قوله تعالى : { الذين آتيناهم الكتاب } ، يعني : التوراة والإنجيل .
قوله تعالى : { يعرفونه } ، يعني محمداً صلى الله عليه وسلم بنعته ، وصفته .
قوله تعالى : { كما يعرفون أبناءهم } ، من بين الصبيان .
قوله تعالى : { الذين خسروا } ، غبنوا .
قوله تعالى : { أنفسهم فهم لا يؤمنون } ، وذلك أن الله جعل لكل آدمي منزلاً في الجنة ، ومنزلاً في النار ، فإذا كان يوم القيامة جعل الله للمؤمنين منازل أهل النار في الجنة ، ولأهل النار منازل أهل الجنة في النار ، وذلك الخسران .
لما بيَّن شهادته وشهادة رسوله على التوحيد ، وشهادةَ المشركين الذين لا علم لديهم على ضده ، ذكر أن أهل الكتاب من اليهود والنصارى . { يَعْرِفُونَهُ } أي : يعرفون صحة التوحيد { كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ } أي : لا شك عندهم فيه بوجه ، كما أنهم لا يشتبهون بأولادهم ، خصوصا البنين الملازمين في الغالب لآبائهم .
ويحتمل أن الضمير عائد إلى الرسول محمد صلى الله عليه وسلم ، وأن أهل الكتاب لا يشتبهون بصحة رسالته ولا يمترون بها ، لما عندهم من البشارات به ، ونعوته التي تنطبق عليه ولا تصلح لغيره ، والمعنيان متلازمان .
قوله { الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ } أي : فوتوها ما خلقت له ، من الإيمان والتوحيد ، وحرموها الفضل من الملك المجيد { فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ } فإذا لم يوجد الإيمان منهم ، فلا تسأل عن الخسار والشر ، الذي يحصل لهم .
ثم ساق القرآن شهادة ثالثة بصدق النبى صلى الله عليه وسلم وهى شهادة أهل الكتاب فقال { الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَآءَهُمُ الذين خسروا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } :
قال الجمل فى حاشيته على الجلالين : " روى أن النبى صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة وأسلم عبد الله بن سلام قال له عمر : إن الله أنزل على نبيه بمكة : { الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَآءَهُمُ } فكيف هذه المعرفة ؟ فقال عبد الله بن سلام : يا عمر ، لقد عرفته حين كما أعرف ابنى ، ولأنا أشد معرفة بمحمد منى بابنى ! ! فقال عمر : كيف ذلك ؟ فقال : أشهد انه رسول الله حقاً ولا أدرى ما تصنع النساء " .
والمعنى : إن علماء أهل الكتاب من اليهود والنصارى ، يعرفون صدق ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم معرفة تماثل معرفتهم لأبنائهم الذين هم من أصلابهم ، فهى معرفة بلغت حد اليقين وذلك بسبب ما عندهم من الأخبار والأنباء عن المرسلين المتقدمين ، فإن الرسل كلهم بشروا بوجود محمد صلى الله عليه وسلم ومبعثه وصفته وبلده ومهاجره وصفة أمته .
والضمير فى { يَعْرِفُونَهُ } يرى أكثر المفسرين أنه يعود على النبى صلى الله عليه وسلم ويؤيد ذلك سبب نزول الآية ، ويرى بعضهم أنه يعود على القرآن لتقدمه فى قوله { وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذا القرآن } أو على التوحيد لدلالة قوله { قُلْ إِنَّمَا هُوَ إله وَاحِدٌ } .
والأولى عودة الضمير على جميع ما ذكر ، لأن معرفتهم بما فى كتابهم يتناول كل ذلك .
ثم بين - سبحانه - علة إنكار المكابرين منهم لما يعرفونه من أمر نبوته صلى الله عليه وسلم فقال : { الذين خسروا أَنْفُسَهُمْ } من المشركين ومن أهل الكتاب الجاحدين { فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } به جمعوا بين أمرين متناقضين فكذبوا على الله بما لا حجة عليه ، وكذبوا بما ثبت بالحجة البينة والبرهان الصحيح حيث قالوا : { لَوْ شَآءَ الله مَآ أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا } وقالوا { والله أَمَرَنَا بِهَا } وقالوا : " الملائكة بنات الله " ونسبوا إليه تحريم البحائر والسوائب ، وذهبوا فكذبوا القرآن والمعجزات وسموها سحراً ولم يؤمنوا بالرسول صلى الله عليه وسلم .
وهذه الآية الكريمة من الآيات التى قيل أنها مدنية ، والصحيح أنها مكية ، ويشهد لذلك سبب النزول الذى سقناه عن عمر - رضى الله عنه - فقد قال لعبد الله بن سلام : " إن الله أنزل على نبيه بمكة " إلخ .
ويؤكد كونها مكية - أيضا - سياق الآيات قبلها ، فالآية التى قبلها وهى قوله - تعالى - : { قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً } . إلخ . فيها شهادة من الله لنبيه صلى الله عليه وسلم بأنه صادق فيما يبلغه عن ربه ، والآية التى معنا فيها شهادة من أهل الكتاب بأنهم يعرفون صدق محمد صلى الله عليه وسلم كما يعرفون أبناءهم ، ومن المعروف أن أهل مكة كانوا يسألون أهل الكتاب عن النبى صلى الله عليه وسلم وفضلا عن ذلك لم يرد نص صحيح يثبت أن هذه الآية الكريمة قد نزلت بالمدينة .
قال بعض العلماء : ويظهر أنهم - أى القائلون بأن الآية مدنية - لما وجدوا الحديث فى هذه الآية عن أهل الكتاب ، ووجدوا أن هذه الآية نظيرة لآية أخرى مدنية تبدأ بما بدأت به ، وهى قوله - تعالى - : فى سورة البقرة
{ الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الحق وَهُمْ يَعْلَمُونَ } الاية 146 ، ومن المعروف أن صلة الإسلام بأهل الكتاب إنما كانت بعد الهجرة وفى المدينة دون مكة ، لما وجدوا هذا قرروا أن الآية مدنية ، فالمسألة ليست إلا اجتهاداً حسب رواية مسندة ، وهو اجتهاد غير صحيح .
ولما كان هذا الخسران أكبر ظلم ظلم به هؤلاء الكفار أنفسهم فقد قال - تعالى - فى شأنهم : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظالمون } .
( الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ، الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون )
لقد تكرر في القرآن الكريم ذكر معرفة أهل الكتاب - وهم اليهود والنصارى - لهذا القرآن ؛ أو لصحة رساله محمد [ ص ] وتنزيل هذا القرآن عليه من عند الله . . تكرر ذكر هذه الحقيقة سواء في مواجهة أهل الكتاب أنفسهم ، عندما كانوا يقفون من النبى [ ص ] ومن هذا الدين وقفة المعارضة والإنكار والحرب والعداء [ وكان هذا غالبا في المدينة ] أو في مواجهة المشركين من العرب ؛ لتعريفهم أن أهل الكتاب ، الذين يعرفون طبيعة الوحي والكتب السماوية ، يعرفون هذا القرآن ، ويعرفون صدق رسول الله [ ص ] في أنه وحي أوحى به ربه إليه كما أوحى إلى الرسل من قبله .
وهذا الآية - كما رجحنا - مكية . وذكر أهل الكتاب فيها على هذا النحو - إذن - يفيد أنها كانت مواجهة للمشركين بأن هذا القرآن الذي ينكرونه ، يعرفه أهل الكتاب كما يعرفون أبناءهم ؛ وإذا كانت كثرتهم لم تