ثم خاطب اللّه العباد ، وألفتهم إلى الكتاب فقال : { اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ } أي : الكتاب الذي أريد إنزاله لأجلكم ، وهو : { مِنْ رَبِّكُمْ } الذي يريد أن يتم تربيته لكم ، فأنزل عليكم هذا الكتاب الذي ، إن اتبعتموه ، كملت تربيتكم ، وتمت عليكم النعمة ، وهديتم لأحسن الأعمال والأخلاق ومعاليها { وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ } أي : تتولونهم ، وتتبعون أهواءهم ، وتتركون لأجلها الحق .
{ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ } فلو تذكرتم وعرفتم المصلحة ، لما آثرتم الضار على النافع ، والعدو على الوليِّ .
ثم أمر القرآن الناس باتباع تعاليم الإسلام التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم فقال : { اتبعوا مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ
أى : اتبعوا أيها الناس ملة الإسلام وأحلوا حلاله ، وحرموا حرامه ، وامتثلوا أوامره ، واجتنبوا نواهيه ، لأن الذي أنزل عليكم هذه الشريعة هو ربكم الذي هو خالقكم ومربيكم ومدبر أموركم والعليم بما فيه مصلحتكم وحذار من أن تتركوا شريعة الإسلام التي تدعوكم إلى إفراد الله بالعبودية ، وتتخذوا معه شركاء يزينون لكم الأباطيل ، ويصرفونكم عن دينه القويم فالآية الكريمة كلام مستأنف خوطب به كافة المكلفين لحضهم على إفراد الله بالعبودية ، ونهيهم عن اتباع أحد من الخلق فيما يتعلق بالأمور الدينية التي وضحتها الشريعة الإسلامية .
وقوله - تعالى - : { قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ } معناه : تذكراً قليلا تتذكرون ، أو زمناً قليلا تتذكرون فهو منصوب على أنه نعت لمصدر محذوف أو لظرف زمان محذوف . وما مزيدة لتأكيد القلة .
وفي الوقت الذي وجه الله - سبحانه - هذا التكليف إلى رسوله ، وجه إلى قومه المخاطبين بهذا القرآن أول مرة - وإلى كل قوم يواجههم الإسلام ليخرجهم من الجاهلية - الأمر باتباع ما أنزل في هذا الكتاب ، والنهي عن اتباع الأولياء من دون الله . ذلك أن القضية في صميمها هي قضية " الاتباع " . . من يتبع البشر في حياتهم ؟ يتبعون أمر الله فهم مسلمون . أم يتبعون أمر غيره فهم مشركون ؟ إنهما موقفان مختلفان لا يجتمعان :
( اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ، ولا تتبعوا من دونه أولياء . قليلا ما تذكرون ) .
هذه هي قضية هذا الدين الأساسية . . إنه إما اتباع لما أنزل الله فهو الإسلام لله ، والاعتراف له بالربوبية ، وإفراده بالحاكمية التي تأمر فتطاع ، ويتبع أمرها ونهيها دون سواه . . وإما اتباع للأولياء من دونه فهو الشرك ، وهو رفض الاعتراف لله بالربوبية الخالصة . . وكيف والحاكمية ليست خالصة له سبحانه ؟ !
وفي الخطاب للرسول [ ص ] كان الكتاب منزلاً إليه بشخصه : ( كتاب أنزل إليك ) . . وفي الخطاب للبشر كان الكتاب كذلك منزلاً إليهم من ربهم : ( اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ) . . فأما الرسول [ ص ] فالكتاب منزل إليه ليؤمن به ولينذر ويذكر . وأما البشر فالكتاب منزل إليهم من ربهم ليؤمنوا به ويتبعوه ، ولا يتبعوا أمر أحد غيره . . والإسناد في كلتا الحالتين للاختصاص والتكريم والتحضيض والاستجاشة . فالذي ينزل له ربه كتاباً ، ويختاره لهذا الأمر ، ويتفضل عليه بهذا الخير ، جدير بأن يتذكر وأن يشكر ؛ وأن يأخذ الأمر بقوة ولا يستحسر . .
وقوله تعالى : { اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم } الآية ، قال الطبري وحكاه : التقدير قل اتبعوا فحذف القول لدلالة الإنذار المتقدم الذكر عليه ، وقالت فرقة : قوله :[ اتبعوا ]أمر يعم النبي صلى الله عليه وسلم وأمته .
قال القاضي أبو محمد : والظاهر أن يكون أمراً لجميع الناس أي اتبعوا ملة الإسلام والقرآن ، وقرأ الجحدري «ابتغوا ما أنزل » ، من الابتغاء ، وقرأ مجاهد «ولا تبتغوا » من الابتغاء أيضاً ، وقوله { أولياء } يريد كل ما عبد واتبع من دون الله كالأصنام والأحبار والكهان والنار والكواكب وغير ذلك ، والضمير في قوله { من دونه } راجع على { ربكم } ، هذا أظهر وجوهه وأبينها ، وقيل يعود على قوله { اتبعوا ما } ، وقيل يعود على الكتاب المتقدم الذكر ، و { قليلاً } نعت لمصدر نصب بفعل مضمر ، وقال مكي هو منصوب بالفعل الذي بعده ، قال الفارسي و { ما } في قوله { ما تذكرون } موصولة بالفعل وهي مصدرية ، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر «تذّكّرون » بتشديد الذال والكاف ، وقرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص «تَذّكرون » بتخفيف الذال وتشديد الكاف ، وقرأ ابن عامر «يتذكرون » بالياء كناية عن غيب ، وروي عنه إنه قرأ «تتذكرون » بتاءين على مخاطبة حاضرين .
