعتنا ، تاركين لأوامرنا ، منتهكين لحرماتنا .
وبعضهم يجعل الضمير في { لأَكْثَرِهِم } لأهل القرى المهلكة ، وأنهم كانوا إذا عاهدوا الله بعهد نقضوه ولم يوفوا به . والأول أرجح .
والمراد بالعهد ما عاهدهم الله عليه من الإيمان والتقوى والعمل الصالح .
ومن في قوله { مِّنْ عَهْدٍ } مزيدة للاستغراق وتأكيد النفى .
وإنما حكم على الأكثرين منهم ينقض العهود ، لأن الأقلية منهم قد آمنوا ووفوا بما عاهدوا الله عليه من الإيمان والعمل الصالح .
وهذا لون من الاحتراس الذي امتاز به القرآن في عرضه للحقائق ، فهو لا يلقى التهم جزافاً ، وإنما يعطى كل ذى حق حقه ، فإن كان الأكثرون قد استحقوا الذم لكفرهم ونقضهم لعهودهم ، فإن هناك قلة آمنت فاستحقت المدح والثناء .
قال الآلوسى : و { إِن } مخففة من الثقيلة وضمير الشأن محذوف ، ولا عمل لها فيه لأنها ملغاة على المشهور . وذهب الكوفيون إلى أن { إِن } هنا نافية واللام في { لَفَاسِقِينَ } بمعنى إلا ، أى : ما وجدنا أكثرهم إلا فاسقين " .
وإلى هنا تكون الآيات الكريمة التي جاءت في أعقاب الحديث عن أهل القرى المهلكة ، قد بينت لنا السنن الإلهية في سعادة الأمم وشقائها ، وكشفت لنا عن حكمته - سبحانه - في ابتلائه لعباده بالسراء تارة وبالضراء أخرى ، وحضت الناس على المراقبة لله وشكره على نعمائه ، وحذرتهم من الغفلة والأمان من مكره - سبحانه - فإنه لا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون .
ولقد تكشفت تلك التجارب عن طبيعة غالبة :
( وما وجدنا لأكثرهم من عهد ، وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين ) . .
والعهد الذي يشار إليه هنا قد يكون هو عهد الله على فطرة البشر ، الذي ورد ذكره في أواخر السورة : ( وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم : ألست بربكم ؟ قالوا : بلى شهدنا ) . .
وقد يكون هو عهد الإيمان الذي أعطاه أسلافهم الذين آمنوا بالرسل . ثم انحرفت الخلائف . كما يقع في كل جاهلية . إذ تظل الأجيال تنحرف شيئاً فشيئاً حتى تخرج من عهد الإيمان ، وترتد الى الجاهلية .
وأياً كان العهد فقد تبين أن أهل هذه القرى لا عهد لأكثرهم يستمسكون به ، ويثبتون عليه . إنما هو الهوى المتقلب ، والطبيعة التي لا تصبر على تكاليف العهد ولا تستقيم .
( وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين ) . .
منحرفين عن دين الله وعهده القديم . . وهذه ثمرة التقلب ، ونقض العهد ، واتباع الهوى . . ومن لم يمسك نفسه على عهده مع الله ، مستقيماً على طريقته ، مسترشداً بهداه . فلا بد أن تتفرق به السبل ، ولا بد أن ينحرف ، ولا بد أن يفسق . . وكذلك كان أهل تلك القرى . وكذلك انتهى بهم المطاف . .
وقوله تعالى : { وما وجدنا لأكثرهم من عهد } الآية ، أخبر تعالى أنه لم يجد لأكثرهم ثبوتاً على العهد الذي أخذه على ذرية آدم وقت استخراجهم من ظهره ، قاله أبو العالية عن أبي بن كعب ، ويحتمل أن يكون الكلام عبارة عن أنهم لم يصرفوا عقولهم في الآيات المنصوبة ولا شكروا نعم الله ولا قادتهم معجزات الأنبياء ، لأن هذه الأمور عهد في رقاب العقلاء كالعهود ينبغي أن يوفى بها ، وأيضاً فمن لدن آدم تقرر العهد الذي هو بمعنى الوصية وبه فسر الحسن هذه الآية فيجيء المعنى : وما وجدنا لأكثرهم التزام عهد وقبول وصاة ، ذكره المهدوي ، و { من } في هذه الآية زائدة ، إلا أنها تعطي استغراق جنس العهد ولا تجيء هذه إلا بعد النفي ، و { إن } هي المخففة من الثقيلة عند سيبويه ، واللام في قوله { لفاسقين } للفرق بين { إن } المخففة وغيرها ، و { إن } عند الفراء هي بمعنى ما واللام بمعنى إلا والتقدير عنده وما وجدنا أكثرهم إلا فاسقين .
