ف{ قال يا أيها الملأ أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين } أي : مؤمنين ، وقال ابن عباس : طائعين . واختلفوا في السبب الذي لأجله أمر سليمان بإحضار عرشها ، فقال أكثرهم : لأن سليمان علم أنها إن أسلمت يحرم عليه مالها ، فأراد أن يأخذ سريرها قبل أن يحرم عليه أخذه بإسلامها . وقيل : ليريها قدرة الله عز وجل وعظم سلطانه في معجزة يأتي بها في عرشها . وقال قتادة : لأنه أعجبته صفته لما وصفه الهدهد ، فأحب أن يراه . قال ابن زيد : أراد أن يأمر بتنكيره وتغييره ليختبر بذلك عقلها .
ثم يحكى القرآن بعد ذلك ما طلبه سليمان - عليه السلام - من جنوده فيقول : { قَالَ ياأيها الملأ . . . } .
قال ابن كثير ما ملخصه : فلما رجعت الرسل إلى ملكة سبأ بما قاله سليمان ، قالت : قد - والله - عرفت ما هذا بملك ، وما لنا به من طاقة . . . وبعثت إليه : إنى قادمة إليك بملوك قومى ، لأنظر فى أمرك وما تدعونا إليه من دينك . . . ثم شخصت إليه فى اثنى عشر ألف رجل من أشراف قومها - بعد أن أقفلت الأبواب على عرشها - فجعل سليمان يبعث الجن يأتونه بمسيرها ومنتهاها كل يوم وليلة ، حتى إذا دنت جمع من عنده من الإنس والجن ممن تحت يده فقال : { قَالَ ياأيها الملأ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ } .
أى : قال سليمان لجنوده : أى واحد منكم يستطيع أن يحضر لى عرش هذه الملكة قبل أن تحضر إلى هى وقومها مسلمين ، أى : منقادين طائعين مستسلمين لما أمرتهم به .
ولعل سليمان - عليه السلام - قد طلب إحضار عرشها - من بلاد اليمن إلى بيت المقدس حيث مقر مملكته ، ليطلعها على عظيم قدرة الله - تعالى - ، وعلى ما أعطاه - سبحانه - له من ملك عريض ، ومن نعم جليلة ، ومن قوة خارقة ، حيث سخر له من يحضر له عرشها من مكان بعيد فى زمن يسير .
ولعل كل ذلك يقودها هى وقومها إلى الإيمان بالله رب العالمين .
ثم إذا سليمان - عليه السلام - يدرك أن هذا الرد سينهي الأمر مع ملكة لا تريد العداء - كما يبدو من طريقتها في مقابلة رسالته القوية بهدية ! - ويرجح أنها ستجيب دعوته . أو يؤكد . وقد كان .
ولكن السياق لا يذكر كيف عاد رسلها إليها ، ولا ماذا قالوا لها ، ولا ماذا اعتزمت بعدها . إنما يترك فجوة نعلم مما بعدها أنها قادمة ، وأن سليمان يعرف هذا ، وأنه يتذاكر مع جنوده في استحضار عرشها ، الذي خلفته في بلادها محروسا مصونا :
( قال : يا أيها الملأ أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين ? قال عفريت من الجن : أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك . وإني عليه لقوي أمين . قال الذي عنده علم من الكتاب : أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك ) . .
ترى ما الذي قصد إليه سليمان - عليه السلام - من استحضار عرشها قبل مجيئها مسلمة مع قومها ? نرجح أن هذه كانت وسيلة لعرض مظاهر القوة الخارقة التي تؤيده ، لتؤثر في قلب الملكة وتقودها إلى الإيمان بالله ، والإذعان لدعوته .
استئناف ابتدائي لذكر بعض أجزاء القصة طوي خبر رجوع الرسل والهدية ، وعلم سليمان أن ملكة سبأ لا يسعها إلا طاعته ومجيئها إليه ، أو ورد له منها أنها عزمت على الحضور عنده عملاً بقوله : { وأتوني مسلمين } [ النمل : 31 ] .
