مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{ٱلَّذِينَ يَسۡتَمِعُونَ ٱلۡقَوۡلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحۡسَنَهُۥٓۚ أُوْلَـٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ هَدَىٰهُمُ ٱللَّهُۖ وَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمۡ أُوْلُواْ ٱلۡأَلۡبَٰبِ} (18)

واعلم أنه تعالى : لما قال : { لهم البشرى } وكان هذا كالمجمل أردفه بكلام يجري مجرى التفسير والشرح له فقال تعالى : { فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه } وأراد بعباده الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، الذين اجتنبوا وأنابوا لا غيرهم وهذا يدل على أن رأس السعادات ومركز الخيرات ومعدن الكرامات هو الإعراض عن غير الله تعالى ، والإقبال بالكلية على طاعة الله ، والمقصود من هذا اللفظ التنبيه على أن الذين اجتنبوا الطاغوت وأنابوا ، هم الموصوفون بأنهم هم الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، فوضع الظاهر موضع المضمر تنبيها على هذا الحرف ، ومنهم من قال إنه تعالى لما بين أن الذين اجتنبوا وأنابوا لهم البشرى وكان ذلك درجة عالية لا يصل إليها إلا الأولون ، وقصر السعادة عليهم يقتضي الحرمان للأكثرين ، وذلك لا يليق بالرحمة التامة ، لا جرم جعل الحكم أعم فقال كل من اختار الأحسن في كل باب كان في زمرة السعداء ، واعلم أن هذه الآية تدل على فوائد :

الفائدة الأولى : وجوب النظر والاستدلال ، وذلك لأنه تعالى بين أن الهداية والفلاح مرتبطان بما إذا سمع الإنسان أشياء كثيرة ، فإنه يختار منها ما هو الأحسن الأصوب ، ومن المعلوم أن تمييز الأحسن الأصوب عما سواه لا يحصل بالسماع ، لأن السماع صار قدرا مشتركا بين الكل ، لأن قوله : { الذين يستمعون القول } يدل على أن السماع قدر مشترك فيه ، فثبت أن تمييز الأحسن عما سواه لا يتأتى بالسماع وإنما يتأتى بحجة العقل ، وهذا يدل على أن الموجب لاستحقاق المدح والثناء متابعة حجة العقل وبناء الأمر على النظر والاستدلال .

الفائدة الثانية : أن الطريق إلى تصحيح المذاهب والأديان قسمان : أحدهما : إقامة الحجة والبينة على صحته على سبيل التحصيل ، وذلك أمر لا يمكن تحصيله إلا بالخوض في كل واحد من المسائل على التفصيل والثاني : أنا قبل البحث عن الدلائل وتقريرها والشبهات وتزييفها نعرض تلك المذاهب وأضدادها على عقولنا ، فكل ما حكم أول العقل بأنه أفضل وأكمل كائن أولى بالقبول . مثاله أن صريح العقل شاهد بأن الإقرار بأن إله العالم حي عالم قادر حليم حكيم رحيم ، أولى من إنكار ذلك ، فكان ذلك المذهب أولى ، والإقرار بأن الله تعالى لا يجري في ملكه وسلطانه إلا ما كان على وفق مشيئته أولى من القول بأن أكثر ما يجرى في سلطان الله على خلاف إرادته ، وأيضا الإقرار بأن الله فرد أحد صمد منزه عن التركيب والأعضاء أولى من القول بكونه متبعضا مؤلفا ، وأيضا القول باستغنائه عن الزمان والمكان أولى من القول باحتياجه إليهما ، وأيضا القول بأن الله رحيم كريم قد يعفو عن العقاب أولى من القول بأنه لا يعفو عنه البتة ، وكل هذه الأبواب تدخل تحت قوله : { الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه } فهذا ما يتعلق باختيار الأحسن في أبواب الاعتقادات .

وأما ما يتعلق بأبواب التكاليف فهو على قسمين : منها ما يكون من أبواب العبادات ، ومنها ما يكون من أبواب المعاملات ، فأما العبادات فمثل قولنا الصلاة التي يذكر في تحريمها الله أكبر وتكون النية فيها مقارنة للتكبير ، ويقرأ فيها سورة الفاتحة ، ويؤتى فيها بالطمأنينة في المواقف الخمسة ، ويقرأ فيها التشهد ، ويخرج منها بقوله السلام عليكم ، فلا شك أنها أحسن من الصلاة التي لا يراعى فيها شيء من هذه الأحوال ، وتوجب على العاقل أن يختار هذه الصلاة ، وأن يترك ما سواها ، وكذلك القول في جميع أبواب العبادات . وأما المعاملات فكذلك مثل أنه تعالى شرع القصاص والدية والعفو ، ولكنه ندب إلى العفو فقال : { وأن تعفو أقرب للتقوى } وعن ابن عباس أن المراد منه الرجل يجلس مع القوم ويسمع الحديث فيه محاسن ومساوئ ، فيحدث بأحسن ما سمع ويترك ما سواه .

واعلم أنه تعالى حكم على الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه بأن قال : { أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب } وفي ذلك دقيقة عجيبة ، وهي أن حصول الهداية في العقل والروح أمر حادث ، ولا بد له من فاعل وقابل : أما الفاعل فهو الله سبحانه وهو المراد من قوله : { أولئك الذين هداهم الله } وأما القابل فإليه الإشارة بقوله : { وأولئك هم أولوا الألباب } فإن الإنسان ما لم يكن عاقلا كامل الفهم امتنع حصول هذه المعارف الحقية في قلبه . وإنما قلنا إن الفاعل لهذه الهداية هو الله ، وذلك لأن جوهر النفس مع ما فيها من نور العقل قابل للاعتقاد الحق والاعتقاد الباطل ، وإذا كان الشيء قابلا للضدين كانت نسبة ذلك القابل إليهما على السوية ، ومتى كان الأمر كذلك امتنع كون ذلك القابل سببا لرجحان أحد الطرفين ، ألا ترى أن الجسم لما كان قابلا للحركة والسكون على السوية ، امتنع أن تصير ذات الجسم سببا لرجحان أحد الطرفين على الآخر ، فإن قالوا لا نقول إن ذات النفس والعقل يوجب هذا الرجحان ، بل نقول إنه يريد تحصيل أحد الطرفين ، فتصير تلك الإرادة سببا لذلك الرجحان ، فنقول هذا باطل ، لأن ذات النفس كما أنها قابلة لهذه الإرادة ، فكذلك ذات العقل قابلة لإرادة مضادة لتلك الإرادة ، فيمتنع كون جوهر النفس سببا لتلك الإرادة ، فثبت أن حصول الهداية لا بد لها من فاعل ومن قابل أما الفاعل : فيمتنع أن يكون هو النفس ، بل الفاعل هو الله تعالى وأما القابل : فهو جوهر النفس ، فلهذا السبب قال : { أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب }