السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{ٱلَّذِينَ يَسۡتَمِعُونَ ٱلۡقَوۡلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحۡسَنَهُۥٓۚ أُوْلَـٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ هَدَىٰهُمُ ٱللَّهُۖ وَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمۡ أُوْلُواْ ٱلۡأَلۡبَٰبِ} (18)

{ الذين يستمعون } أي : بجميع قلوبهم { القول فيتبعون } أي : بكل عزائمهم بعد انتقاده { أحسنه } أي : بما دلتهم عليه عقولهم من غير عدول إلى أدنى .

تنبيه : في هذا وضع الظاهر موضع مضمر { الذين اجتنبوا } للدلالة على مبدإ إحسانهم وأنهم نقاد في الدين يميزون بين الحسن والأحسن والفاضل والأفضل ، فإذا اعترضهم أمران واجب وندب اختاروا الواجب أو مباح وندب اختاروا الندب حرصاً على ما هو أقرب عند الله وأكثر ثواباً ، ويدخل تحت ذلك أبواب التكاليف وهي قسمان : عبادات ومعاملات ، فأما العبادات فكقولنا : الصلاة التي يذكر في تحريمها الله أكبر مع اقتران النية ويقرأ فيها بالفاتحة ويؤتى فيها بالطمأنينة في مواضعها الخمسة ويتشهد فيها ويخرج منها بالسلام ، لا شك أنها أحسن من الصلاة التي لا يراعى فيها شيء من هذه الأحوال . قال الرازي : فوجب على العاقل أن يختار هذه الصلاة دون غيرها ا . ه وكذا القول في جميع أبواب العبادات . قال في الكشاف : ويدخل تحته المذاهب واختيار أثبتها على السبك وأقواها على السبر وأبينها دليلاً أو أمارة ولا تكن في مذهبك كما قال القائل :

ولا تكن مثل غير قيد فانقادا *** . . . . . . . . . . . . . . . . . .

يريد : المقلد ا . ه ،

وأما المعاملات فكإنظار المعسر وإبرائه فالإبراء أولى وإن كان الأول واجباً ، والثاني : مندوباً وكذا القول في جميع المعاملات . وقيل : يسمعون القرآن وغيره فيتبعون القرآن وقيل : يسمعون أوامر الله تعالى فيتبعون أحسنها نحو القصاص والعفو قال تعالى : { وأن تعفوا أقرب للتقوى } ( البقرة : 237 ) وعن ابن عباس : هو الرجل يجلس مع القوم فيسمع الحديث فيه محاسن ومساوىء فيحدث بأحسن ما يسمعه ويكف عما سواه . وروي عن ابن عباس آمن أبو بكر بالنبي صلى الله عليه وسلم فجاءه عثمان وعبد الرحمان بن عوف وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد فسألوه فأخبرهم بإيمانه فآمنوا فنزل فيهم { فبشر عبادي } الآية .

{ أولئك } أي : العالو الهمة والرتبة { الذين هداهم الله } بما له من صفات الكمال لدينه { وأولئك أولو الألباب } أي : أصحاب العقول السليمة عن منازعة الوهم والعادة ، وقال أبو زيد : نزل { والذين اجتنبوا الطاغوت } ( الزمر : 17 ) الآيتين في ثلاثة نفر كانوا في الجاهلية يقولون لا إله إلا الله زيد بن عمرو وأبو ذر الغفاري وسلمان الفارسي والأحسن لا إله إلا الله .

وفي هذه الآية لطيفة وهي : أن حصول الهداية في العقل والروح حادث فلا بد من فاعل وقابل ، فأما الفاعل : فهو الله تعالى وهو المراد من قوله تعالى : { أولئك الذين هداهم الله } وأما القابل فإليه الإشارة بقوله تعالى : { وأولئك هم أولو الألباب } فإن الإنسان ما لم يكن عاقلاً كامل الفهم امتنع حصول هذه المعارف الحقيقية في قلبه .