والذين اجتنبوا الأصنام والشياطين ، ولم يتقربوا إليها ، ورجعوا إلى الله في كل أمورهم ، لهم البشارة العظيمة في جميع المواطن ، فبشر - يا محمد - عبادي الذين يستمعون القول فيتبعون الأحسن والأهدى إلى الحق ، أولئك - دون غيرهم - الذين يوفقهم الله إلى الهدى ، وأولئك هم - دون غيرهم - أصحاب العقول النَّيِّرة .
قوله تعالى : { الذين يستمعون القول } القرآن . { فيتبعون أحسنه } قال السدي : أحسن ما يؤمرون فيعملون به . وقيل : هو أن الله ذكر في القرآن الانتصار من الظالم ، وذكر العفو ، والعفو أحسن الأمرين . وقيل : ذكر العزائم والرخص فيتبعون الأحسن وهو العزائم ، وقيل : يستمعون القرآن وغير القرآن ، فيتبعون القرآن ، وقال عطاء ، عن ابن عباس : آمن أبو بكر بالنبي صلى الله عليه وسلم فجاءه عثمان ، وعبد الرحمن بن عوف ، وطلحة ، والزبير ، وسعد بن أبي وقاص ، وسعيد بن زيد ، فسألوه فأخبرهم بإيمانه ، فآمنوا فنزلت فيهم :{ فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه } وكله حسن . { أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب } . وقال ابن زيد : نزلت { والذين اجتنبوا الطاغوت } الآيتان في ثلاثة نفر كانوا في الجاهلية ، يقولون لا إله إلا الله ، زيد بن عمرو بن نفيل ، وأبو ذر الغفاري ، وسلمان الفارسي ، والأحسن قوله لا إله إلا الله .
ولما أخبر أن لهم البشرى ، أمره اللّه ببشارتهم ، وذكر الوصف الذي استحقوا به البشارة فقال : { فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ }
وهذا جنس يشمل كل قول فهم يستمعون جنس القول ليميزوا بين ما ينبغي إيثاره مما ينبغي اجتنابه ، فلهذا من حزمهم وعقلهم أنهم يتبعون أحسنه ، وأحسنه على الإطلاق كلام اللّه وكلام رسوله ، كما قال في هذه السورة : { اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا } الآية .
وفي هذه الآية نكتة ، وهي : أنه لما أخبر عن هؤلاء الممدوحين أنهم يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، كأنه قيل : هل من طريق إلى معرفة أحسنه حتى نتصف بصفات أولي الألباب ، وحتى نعرف أن من أثره علمنا أنه من أولي الألباب ؟
قيل : نعم ، أحسنه ما نص اللّه عليه { اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا } الآية .
{ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ } لأحسن الأخلاق والأعمال { وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ } أي : العقول الزاكية .
ومن لبهم وحزمهم ، أنهم عرفوا الحسن من غيره ، وآثروا ما ينبغي إيثاره ، على ما سواه ، وهذا علامة العقل ، بل لا علامة للعقل سوى ذلك ، فإن الذي لا يميز بين الأقوال ، حسنها ، وقبيحها ، ليس من أهل العقول الصحيحة ، أو الذى يميز ، لكن غلبت شهوته عقله ، فبقي عقله تابعا لشهوته فلم يؤثر الأحسن ، كان ناقص العقل .
ثم وصفهم - سبحانه - بما يدل على صفاء عقولهم ، وطهارة قلوبهم ، فقال : { الذين يَسْتَمِعُونَ القول فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ . . . } .
وللعلماء فى تفسير هذه الجملة الكريمة أقوال منها : أن المراد بالقول الذى يتبعون أحسنه . ما يشمل تعاليم الإِسلام كلها النابعة من الكتاب والسنة .
والمراد بالأحسن الواجب والأفضل ، مع جواز الأخذ بالمندوب والحسن .