عطفت جملة : { وما وجدنا لأكثرهم من عهد } على جملة : { ولقد جاءتهم رسلهم } وما رتب عليها من قوله : { فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل } تنبيهاً على رسوخ الكفر من نفوسهم بحيث لم يقلعه منهم لا ما شاهدوه من البينات ، ولا ما وضعه الله في فطرة الإنسان من اعتقاد وجود إله واحد وتصديق الرسل الداعين إليه ، ولا الوفاءُ بما عاهدوا عليه الرسل عند الدعوة : إنهم إن أتوهم بالبينات يؤمنون بها .
والوجدان في الموضعين مجاز في العلم ، فصار من أفعال القلوب ، ونفيه في الأول كناية عن انتفاء العهد بالمعنى المقصود ، أي : وفائه ، لأنه لو كان موجوداً لعَلمه مَنْ شأنه أن يعلمَه ويبحث عنه عند طلب الوفاء به ، لا سيما والمتكلم هو الذي لا تخفى عليه خافية كقوله : { قل لا أجد فيما أوحي إلي محرماً } [ الأنعام : 145 ] الآية ، أي لا محرم إلاّ ما ذكر ، فمعنى { وما وجدنا لأكثرهم من عهد } ما لأكثرهم عهد .
والعهدُ : الالتزامُ والوعدُ المؤكّدُ وقوعُه ، والمُوَثّقُ بما يمنع من إخلافه : من يمين ، أو ضمان ، أو خشية مسبة ، وهو مشتق من عَهِد الشيء بمعنى عَرفه ، لأن الوعد المؤكد يعرفه ملتزمه ويحرص أن لا ينساه .
ويسمى إيقاع ما التزمه الملتزم من عهده الوفاءَ بالعهد ، فالعهد هنا يجوز أن يراد به الوعد الذي حققَه الأممُ لرسلهم مثل قولهم : فأننا بآية إن كنت من الصادقين ، فإن معنى ذلك : إن أتيتنا بآية صدقناك . ويجوز أن يراد به وعد وثقه أسلاف الأمم من عهد آدم أن لا يعبدوا إلاّ الله وهو المذكور في قوله تعالى : { ألَمْ أعْهَدْ إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان } [ يس : 60 ] الآية ، فكان لازماً لأعقابهم .
ويجوز أن يراد به ما وعَدت به أرواح البشر خالقها في الأزل المحكيُ في قوله تعالى : { وإذْ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريّاتهم وأشهدهم على أنفسهم ألستُ بربّكم قالوا بلى شهدنا } [ الأعراف : 172 ] الآية . وهو عبارة عن خلق الله فطرة البشرية معتقدة وجود خالقها ووحدانيتَه ، ثم حرفتها النزعات الوثنية والضلالات الشيطانية .
ووقوع اسم هذا الجنس في سياق النفي يقتضي انتفاءه بجميع المعاني الصادق هو عليها .
ومعنى انتفاء وجدانه . هو انتفاء الوفاء به ، لأن أصل الوعد ثابت موجود ، ولكنه لما كان تحققه لا يظهر إلاّ في المستقبل ، وهو الوفاء ، جعل انتفاء الوفاء بمنزلة انتفاء الوقوع ، والمعنى على تقدير مضاف ، أي : ما وجدنا لأكثرهم من وفاء عهد .
وإنما عدّي عدم وجدان الوفاء بالعهد في { أكثرهم } للإشارة إلى إخراج مؤمني كل أمة من هذا الذم ، والمراد بأكثرهم ، أكثر كل أمة منهم ، لا أمة واحدة قليلة من بين جميع الأمم .
وقوله : { وإنْ وجدْنا أكثرهم لفَاسقين } إخبار بأن عدم الوفاء بالعهد من أكثرهم كان منهم عن عمد ونكث ، ولكون ذلك معنى زائداً على ما في الجملة التي قبلها عطفت ولم تجعل تأكيداً للتي قبلها أو بياناً ، لأن الفسق هو عصيان الأمر ، وذلك أنهم كذبوا فيما وعدوا عن قصد للكفر .
و ( إنْ ) مخففة من الثقيلة ، وبعدها مبتدأ محذوف هو ضمير الشأن ، والجملة خبر عنه تنويهاً بشأن هذا الخبر ليعلمه السامعون .
واللام الداخلة في خبر { وجدنا } لام ابتداء ، باعتبار كون ذلك الخبر خبراً من جملة هي خبر عن الاسم الواقع بعد ( إنْ ) ، وجلبت اللام للتفرقة بين المخففة والنافية .