بيان لجملة : { لتنذر به } [ الأعراف : 2 ] بقرينة تذييلها بقوله : قليلاً ما تذكرون . فالخطاب موجّه للمشركين ويندرج فيه المسلمون بالأولى ، فبعد أن نوّه الله بالكتاب المنزّل إلى الرّسول صلى الله عليه وسلم وبيّن أن حكمة إنزاله للإنذار والذّكرى ، أمر النّاس أن يتّبعوا ما أنزل إليهم ، كلٌ يتبع ما هو به أعلق ، والمشركون أنزل إليهم الزّجر عن الشّرك والاحتجاج على ضلالهم ، والمسلمون أنزل إليهم الأمر والنّهي والتّكليف ، فكلٌ مأمور باتّباع ما أنزل إليه ، والمقصود الأجْدَر هم المشركون تعريضاً بأنّهم كفروا بنعمة ربّهم ، فوصْفُ ( الرب ) هنا دون اسم الجلالة : للتّذكير بوجوب اتّباع أمره ، لأنّ وصف الربوبيّة يقتضي الامتثال لأوامره ، ونهاهم عن اتّباع أوليائهم الذين جعلوهم آلهة دونه ، والموجه إليهم النّهي هم المشركون بقرينة قوله : { قليلاً ما تذكرون } .
والاتِّباع حقيقته المشي وراء ماشٍ ، فمعناه يقتضي ذاتين : تابعاً ومتوبعاً ، يقال : اتَّبع وتَبِع ، ويستعار للعمل بأمر الآمر نحو : { ما منعك إذ رأيتهم ضلوا أن لا تتبعني أفعصيت أمري } [ طه : 92 ، 93 ] وهو استعارة تمثيليّة مبنيّة على تشبيه حالتين ، ويستعار للاقتداء بسيرة أو قَوْل نحو : { ولا تَتّبعوا خطوات الشيطان } [ البقرة : 168 ] وهو استعارة مصرّحة تنبني على تشبيه المحسوس بالمعقول مثل قوله تعالى : { إن أتَّبِع إلاّ مَا يُوحى إليّ } [ الأنعام : 50 ] ، ومنه قوله هنا : { اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم } .
والمراد بما أنزل هو الكتاب المذكور بقوله : { كتاب أنزل إليك } [ الأعراف : 2 ] .
وقوله : { ولا تتبعوا من دونه أولياء } تصريح بما تضمّنه : { اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم } لأنّ فيما أنزل إليهم من ربّهم أنّ الله إلهٌ واحد لا شريك له ، وأنّه الولي ، وأنّ الذين اتَّخذوا من دونه أولياء اللَّهُ حفيظ عليهم ، أي مجازيهم لا يخفى عليه فعلَهم ، وغيرَ ذلك من آي القرآن ؛ والمقصود من هذا النّهي تأكيد مقتضى الأمر باتّباع ما أنزل إليهم اهتماماً بهذا الجانب ممّا أنزل إليهم ، وتسجيلاً على المشركين ، وقطعاً لمعاذيرهم أن يقولوا إنّنا اتَّبعنا ما أنزل إلينا ، وما نرى أولياءنا إلاّ شفعاءَ لنا عند الله فما نعبدهم إلاّ ليقرّبونا إلى الله زلفى ، فإنّهم كانوا يموهون بمثل ذلك ، ألا ترى أنّهم كانوا يقولون في تلبيتهم : « لبّيك لا شريك لك إلاّ شريكاً هو لك تملكه وما ملك » فموقع قوله : { اتبعوا ما أنزل إليكم } موقع الفَصل الجامع من الحد ، وموقع { ولا تتبعوا } موقع الفصل المانع في الحَدّ .
والأولياء جمع ولي ، وهو المُوالي ، أي الملازم والمعاون ، فيطلق على النّاصر ، والحليف ، والصاحب الصّادق المودّة ، واستعير هنا للمعبود وللإله : لأنّ العبادة أقوى أحوال الموالاة ، قال تعالى : { أم اتّخذوا من دونه أولياء فالله هو الولي } [ الشورى : 9 ] وقد تقدّم عند قوله تعالى : { قل أغير الله أتّخذ ولياً } في سورة الأنعام ( 14 ) ، وهذا هو المراد هنا .