ثم يحتمل أن يكون سليمان قال ذلك بعد أن حطت رحال الملكة في مدينة أورشليم وقبل أن تتهيَّأ للدخول على الملك ، أو حين جاءه الخبَر بأنها شارفت المدينة فأراد أن يحضر لها عرشها قبل أن تدخل عليه ليُرِيَها مقدرة أهل دولته .
وقد يكون عرشها محمولاً معها في رحالها جاءت به معها لتجلس عليه خشية أن لا يهيىء لها سليمان عرشاً ، فإن للملوك تقادير وظنوناً يحترزون منها خشية الغضاضة .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم قال {يا أيها الملؤا أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين} يعني: مخلصين بالتوحيد، وإنما علم سليمان أنها تسلم، لأنه أوحي إليه بذلك.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
اختلف أهل العلم في الحين الذي قال فيه سليمان "يا أيها المَلأُ أيّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها"؛ فقال بعضهم: قال ذلك حين أتاه الهدهد بنبأ صاحبة سبأ، وقال له: "جئْتُكَ مِنْ سَبأ بِنَبأٍ يَقِينٍ" وأخبره أن لها عرشا عظيما، فقال له سليمان صلى الله عليه وسلم: "سَنَنْظُرُ أصَدَقْتَ أمْ كُنْتَ مِنَ الكاذِبِينَ" فكان اختباره صدقه من كذبه بأن قال لهؤلاء: أيكم يأتيني بعرش هذه المرأة قبل أن يأتوني مسلمين. وقالوا إنما كتب سليمان الكتاب مع الهدهد إلى المرأة بعد ما صحّ عنده صدق الهدهد بمجيء العالم بعرشها إليه على ما وصفه به الهدهد، قالوا: ولولا ذلك كان محالاً أن يكتب معه كتابا إلى من لا يدري، هل هو في الدنيا أم لا؟ قالوا: وأخرى أنه لو كان كتب مع الهدهد كتابا إلى المرأة قبل مجيء عرشها إليه، وقبل علمه صدق الهدهد بذلك، لم يكن لقوله له "سَنَنْظُرُ أصَدَقْتَ أمْ كُنْتَ مِنَ الكاذبِينَ" معنى، لأنه لا يُلِم بخبره الثاني من إبلاغه إياها الكتاب، أو ترك إبلاغه إياها ذلك، إلا نحو الذي علم بخبره الأوّل حين قال له: "جئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبإٍ يَقِينٍ" قالوا: وإن لم يكن في الكتاب معهم امتحان صدقه من كذبه، وكان محالاً أن يقول نبيّ الله قولاً لا معنى له وقد قال: "سَنَنْطُرُ أصَدَقْتَ أمْ كُنْتَ مِنَ الكاذِبِينَ" علم أن الذي امتحن به صدق الهدهد من كذبه هو مصير عرش المرأة إليه، على ما أخبره به الهدهد الشاهد على صدقه، ثم كان الكتاب معه بعد ذلك إليها...
وقال آخرون: بل إنما اختبر صدقَ الهدهدِ سليمانُ بالكتاب، وإنما سأل من عنده إحضاره عرش المرأة بعد ما خرجت رسلها من عنده، وبعد أن أقبلت المرأة إليه... وتأويل الكلام: قال سليمان لأشراف من حضره من جنده من الجنّ والإنس: "يا أيّها المَلأُ أيّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها" يعني سريرها...
واختلف أهل العلم في السبب الذي من أجله خصّ سليمان مسألة الملأ من جنده إحضار عرش هذه المرأة من بين أملاكها قبل إسلامها؛
فقال بعضهم: إنما فعل ذلك لأنه أعجبه حين وصف له الهدهد صفته، وخشي أن تسلم فيحرُم عليه مالها، فأراد أن يأخذ سريرها ذلك قبل أن يحرُم عليه أخذه بإسلامها...
وقال آخرون: بل فعل ذلك سليمان ليعاتبها به، ويختبر به عقلها، هل تثبته إذا رأته، أم تنكره؟...
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله "قَبْلَ أن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ"؛
فقال بعضهم: معناه: قبل أن يأتوني مستسلمين طوعا...
وقال آخرون: بل معنى ذلك: قبل أن يأتوني مسلمين الإسلام الذي هو دين الله...