وقد تقدم نظير هذا عند قوله تعالى : { وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين } [ آل عمران : 164 ] .
وأسند حكم النكث إلى أكثر أهل القرى ، تبيناً لكون ضمير { فما كانوا ليؤمنوا } جرى على التغليب ، ولعل نكتة هذا التصريح في خصوص هذا الحكم أنه حكم مذمة ومسبة ، فناسبت محاشاة من لم تلتصق به تلك المسبة .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وما وجدنا لأكثرهم من عهد}، وذلك أن الله أخذ ميثاق ذرية آدم على المعرفة، فأقروا بذلك، فلما بلغوا العمل نقضوا العهد.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: ولم نجد لأكثر أهل هذه القرى التي أهلكناها واقتصصنا عليك يا محمد نبأها "من عهد"، يقول: من وفاء بما وصيناهم به من توحيد الله، واتباع رسله، والعمل بطاعته، واجتناب معاصيه وهجر عبادة الأوثان والأصنام. والعهد: هو الوصية... "وَإنْ وَجَدْنا أكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ "يقول: وما وجدنا أكثرهم إلا فسقة عن طاعة ربهم، تاركين عهده ووصيته... عن أُبيّ بن كعب: وَما وَجَدْنا لأكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ قال: في الميثاق الذي أخذه في ظهر آدم عليه السلام.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{وما وجدنا لأكثرهم من عهد} يحتمل العهد المذكور وجوها ثلاثة: أحدها: عهد الخلقة لما في خلقة كل أحد الشهادة بالوحدانية له والألوهية، فلم يوفوا بتلك العهود، بل نقضوها. والثاني: العهد الذي أخذ الله عليهم على ألسن الرسل كقوله تعالى: {وقال الله إني معكم لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي} الآية [المائدة: 12] فلم يوفوا بذلك. والثالث: ما أعطوا هم من أنفسهم من العهد كقول فرعون لموسى: {يا أيها الساحر ادع لنا ربك بما عهد عندك إننا لمهتدون} [الزخرف: 49] فلم يوفوا بما أعطوا هم من العهود. وقوله تعالى: {وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين} وقد وجدنا أكثرهم فاسقين بنقض العهد، والله أعلم.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
نجم في العذر طارِقُهم، وأَفلَ من سماء الوفاء شارِقُهم، فَعَدِمَ أكثرُهم رعاية العهد، وحقت من الحق لهم قسمة الرد والصد.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
أي وما وجدنا لأكثر الناس من عهد يعني أنّ أكثرهم نقض عهد الله وميثاقه في الإيمان والتقوى {وَإِن وَجَدْنَا} وإنّ الشأن والحديث وجدنا أكثرهم فاسقين، خارجين عن الطاعة مارقين...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
... ويحتمل أن يكون الكلام عبارة عن أنهم لم يصرفوا عقولهم في الآيات المنصوبة ولا شكروا نعم الله ولا قادتهم معجزات الأنبياء، لأن هذه الأمور عهد في رقاب العقلاء كالعهود ينبغي أن يوفى بها...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
أي: ولقد وجدنا أكثرهم فاسقين خارجين عن الطاعة والامتثال. والعهد الذي أخذه [عليهم] هو ما جبلهم عليه وفطرهم عليه، وأخذ عليهم في الأصلاب أنه ربهم ومليكهم، وأنه لا إله إلا هو، فأقروا بذلك، وشهدوا على أنفسهم به، فخالفوه وتركوه وراء ظهورهم، وعبدوا مع الله غيره بلا دليل ولا حجة، لا من عقل ولا شرع وفي الفطر السليمة خلاف ذلك، وجاءت الرسل الكرام من أولهم إلى آخرهم بالنهي عن ذلك، كما جاء في صحيح مسلم يقول الله تعالى:"إني خلقت عبادي حُنَفَاء، فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحَرّمَتْ عليهم ما أحللتُ لهم". وفي الصحيحين: "كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه "الحديث.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان نقض العهد أفظع شيء ولا سيما عند العرب، قال عاطفاً على "فما كانوا ": {وما وجدنا} أي في عالم الشهادة {لأكثرهم} أي الناس، وأكد الاستغراق فقال: {من عهد} طبق ما كان عندنا في عالم الغيب، وهذا إما إشارة إلى الميثاق يوم {ألست بربكم} إن كان ذلك على حقيقته، أو إلى ما يفعلون حال الشدائد من الإقلاع عن المعاصي والمعاهدة على الشكر {لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين} [يونس: 22] أو إلى إقامة الحجج بإفاضة العقول ونصب الأدلة، فصار بنصبها وإيضاحها للعقول كأنه أخذ العهد على من عقل أنه يبذل الجهد في التأمل ولا يتجاوز ما أبداه له صحيح النظر {وإن} أي وإنا {وجدنا} أي علمنا في عالم الشهادة {أكثرهم لفاسقين} أي خارجين عن دائرة العهد مارقين مما أوقفهم عند الحد عريقين في ذلك طبق ما كنا نعلمه منهم في عالم الغيب، وما أبرزناه في عالم الشهادة إلا لنقيم عليهم به الحجة على ما يتعارفونه بينهم في مجاري عاداتهم ومدارك عقولهم...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
قال الراغب: عهد الله تارة يكون بما ركزه في عقولنا وتارة يكون بما أمرنا به في الكتاب. والمراد من الأول العهد الذي تقتضيه فطرة الله التي فطر الناس عليها، فهي عهد منه يطالب الناس به ويحاسبهم عليه، ومنه الحنيفية، وأصلها الميل عن جانب الباطل والشر إلى جانب الحق والخير، فقد فطر الله أنفس البشر على الشعور بسلطان غيبي فوق جميع قوى العالم – على إيثار ما تراه حسنا واجتناب والصواب أن العهد يعم هنا كل ما يصلح له من عهد فطري وشرعي وعرفي مما يلتزمه الناس بعضهم مع بعض في تعاهدهم وتعاقدهم لأنه جاء نكرة في سياق النفي مع تأكيد النفي بمن، كأنه قال: وما وجدنا لأكثر أولئك الأقوام عهدا ما يفون به {وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين} أي وأن الشأن الذي وجدنا عليه أكثرهم هو التمكن من الفسوق وهو الخروج عن كل عهد فطري وشرعي بالنكث والغدر، وغير ذلك من المعاصي. وإنما حكم على الأكثر لأن بعضهم قد آمن والتزم كل عهد عاهد الله عليه أو عاهده الله عليه أو تعاهد عليه مع الناس، ومنهم من كان يفي ببعض ذلك حتى في حال الكفر إذ لا تتفق أفراد أمة كبيرة على الشر والباطل في كل شيء، وهذا من دقة القرآن في تحديد الحقائق بالصدق الذي لا تشوبه شبهات المبالغة بما يسلب أحدا حقه أو يعطي غيره – وعلى حب الكمال وكراهة النقص. ولكنهم يخطئون في تحديد هذه المعاني ويحتاجون إلى بيانها بوحي من الله تعالى وهو عهد الله المفصل الذي يرسل به رسله لمساعدة الفطرة على تزكية النفس وإزالة ما يطرأ عليها من الفساد بالجهل وسوء الاختيار. أحدا غير حقه
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
تبين أن أهل هذه القرى لا عهد لأكثرهم يستمسكون به، ويثبتون عليه. إنما هو الهوى المتقلب، والطبيعة التي لا تصبر على تكاليف العهد ولا تستقيم. (وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين).. منحرفين عن دين الله وعهده القديم.. وهذه ثمرة التقلب، ونقض العهد، واتباع الهوى.. ومن لم يمسك نفسه على عهده مع الله، مستقيماً على طريقته، مسترشداً بهداه. فلا بد أن تتفرق به السبل، ولا بد أن ينحرف، ولا بد أن يفسق.. وكذلك كان أهل تلك القرى. وكذلك انتهى بهم المطاف..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
..والعهدُ: الالتزامُ والوعدُ المؤكّدُ وقوعُه، والمُوَثّقُ بما يمنع من إخلافه: من يمين، أو ضمان، أو خشية مسبة، وهو مشتق من عَهِد الشيء بمعنى عَرفه، لأن الوعد المؤكد يعرفه ملتزمه ويحرص أن لا ينساه. ويسمى إيقاع ما التزمه الملتزم من عهده الوفاءَ بالعهد، فالعهد هنا يجوز أن يراد به الوعد الذي حققَه الأممُ لرسلهم مثل قولهم: فأننا بآية إن كنت من الصادقين، فإن معنى ذلك: إن أتيتنا بآية صدقناك. ويجوز أن يراد به وعد وثقه أسلاف الأمم من عهد آدم أن لا يعبدوا إلاّ الله وهو المذكور في قوله تعالى: {ألَمْ أعْهَدْ إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان} [يس: 60] الآية، فكان لازماً لأعقابهم. والمراد بأكثرهم، أكثر كل أمة منهم، لا أمة واحدة قليلة من بين جميع الأمم.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
أي كهذه الحال التي رأيتموها للمسارعة بالتكذيب لأول وهلة والاستمساك بأهدابه، ليطبع الله على قلوب الكافرين، فلا يدخلها نور الحق، فهم سلكوا الباطل مسارعين إليه، قبل أن يتبعوا، فلما جاءهم الحق بالبينات فكان القلب قد أغلق على الباطل، فضلوا وما أضلهم الله، إذ هم الذين سدوا الطريق وإن أولئك الذين طبع الله تعالى قلوهم قد أفسدوا فطرتهم بإصرارهم على التكذيب، وخالفوا العهد الذي أخذ الله على بني آدم، من ظهورهم وذريتهم، وإذا قال تعالى: {وما وجدنا لأكثرهم من عهد وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين}.
الفطرة الإنسانية توجب الإيمان، لو استقامت على طريقتها من غير وسوسة الشياطين، ولذا قال صلى الله عليه وآله وسلم كما في صحيح البخاري ومسلم: (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه).
وروى مسلم بسنده أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (يقول الله تعالى: (إني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين فأضلتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم).
وإن الله تعالى عهد إلى بني آدم من ظهورهم ذريتهم أن يؤمنوا بالله، فقال تعالى: {وإذا أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين (172)} هذا عهد الله على بني آدم، وهم في ضلال آياتهم، قبل أن يصلوا إلى أرحام أمهاتهم، وهذا يدل على أن الإيمان المذعن هو استجابة للفطر، ومن يكفر بالحق إذ جاءه إنما يحيد بالإنسان عن طريق الفطرة المستقيمة.
وقوله تعالى: {وما وجدنا لأكثرهم من عهد وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين} الذين فسقوا عن أوامر الله تعالى ونواهيه التي جاء بها النبيون وكذبوا ليس لهم من عهد، يوفون به، حتى عهد الفطرة التي فطرهم الله تعالى، فهم خالفوا العهد الأول، وخالفوا كل عهد عاهدوه، حتى انحلت نفوسهم انحلالا، و (من) هنا لاستغراق النفي، أي ما وجدنا لأكثرهم أي عهد يحترمونه، وينفذونه، وأولها وأقواها عهد الفطرة الذي أخذه الله تعالى في الأصلاب.
وإذ كانوا لا عهد لهم، وخالفوا فطرة الله التي فطرهم، فهم فاسقون خارجون عن قضايا العقل البديهية؛ ولذا قال تعالى: {وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين} إن هنا هي المخففة من الثقيلة وضمير الشأن اسمها، وقوله تعالى: {وجدنا أكثرهم لفاسقين}، والمعنى إنه أي الحال والشأن وجدنا ...
ونجد هنا حكم الله تعالى العادل، يحكم بالكثرة الغالبة، لا بالكلية الشاملة، فمنهم صالحون ومنهم فاسقون وإن الأمم لا توصف كلها بالفسوق؛ لأنها تفسق كلها، إنما توصف بالفسق؛ لأن كثرتها الغالبة المسيطرة، الفاسقة فهي الظاهرة البارزة، وهي المسيطرة على الجماعة، وهي التي توجد رأيا عاما فاسدا، يسوده الشر، ويختفي فيه الخير والله رءوف بالعباد.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
لأن الإنسان الذي لا يؤمن بالله، كما ينبغي للإيمان أن يكون، لا يشعر بما يلزمه بالمواثيق، فهو لا يعطي ميثاقاً لأحدٍ يقيّده في حياته، وإذا أعطى مثل هذا الميثاق لمصلحةٍ شخصيةٍ أو هوىً ذاتيّ، فإنه لا يجد أساساً روحياً للالتزام به، إذا لم يكن هناك ضغطٌ ماديّ يلزمه بذلك، فعهد الإيمان بين الإنسان وربّه، هو الذي يجعل من الإنسان إنساناً ملتزماً يحفظ للناس عهودهم. {لَفَاسِقِينَ} منحرفين عن خط الهدى والإيمان، وذلك هو شأن الأكثرية التي اتّبعت أهواءها. أما المخلصون الذين وقفوا ضدَّ التيّار تيّار الكفر والشهوات والضلال فهؤلاء هم الأقليّة التي عرفت الحق فآمنت به، وعرفت الرسول فصدّقته واتّبعته وسارت معه.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
...وعلى كل حال فإنّ روح نقض الميثاق كان من أسباب معارضة الأنبياء والإصرار على سلوك طريق الكفر والنفاق، والابتلاء بعواقبها المشؤومة.