البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{قَالَ يَـٰٓأَيُّهَا ٱلۡمَلَؤُاْ أَيُّكُمۡ يَأۡتِينِي بِعَرۡشِهَا قَبۡلَ أَن يَأۡتُونِي مُسۡلِمِينَ} (38)

{ قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ } في الكلام حذف تقديره : فرجع المرسل إليها بالهدية ، وأخبرها بما أقسم عليه سليمان ، فتجهزت للمسير إليه ، إذ علمت أنه نبي ولا طاقة لها بقتال نبي .

فروي أنها أمرت عند خروجها إلى سليمان ، فجعل عرشها في آخر سبعة أبيات ، بعضها في جوف بعض ، في آخر قصر من قصورها ، وغلقت الأبواب ووكلت به حراساً يحفظونه ، وتوجهت إلى سليمان في أقيالها وأتباعهم .

قال عبد الله بن شداد : فلما كانت على فرسخ من سليمان ، قال : { أيكم يأتيني بعرشها } ؟ وقال ابن عباس : كان سليمان مهيباً ، لا يبتدأ بشيء حتى يكون هو الذي يسأل عنه .

فنظر ذات يوم رهجاً قريباً منه فقال : ما هذا ؟ فقالوا : بلقيس ، فقال ذلك .

واختلفوا في قصد سليمان استدعاء عرشها .

فقال قتادة ، وابن جريج : لما وصف له عظم عرشها وجودته ، أراد أخذه قبل أن يعصمها وقومها الإسلام ويمنع أخذ أموالهم ، والإسلام على هذا الدين ، وهذا فيه بعد أن يقع ذلك من نبي أوتي ملكاً لم يؤته غيره .

وقال ابن عباس ، وابن زيد : استدعاه ليريها القدرة التي هي من عند الله ، وليغرب عليها سليمان والإسلام على هذا الاستسلام .

وأشار الزمخشري لقول فقال : ولعله أوحي إليه عليه السلام باستيثاقها من عرشها ، فأراد أن يغرب عليها ويريها بذلك بعض ما خصه به من إجراء العجائب على يده ، مع اطلاعها على عظيم قدرة الله تعالى ، وعلى ما يشهد لنبوة سليمان ويصدقها . انتهى .

وقال الطبري : أراد أن يختبر صدق الهدهد في قوله : { ولها عرش عظيم } ، وهذا فيه بعد ، لأنه قد ظهر صدقه في حمل الكتاب ، وما ترتب على حمله من مشورة بلقيس قومها وبعثها بالهدية .

وقيل : أراد أن يؤتي به ، فينكر ويغير ، ثم ينظر أتثبته أم تنكره ، اختباراً لعقلها .

والظاهر ترتيب هذه الأخبار على حسب ما وقعت في الوجود ، وهو قول الجمهور .

وعن ابن عباس أنه قال : { أيكم يأتيني بعرشها } ؟ حين ابتدأ النظر في صدق الهدهد من كذبه لما قال : { ولها عرش عظيم } .

ففي ترتيب القصص تقديم وتأخير ، وفي قوله : { أيكم يأتيني بعرشها } دليل على جواز الاستعانة ببعض الاتباع في مقاصد الملوك ، ودليل على أنه قد يخص بعض أتباع الأنبياء بشيء لا يكون لغيرهم ، ودليل على مبادرة من طلبه منه الملوك قضاء حاجة ، وبداءة الشياطين في التسخير على الإنس ، وقدرتهم بأقدار الله على ما يبعد فعله من الإنس .