والاتّباع في قوله : { ولا تتبعوا من دونه أولياء } يجوز أن يكون مستعملاً في المعنى الذي استعمل فيه الاتّباع في قوله : { اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم } وذلك على تقدير : لا تتّبعوا ما يأتيكم من أولياء دون الله ، فإن المشركين ينسبون ما هم عليه من الدّيانة الضّالة إلى الآلهة الباطلة ، أو إلى سدنة الآلهة وكُهّانها ، كما تقدّم عند قوله تعالى : { وكذلك زَيّن لكثير من المشركين قتلَ أولادهم شركاؤهم } [ الأنعام : 137 ] ، وقوله : { فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا } كما في سورة الأنعام ( 136 ) ، وعلى تلك الاعتبارات يجري التّقدير في قوله : { أولياء } أي لا تمتثلوا للأولياء أو أمرهم أو لدعاة الأولياء وسدنتهم .
ويجوز أن يكون الاتّباع مستعاراً للطّلب والاتّخاذ ، أي ولا تتّخذوا أولياء غيره نحو قولهم : هو يتّبع زلة فلان . وفي الحديث : « يتّبع بها شَعَف الجبال ومواقعَ القطر » أي يتطلبها .
و ( مِنْ ) في قوله : { من دونه } ابتدائيّة ، و ( دون ) ظرف للمكان المجاوز المنفصل ، وقد جرّ بمن الجارة للظروف ، وهو استعارة للترك والإعراض . والمجرور في موضع الحال من فاعل { تتّبعوا } ، أي لا تتّبعوا أولياء متّخذينَها دونه ، فإنّ المشركين وإن كانوا قد اعترفوا لله بالإلهيّة واتبعوا أمره بزعمهم في كثير من أعمالهم : كالحج ومناسكه ، والحَلِف باسمه ، فهم أيضاً اتّبعوا الأصنام بعبادتها أو نسبةِ الدّين إليها ، فكلّ عمل تقرّبوا به إلى الأصنام ، وكلّ عمل عملوه امتثالا لأمر ينسب إلى الأصنام ، فهم عند عمله يكونون متّبعين اتِّباعاً فيه اعراض عن الله وترك للتّقرب إليه ، فيكون اتّباعاً من دون الله ، فيدخل في النّهي ، وبهذا النّهي قد سُدت عليهم أبواب الشّرك وتأويلاته كقولهم : { ما نعبدهم إلاّ ليقرّبونا إلى الله زلفى } [ الزمر : 3 ] فقد جاء قوله : { ولا تتبعوا من دونه أولياء } في أعلى درجة من الايجاز واستيعاب المقصود .
وأفاد مجموع قوله : { اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء } مفاد صيغة قصر ، كأنّه قال : لا تتّبعوا إلاّ ما أمر به ربّكم ، أي دون ما يأمركم به أولياؤكم ، فعُدل عن طريق القصر لتكون جملة : { ولا تتبعوا من دونه أولياء } مستقلّة صريحة الدّلالة اهتماماً بمضمونها على نحو قول السَّمَوْأل أوْ الحَارثي :
تَسيِلُ على حد الظُّبات نفوسنا *** وليست على غير الظبَات تسيل
وجملة : { قليلاً ما تذكرون } هي في موضع الحال من { لا تَتَّبعوا } ، وهي حال سببيّة وكاشفة لصاحبها ، وليست مقيِّدَة للنّهي : لظهور أنّ المتّبعين أولياءَ من دون الله ليسوا إلاّ قليلي التذكر . ويجوز جعل الجملة اعتراضاً تذييلياً . ولفظ ( قليلاً ) يجوز أن يحمل على حقيقته لأنّهم قد يتذكّرون ثمّ يعرضون عن التّذكّر في أكثر أحوالهم فهم في غفلة معرضون ، ويجوز أن يكون ( قليلاً ) مستعاراً لمعنى النّفي والعدم على وجه التّلميح كقوله تعالى : { فقليلاً ما يؤمنون } [ البقرة : 88 ] ( فإنّ الإيمان لا يوصف بالقلّة والكثرة ) .
والتّذكّر مصدر الذّكر بضمّ الذال وهو حضور الصورة في الذّهن .
وقليل مستعمل في العدم على طريقة التّهكّم بالمضيع للأمر النّافع يقال له : إنّك قليل الإتيان بالأمر النّافع ، تنبيهاً له على خطئه ، وإنّه إن كان في ذلك تفريط فلا ينبغي أن يتجاوز حدّ التّقليل دون التّضييع له كلّه .
و ( ما ) مصدريّة والتّقدير : قليلاً تَذَكُّركم ، ويجوز أن يكون { قليلاً } صفة مصدر محذوف دلّ عليه { تذكرون } و ( ما ) مزيدة لتوكيد القلّة ، أي نوع قلّة ضعيف ، نحو قوله تعالى : { أنْ يضرِبَ مثلا مَّا } [ البقرة : 26 ] . وتقدّم القول في نظيره عند قوله تعالى : { فقليلاً ما يؤمنون } في سورة البقرة ( 88 ) . والمعنى : لو تذكّرتم لما اتّبعتم من دونه أولياء ولما احتجتم إلى النّهي عن أن تتّبعوا من دونه أولياء ، وهذا نداء على إضاعتهم النّظر والاستدلال في صفات الله وفي نقائص أوليائهم المزعومين .
وقرأ الجمهور : { ما تذّكرون } بفوقية واحدة وتشديد الذال على أنّ أصله تَتَذكّرون بتاءين فوقيتين فقلبت ثانيتُهما ذالاً لتقارب مخرجيهما ليتأتى تخفيفه بالإدغام .