فهم يتركون العقاب مع أنه جائز ، ويأخذون بالعفو لأنه الأفضل ، كما قال - تعالى - { وَأَن تعفوا أَقْرَبُ للتقوى . . . } وكما قال - سبحانه - : { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ } فيكون المعنى : الذين يستمعون الأقوال الحسنة والأشد حسنا فيأخذون بما هو أشد حسنا . . .
ومنها أن المراد بالقول هنا ما يشمل الأقوال كلها سواء أكانت طيبة أم غير طيبة ، فهم يستمعون من الناس إلى أقوال متباينة ، فيتبعون الطيب منها ، وينبذون غيره .
قال صاحب الكشاف ما ملخصه : قوله : { الذين يَسْتَمِعُونَ القول فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ } هم الذين اجتنبوا وأنابوا لأغيرهم ، وإنما أراد بهم أن يكونوا مع الاجتناب والإِنابة على هذه الصفة . . وأراد أن يكونوا نقادا فى الدين ، مميزين بين الحسن والأحسن ، والفاضل والأفضل ، فإذا اعترضهم أمران : واجب ومندوب ، اختاروا الواجب . . . فهم حريصون على فعل ما هو أكثر ثواباً عند الله .
وقيل : يستمعون القرآن وغيره فيتبعون القرآن . وقيل : يستمعون أوامر الله فيتبعون أحسنها . نحو القصاص والعفو ، والانتصار والإِغضاء .
وعن ابن عباس : هو الرجل يجلس مع القوم فيسمع الحديث فيه محاسن ومساوئ ، فيحدث بأحسن ما سمع ، وكيف عما سواه .
ويبدو لنا أن هذا القول الأخير المأثور عن ابن عباس - رضى الله عنهما - هو أقرب الأقوال إلى الصواب ، لأنه هو الظاهر من معنى الجملة الكريمة .
وقوله - سبحانه - : { وأولئك هُمْ أُوْلُواْ الألباب } ثناء آخر من الله - تعالى - على هؤلاء المؤمنين الذين اجتنبوا عبادة الطاغوت ، وأخلصوا لله - تعالى - العبادة . أى : أولئك الذين هداهم الله - تعالى - إلى دينه الحق ، وإلى الصراط المستقيم ، وأولئك هم أصحاب العقول السليمة ، والمدارك القويمة ، والقلوب الطاهرة النقية .
قال الآلوسى : وفى الآية دلالة على حط قدر التقليد المحض ، ولذا قيل :
شمر وكن فى أمور الدين مجتهداً*** ولا تكن مثل عير قيد فانقادا
واستدل بها على أن الهداية تحصل بفعل الله - تعالى - وقبول النفس لها . . .
هؤلاء من صفاتهم أنهم يستمعون ما يستمعون من القول ، فتلتقط قلوبهم أحسنه وتطرد ما عداه ، فلا يلحق بها ولا يلصق إلا الكلم الطيب ، الذي تزكو به النفوس والقلوب . . والنفس الطيبة تتفتح للقول الطيب فتتلقاه وتستجيب له . والنفس الخبيثة لا تتفتح إلا للخبيث من القول ولا تستجيب إلا له .
( أولئك الذين هداهم الله ) . .
فقد علم الله في نفوسهم خيراً فهداهم إلى استماع أحسن القول والاستجابة له . والهدى هدى الله .
فالعقل السليم هو الذي يقود صاحبه إلى الزكاة ، وإلى النجاة . ومن لا يتبع طريق الزكاة والنجاة فكأنه مسلوب العقل محروم من هذه النعمة التي أعطاها له الله .
{ الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه } وضع فيه الظاهر موضع ضمير { الذين اجتنبوا } للدلالة على مبدأ اجتنابهم وأنهم نقاد في الدين يميزون بين الحق والباطل ويؤثرون الأفضل فالأفضل . { أولئك الذين هداهم الله } لدينه . { وأولئك هم أولوا الألباب } العقول السليمة عن منازعة الوهم والعادة ، وفي ذلك دلالة على أن الهداية تحصل بفعل الله وقبول النفس لها .