وأولى الأقوال بالصواب في السبب الذي من أجله خصّ سليمان بسؤاله الملأ من جنده بإحضاره عرش هذه المرأة دون سائر ملكها عندنا، ليجعل ذلك حجة عليها في نبوّته، ويعرّفها بذلك قُدرة الله وعظيم شأنه، أنها خلّفته في بيت في جوف أبيات، بعضها في جوف بعض، مغلق مقفل عليها، فأخرجه الله من ذلك كله، بغير فتح أغلاق وأقفال، حتى أوصله إلى وَلِيّه من خلقه، وسلمه إليه، فكان لها في ذلك أعظم حجة، على حقيقة ما دعاها إليه سليمان، وعلى صدق سليمان فيما أعلمها من نبوّته.
فأما الذي هو أولى التأويلين في قوله "قَبْلَ أنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ" بتأويله، فقول ابن عباس الذي ذكرناه قبل، من أن معناه طائعين، لأن المرأة لم تأت سليمان إذ أتته مسلمة، وإنما أسلمت بعد مقدمها عليه وبعد محاورة جرت بينهما ومساءلة.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
ثم قال سليمان عليه الصلاة والسلام: {يا أيها الملأ} إنما خاطب به أشراف قومه... {أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين} قال بعض أهل التأويل: إنما قال هذا لأنه علم، نبي الله، أنهم متى 15 أسلموا تحرم أموالهم مع دمائهم، فأحب أن يؤتى به قبل أن يكون ذلك عليه.
لكن هذا محال بعيد وحش من القول؛ لا يحتمل أن تكون رغبة سليمان في الأموال هذا الذي ذكر بعدما رد هداياها إليها، وأخبر أنكم تفرحون بها لأنكم أهل دنيا؛ إذ رغبة أهل الدنيا في الأموال، ونحن، أهل الدين، رغبتنا في الدين، به نفرح، ويستعجل كل هذا الاستعجال رغبة في مالها وعرشها.
لكنه، والله أعلم، يخرج على وجهين:...
والثاني: أراد أن يريهم آية من آيات نبوته إذا أتوه [وهي أن يأتوه] مسلمين ليعلموا أنه نبي، ليس بملك.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما ذهب الرسل، وعلم صلى الله عليه السلام مما رأى من تصاغرهم لما رأوا من هيبته وجلاله الذي حباه به ربه وعظمته أنهم يأتون بها مذعنة {قال} لجماعته تحقيقاً لقوله: {وأوتينا من كل شيء} لإعلامه بأنها استوثقت من عرشها: {يا أيها الملأ} أي الأشراف {أيّكم يأتيني بعرشها} لترى بعض ما آتاني الله من الخوارق، فيكون أعون على متابعتها في الدين...
{قبل أن يأتوني} أي هي وجماعتها {مسلمين} أي منقادين لسلطاني، تاركين لعز سلطانهم، منخلعين من عظيم شأنهم، ليكون ذلك أمكن في إقامة الحجة عليها في نبوتي وأعون على رسوخ الإيمان في قلبها وإخلاصها فيه.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ثم إذا سليمان -عليه السلام- يدرك أن هذا الرد سينهي الأمر مع ملكة لا تريد العداء -كما يبدو من طريقتها في مقابلة رسالته القوية بهدية!- ويرجح أنها ستجيب دعوته، أو يؤكد، وقد كان.
ولكن السياق لا يذكر كيف عاد رسلها إليها، ولا ماذا قالوا لها، ولا ماذا اعتزمت بعدها. إنما يترك فجوة نعلم مما بعدها أنها قادمة، وأن سليمان يعرف هذا، وأنه يتذاكر مع جنوده في استحضار عرشها، الذي خلفته في بلادها محروسا مصونا:
(قال: يا أيها الملأ أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين؟ قال عفريت من الجن: أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك. وإني عليه لقوي أمين. قال الذي عنده علم من الكتاب: أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك)..
ترى ما الذي قصد إليه سليمان -عليه السلام- من استحضار عرشها قبل مجيئها مسلمة مع قومها؟ نرجح أن هذه كانت وسيلة لعرض مظاهر القوة الخارقة التي تؤيده، لتؤثر في قلب الملكة وتقودها إلى الإيمان بالله، والإذعان لدعوته.