وقرأه حمزة ، والكسائي ، وحفص عن عاصم ، وخلف بتخفيف الذال على حذف إحدى التاءين اختصاراً . وقرأه ابن عامر : { يتذكّرون } بتحتيّة في أوّله ثمّ فوقيّة ، والضّمير عائد إلى المشركين على طريقة الالتفات من الخطاب إلى الغيبة ، أعرض عنهم ووجَّه الكلام على غيرهم من السّامعين : إلى النّبيء صلى الله عليه وسلم والمسلمين .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم قال لأهل مكة: {اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم}، يعني القرآن، {ولا تتبعوا من دونه أولياء}، يعني أربابا، ثم أخبر عنهم، فقال: {قليلا ما تذكرون}، يعني بالقليل أنهم لا يعقلون فيعتبرون.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول جلّ ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد لهؤلاء المشركين من قومك الذين يعبدون الأوثان والأصنام: اتبعوا أيها الناس ما جاءكم من عند ربكم بالبينات والهدى، واعملوا بما أمركم به ربكم، ولاَ تَتّبِعُوا شيئا مِنْ دُونهِ يعني: شيئا غير ما أَنزل إليكم ربكم، يقول: لا تتبعوا أمر أوليائكم الذين يأمرونكم بالشرك بالله وعبادة الأوثان، فإنهم يضلونكم ولا يهدونكم.
فإن قال قائل: وكيف قلت: معنى الكلام قل اتبعوا، وليس في الكلام موجودا ذكر القول؟ قيل: إنه وإن لم يكن مذكورا صريحا، فإن في الكلام دلالة عليه، وذلك قوله: فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ، ففي قوله: «لِتُنْذِرَ بِهِ» الأمر بالإنذار، وفي الأمر بالإنذار الأمر بالقول لأن الإنذار قول. فكان معنى الكلام: أنذر القوم وقل لهم: اتبعوا ما أُنزل إليكم، كان غير مدفوع...
وقوله:"قَليلاً ما تَذَكّرُونَ" يقول: قليلاً ما تتعظون وتعتبرون، فتراجعون الحق.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
...لا تتّبعوا أولياء في التحليل والتحريم وفي الأمر والنهي؛ لأنه ليس إلى الخلق التحليل والتحريم، إنما عليهم اتباع ما حرّم عليهم واستحلال ما أحل لهم، وأما إنشاء التحليل والتحريم فلا.
وقوله تعالى: {قليلا ما تذّكرون} قال أهل التأويل: يعني بالقليل المؤمنين. ولكن يحتمل قوله تعالى: {قليلا ما تذّكرون} أي لا يتذكرون رأسا؛ لأن الخطاب جرى فيه لأولئك الكفرة، وفيهم نزلت الآية.
قوله: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} دليل على وجوب اتباع القرآن في كل حال.
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
... قال الحسن في هذه الآية: يا ابن آدم، أمرت باتباع القرآن، فما من آية إلا وعليك أن تعلم فيما نزلت، وماذا أريد بها، حتى تتبعه، وتعمل به...
(ولا تتبعوا من دونه أولياء) يعني: من عاند الحق، وخالفه، فلا تتبعوه، وإنما قال: (من دونه أولياء) لأن من اتخذ مذهبا، فكل من سلك طريقه واتبعه كان من أوليائه...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم}... والظاهر أن يكون أمراً لجميع الناس، أي اتبعوا ملة الإسلام والقرآن...
وقوله: {أولياء} يريد كل ما عبد واتبع من دون الله كالأصنام والأحبار والكهان والنار والكواكب وغير ذلك، والضمير في قوله {من دونه} راجع على {ربكم}، هذا أظهر وجوهه وأبينها... وقيل يعود على قوله {اتبعوا ما}، وقيل يعود على الكتاب المتقدم الذكر...
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: مَعْنَاهُ أَحِلُّوا حَلَالَهُ وَحَرِّمُوا حَرَامَهُ، وَامْتَثِلُوا أَمْرَهُ، وَاجْتَنِبُوا نَهْيَهُ، وَاسْتَبِيحُوا مُبَاحَهُ، وَارْجُوا وَعْدَهُ، وَخَافُوا وَعِيدَهُ، وَاقْتَضُوا حُكْمَهُ، وَانْشُرُوا من عِلْمِهِ عِلْمَهُ، وَاسْتَجْسُوا خَبَايَاهُ، وَلِجُوا زَوَايَاهُ، وَاسْتَثِيرُوا جَاثِمَهُ؛ وَفُضُّوا خَاتَمَهُ، وَأَلْحِقُوا بِهِ مُلَائِمَهُ وَهِيَ:
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: بِاتِّبَاعِ مَا يُؤْثَرُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَإِنْ عَارَضَهُ إذَا وَضَّحَ مَسْلَكَهُ؛ فَتَارَةً يَكُونُ نَاسِخًا لَهُ، وَأُخْرَى خَاصًّا وَمُتَمِّمًا فِي حُكْمٍ عَلَى طُرُقِ مَوَارِدِهِ الْمَعْلُومَةِ، بِشُرُوطِهَا الْمَحْصُورَةِ...
زاد المسير في علم التفسير لابن الجوزي 597 هـ :
قوله تعالى: {اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مّن رَّبّكُمْ} إن قيل: كيف خاطبه بالإفراد في الآية الأولى، ثم جمع بقوله: {اتَّبَعُواْ} فعنه ثلاثة أجوبة:
أحدها: أنه لما علم أن الخطاب له ولأمته، حسن الجمع لذلك المعنى. والثاني: أن الخطاب الأول خاص له؛
والثاني محمول على الإنذار، والإنذار في طريق القول، فكأنه قال: لتقول لهم منذرا: {اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مّن رَّبّكُمْ}، ذكرهما ابن الأنباري.
والثالث: أن الخطاب الثاني للمشركين، ذكره جماعة من المفسرين.
..اعلم أن أمر الرسالة إنما يتم بالمرسِل وهو الله سبحانه وتعالى، والمرسَل وهو الرسول، والمرسَل إليه وهو الأمة، فلما أمر في الآية الأولى الرسول بالتبليغ والإنذار مع قلب قوي وعزم صحيح، أمر المرسَل إليه وهم الأمة بمتابعة الرسول، فقال: {اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم}...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
.. {اتبعوا} أي احملوا أنفسكم حملاً عظيماً بجد ونشاط على اتباع {ما أنزل إليكم} أي قد خصصتم به دون غيركم فاشكروا هذه النعمة {من ربكم} أي الذي لم يزل محسناً إليكم {ولا تتبعوا} ولعله عبر بالافتعال إيماء إلى أن ما كان دون علاج -بل هفوة وبنوع غفلة- في محل العفو... ولما كانوا قد خالفوا في اتباعهم صريح العقل وسليم الطبع، وعندهم أمثلة ذلك لو تذكروا، قال منبهاً لهم على تذكر ما يعرفون من تصرفاتهم: {قليلاً ما تذكرون} أي تعالجون أنفسكم على ذكر ما هو مركوز في فطركم الأولى فإنكم مقرون بأن ربكم رب كل شيء، فكل من تدعون من دونه مربوب، وأنتم لا تجدون في عقولكم ولا طباعكم ولا استعمالاتكم ما يدل بنوع دلالة على أن مربوباً يكون شريكاً لربه...
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
... {من رَبّكُمْ} متعلقٌ بأُنزل. وفي التعرُّض لوصف الربوبيةِ مع الإضافة إلى ضمير المخاطَبين مزيدُ لطفٍ بهم وترغيبٌ لهم في الامتثال بما أُمروا به وتأكيدٌ لوجوبه...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم} هذا بيان للإنذار العام الذي أمر الرسول بتبليغه إلى جميع الأنام، وهو على تقدير القول الذي يكثر حذفه في مثل هذا المقام لما يدل عليه من الأسلوب وسياق الكلام، أي قل يا أيها الناس اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم، الذي هو خالقكم ومربيكم ومدبر أموركم، فإنه هو الذي له وحده الحق في شرع الدين لكم وفرض العبادات عليكم، والتحليل لما ينفعكم والتحريم لما يضركم لأنه أعلم بمصلحتكم منكم.
{وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء} تتخذونهم من أنفسكم ولا من الشياطين الذين يوسوسون لكم، ما يزين لكم ضلال تقاليدكم والابتداع في دينكم، فتولونهم أموركم وتطيعونهم فيما يرومون منكم، من وضع أحكام وحلال وحرام، زاعمين أنه يجب عليكم تقليدهم لأنهم أعلم منكم أو للاقتداء بما كان عليه آباؤكم فإنما على العالم بدين الله تبليغه وبيانه للمتعلم لا بيان آرائه وظنونه فيه، ولا أولياء تتخذونهم لأجل إنجائكم من الجزاء على ذنوبكم وجلب النفع لكم أو رفع الضر عنكم، زاعمين أنهم بصلاحهم يقربونكم إليه زلفى، أو يشفعون لكم عنده في الآخرة أو الدنيا، فإن الله ربكم هو الولي أي الذي يتولى أمر العباد بالتشريع والتدبير، والخلق والتقدير، فله وحده الخلق والأمر وبيده النفع والضر.
{قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُون} أي تذكرا قليلا تتذكرون، أو زمنا قليلا تتذكرون ما يجب أن يعلم فلا يجهل ويحفظ فلا ينسى مما يجب للرب تعالى، ويحظر أن يشرك معه غيره فيه، أو قليلا ما تتعظون بما توعظون به فترجعون عن تقاليدكم وأهوائكم إلى ما أنزل إليكم من ربكم...
قد حققنا معنى الولاية لغة وأنواع استعمالها في القرآن مرارا أقربها ما في سورة الأنعام كقوله تعالى؛ {وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا} (الأنعام 128 وبينا وجه الحصر في كون الله تعالى هو ولي المؤمنين في تفسير {قل أغير الله اتخذ وليا فاطر السماوات والأرض} (الأنعام 14) وزدنا هذا بيانا في تفسير {وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع لعلهم يتقون} (الأنعام 51) وكذا تفسير {وذكر به أن تبسل نفس بما كسبت ليس لها من دون الله ولي ولا شفيع} (الأنعام 70) كما بيناه في تفسير آيات أخرى مما قبل سورة الأنعام ومن أوسعها وأعمها بيانا تفسير قوله تعالى: {والله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت} (البقرة 257) الآية وفيه تفصيل لولاية الله للمؤمنين وولاية المؤمنين بعضهم لبعض وولاية الطاغوت للكافرين ونكتفي هنا بأن نقول: إن الولاية التي هي عبارة عن تولي الأمر منها ما هو خاص برب العباد وإلههم الحق وهي قسمان: أحدهما: شرع الدين عقائده وعباداته وحلاله وحرامه. وثانيهما: الخلق والتدبير الذي هو فوق استطاعة الناس في أمور الأسباب العامة التي مكن الله منها جميع الناس في الدنيا، كالهداية بالفعل، وتسخير القلوب والنصر على الأعداء وغير ذلك وكل ما يتعلق بأمر الآخرة من المغفرة والرحمة والثواب والعقاب فكل ما ورد من حصر الولاية في الله تعالى فالمراد به تولي أمور العباد فيما لا يصل إليه كسبهم وشرع الدين لهم كما فصلناه في تفسير آية البقرة وغيرها.
والمتبادر هنا من النهي عن اتباع الأولياء من دونه تعالى هو النهي عن طاعة كل أحد من الخلق في أمر الدين غير ما أنزله الله من وحيه كما فعل أهل الكتاب في طاعة أحبارهم ورهبانهم فيما أحلوا لهم وزادوا على الوحي من العبادات وما حرموا عليهم من المباحات، كما ورد في الحديث المرفوع في تفسير قوله تعالى: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله} (التوبة 31) وكل من أطاع أحدا طاعة دينية في حكم شرعي لم ينزله ربه إليه فقد اتخذه ربا، والآية نص في عدم جواز طاعة أحد من العلماء ولا الأمراء في اجتهاده في أمور العقائد والعبادات والحلال والحرام تدينا، وما على العلماء إلا بيان ما أنزله الله وتبليغه وإرشاد الناس إلى فهمه وما عسى أن يخفى عليهم من تطبيق العمل على النص وحكمة الدين في الأحكام كبيان سمت القبلة في البلاد المختلفة، فهم لا يتبعون في ذلك لذواتهم بل المتبع ما أنزله الله بنصه أو فحواه على حسب روايتهم له وتفسيرهم لمعناه، وإنما يطاع أولو الأمر من الأمراء وأهل الحل والعقد في تنفيذ ما أنزله الله تعالى وفيما ناطه بهم من استنباط الأحكام في سياسة الأمة وأقضيتها التي تختلف المصالح فيها باختلاف الزمان والمكان، والآية نص في بطلان القياس ونبذ الرأي في الأمور الدينية المحضة، وقد فصلنا القول في ذلك وما يتعلق به من الأصول والفروع في تفسير {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم} (النساء 58) الآية وتفسير قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبدلكم تسؤكم} (المائدة 104) الآية.
ولا شك في أن اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه من بيان الدين داخل في عموم ما أنزل إلينا على لسانه وكذا اتباعه في أحكامه الاجتهادية فإنه تعالى أمرنا باتباعه وبطاعته وأخبرنا بأنه مبلغ عنه، وقال له {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم} (النحل 44) والجمهور على أن الأحكام الشرعية الواردة في السنة موحى بها وأن الوحي ليس محصورا في القرآن...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{مِنْ رَبِّكُمْ} الذي يريد أن يتم تربيته لكم، فأنزل عليكم هذا الكتاب الذي، إن اتبعتموه، كملت تربيتكم، وتمت عليكم النعمة، وهديتم لأحسن الأعمال والأخلاق ومعاليها...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
..هذه هي قضية هذا الدين الأساسية.. إنه إما اتباع لما أنزل الله فهو الإسلام لله، والاعتراف له بالربوبية، وإفراده بالحاكمية التي تأمر فتطاع، ويتبع أمرها ونهيها دون سواه.. وإما اتباع للأولياء من دونه فهو الشرك، وهو رفض الاعتراف لله بالربوبية الخالصة.. وكيف والحاكمية ليست خالصة له سبحانه؟! وفي الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم كان الكتاب منزلاً إليه بشخصه: (كتاب أنزل إليك).. وفي الخطاب للبشر كان الكتاب كذلك منزلاً إليهم من ربهم: (اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم).. فأما الرسول صلى الله عليه وسلم فالكتاب منزل إليه ليؤمن به ولينذر ويذكر. وأما البشر فالكتاب منزل إليهم من ربهم ليؤمنوا به ويتبعوه، ولا يتبعوا أمر أحد غيره.. والإسناد في كلتا الحالتين للاختصاص والتكريم والتحضيض والاستجاشة. فالذي ينزل له ربه كتاباً، ويختاره لهذا الأمر، ويتفضل عليه بهذا الخير، جدير بأن يتذكر وأن يشكر؛ وأن يأخذ الأمر بقوة ولا يستحسر..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
بيان لجملة: {لتنذر به} [الأعراف: 2] بقرينة تذييلها بقوله: قليلاً ما تذكرون. فالخطاب موجّه للمشركين ويندرج فيه المسلمون بالأولى، فبعد أن نوّه الله بالكتاب المنزّل إلى الرّسول صلى الله عليه وسلم وبيّن أن حكمة إنزاله للإنذار والذّكرى، أمر النّاس أن يتّبعوا ما أنزل إليهم، كلٌ يتبع ما هو به أعلق، والمشركون أنزل إليهم الزّجر عن الشّرك والاحتجاج على ضلالهم، والمسلمون أنزل إليهم الأمر والنّهي والتّكليف، فكلٌ مأمور باتّباع ما أنزل إليه، والمقصود الأجْدَر هم المشركون تعريضاً بأنّهم كفروا بنعمة ربّهم، فوصْفُ (الرب) هنا دون اسم الجلالة: للتّذكير بوجوب اتّباع أمره، لأنّ وصف الربوبيّة يقتضي الامتثال لأوامره، ونهاهم عن اتّباع أوليائهم الذين جعلوهم آلهة دونه، والموجه إليهم النّهي هم المشركون بقرينة قوله: {قليلاً ما تذكرون}.
والاتِّباع حقيقته المشي وراء ماشٍ، فمعناه يقتضي ذاتين: تابعاً ومتبوعاً، يقال: اتَّبع وتَبِع، ويستعار للعمل بأمر الآمر نحو: {ما منعك إذ رأيتهم ضلوا أن لا تتبعني أفعصيت أمري} [طه: 92، 93] وهو استعارة تمثيليّة مبنيّة على تشبيه حالتين، ويستعار للاقتداء بسيرة أو قَوْل نحو: {ولا تَتّبعوا خطوات الشيطان} [البقرة: 168] وهو استعارة مصرّحة تنبني على تشبيه المحسوس بالمعقول مثل قوله تعالى: {إن أتَّبِع إلاّ مَا يُوحى إليّ} [الأنعام: 50]، ومنه قوله هنا: {اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم}.
والمراد بما أنزل هو الكتاب المذكور بقوله: {كتاب أنزل إليك} [الأعراف: 2].
وقوله: {ولا تتبعوا من دونه أولياء} تصريح بما تضمّنه: {اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم} لأنّ فيما أنزل إليهم من ربّهم أنّ الله إلهٌ واحد لا شريك له، وأنّه الولي، وأنّ الذين اتَّخذوا من دونه أولياء اللَّهُ حفيظ عليهم، أي مجازيهم لا يخفى عليه فعلَهم، وغيرَ ذلك من آي القرآن؛ والمقصود من هذا النّهي تأكيد مقتضى الأمر باتّباع ما أنزل إليهم اهتماماً بهذا الجانب ممّا أنزل إليهم، وتسجيلاً على المشركين، وقطعاً لمعاذيرهم أن يقولوا إنّنا اتَّبعنا ما أنزل إلينا، وما نرى أولياءنا إلاّ شفعاءَ لنا عند الله فما نعبدهم إلاّ ليقرّبونا إلى الله زلفى، فإنّهم كانوا يموهون بمثل ذلك، ألا ترى أنّهم كانوا يقولون في تلبيتهم: « لبّيك لا شريك لك إلاّ شريكاً هو لك تملكه وما ملك» فموقع قوله: {اتبعوا ما أنزل إليكم} موقع الفَصل الجامع من الحد، وموقع {ولا تتبعوا} موقع الفصل المانع في الحَدّ.
والأولياء جمع ولي، وهو المُوالي، أي الملازم والمعاون، فيطلق على النّاصر، والحليف، والصاحب الصّادق المودّة، واستعير هنا للمعبود وللإله: لأنّ العبادة أقوى أحوال الموالاة، قال تعالى: {أم اتّخذوا من دونه أولياء فالله هو الولي} [الشورى: 9] وقد تقدّم عند قوله تعالى: {قل أغير الله أتّخذ ولياً} في سورة الأنعام (14)، وهذا هو المراد هنا.
والاتّباع في قوله: {ولا تتبعوا من دونه أولياء} يجوز أن يكون مستعملاً في المعنى الذي استعمل فيه الاتّباع في قوله: {اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم} وذلك على تقدير: لا تتّبعوا ما يأتيكم من أولياء دون الله، فإن المشركين ينسبون ما هم عليه من الدّيانة الضّالة إلى الآلهة الباطلة، أو إلى سدنة الآلهة وكُهّانها، كما تقدّم عند قوله تعالى: {وكذلك زَيّن لكثير من المشركين قتلَ أولادهم شركاؤهم} [الأنعام: 137]، وقوله: {فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا} كما في سورة الأنعام (136)، وعلى تلك الاعتبارات يجري التّقدير في قوله: {أولياء} أي لا تمتثلوا للأولياء أو أمرهم أو لدعاة الأولياء وسدنتهم.
ويجوز أن يكون الاتّباع مستعاراً للطّلب والاتّخاذ، أي ولا تتّخذوا أولياء غيره نحو قولهم: هو يتّبع زلة فلان. وفي الحديث: « يتّبع بها شَعَف الجبال ومواقعَ القطر» أي يتطلبها...
{من دونه}... وهو استعارة للترك والإعراض... أي لا تتّبعوا أولياء متّخذينَهم دونه، فإنّ المشركين وإن كانوا قد اعترفوا لله بالإلهيّة واتبعوا أمره بزعمهم في كثير من أعمالهم: كالحج ومناسكه، والحَلِف باسمه، فهم أيضاً اتّبعوا الأصنام بعبادتها أو نسبةِ الدّين إليها، فكلّ عمل تقرّبوا به إلى الأصنام، وكلّ عمل عملوه امتثالا لأمر ينسب إلى الأصنام، فهم عند عمله يكونون متّبعين اتِّباعاً فيه اعراض عن الله وترك للتّقرب إليه، فيكون اتّباعاً من دون الله، فيدخل في النّهي، وبهذا النّهي قد سُدت عليهم أبواب الشّرك وتأويلاته كقولهم: {ما نعبدهم إلاّ ليقرّبونا إلى الله زلفى} [الزمر: 3] فقد جاء قوله: {ولا تتبعوا من دونه أولياء} في أعلى درجة من الايجاز واستيعاب المقصود.
وأفاد مجموع قوله: {اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء} مفاد صيغة قصر، كأنّه قال: لا تتّبعوا إلاّ ما أمر به ربّكم، أي دون ما يأمركم به أولياؤكم، فعُدل عن طريق القصر لتكون جملة: {ولا تتبعوا من دونه أولياء} مستقلّة صريحة الدّلالة اهتماماً بمضمونها...
وجملة: {قليلاً ما تذكرون} هي في موضع الحال من {لا تَتَّبعوا}، وهي حال سببيّة وكاشفة لصاحبها، وليست مقيِّدَة للنّهي: لظهور أنّ المتّبعين أولياءَ من دون الله ليسوا إلاّ قليلي التذكر. ويجوز جعل الجملة اعتراضاً تذييلياً. ولفظ (قليلاً) يجوز أن يحمل على حقيقته لأنّهم قد يتذكّرون ثمّ يعرضون عن التّذكّر في أكثر أحوالهم فهم في غفلة معرضون، ويجوز أن يكون (قليلاً) مستعاراً لمعنى النّفي والعدم على وجه التّلميح كقوله تعالى: {فقليلاً ما يؤمنون} [البقرة: 88] (فإنّ الإيمان لا يوصف بالقلّة والكثرة).
والتّذكّر مصدر الذّكر بضمّ الذال وهو حضور الصورة في الذّهن.
وقليل مستعمل في العدم على طريقة التّهكّم بالمضيع للأمر النّافع يقال له: إنّك قليل الإتيان بالأمر النّافع، تنبيهاً له على خطئه، وإنّه إن كان في ذلك تفريط فلا ينبغي أن يتجاوز حدّ التّقليل دون التّضييع له كلّه.
و (ما) مصدريّة والتّقدير: قليلاً تَذَكُّركم، ويجوز أن يكون {قليلاً} صفة مصدر محذوف دلّ عليه {تذكرون} و (ما) مزيدة لتوكيد القلّة، أي نوع قلّة ضعيف، نحو قوله تعالى: {أنْ يضرِبَ مثلا مَّا} [البقرة: 26]. وتقدّم القول في نظيره عند قوله تعالى: {فقليلاً ما يؤمنون} في سورة البقرة (88). والمعنى: لو تذكّرتم لما اتّبعتم من دونه أولياء ولما احتجتم إلى النّهي عن أن تتّبعوا من دونه أولياء، وهذا نداء على إضاعتهم النّظر والاستدلال في صفات الله وفي نقائص أوليائهم المزعومين...
{اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ.. 3} [سورة الأعراف]: فالمنهج الذي يأتي من الرب الأعلى هو الذي يصلح الحياة، ولا غضاضة على أحد منكم في أن يتبع ما أنزل إليه من الإله المربي القادر. الذي ربّى، وخلق من عدم، وأمد من عدم، وهو المتولي للتربية، ولا يمكن أن يربي أجسادنا بالطعام والشراب والهواء ولا يربي قيمنا بالأخلاق.
{وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء} ومادام قد أوضح: اتبعوا ما أنزل إليكم من أعلى، فلا يصح أن تأتي لمن دونه وتأخذ منه، مثلما يفعل العالم الآن حين يأخذ قوانينه من دون الله ومن هوى البشر... وكل واحد يفرض بسيفه القوانين التي تلائمه. وكلها دون منهج الله لأنها أفكار بشر، وتتصادم بأفكار بشر، والأولى من هذا وذاك أن نأخذ مما لا نستنكف أن نكون عبيدا له...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
...ومن هذه الآية يستفاد أنّ الإنسان يواجه طريقين أو خيارين إمّا القبول بولاية الله وقيادته، وإمّا الدخول تحت ولاية الآخرين، فإذا سلك الطريق الأوّل كان الله وليَّه، وأمّا إذا دخل تحت ولاية الآخرين فإِن عليه حينئذ أن يخضع في كل يوم لواحد من الأرباب، وأن يختار ربّاً جديداً. وكلمة «الأولياء» التي هي جمع «ولي» إِشارة إلى هذا المعنى...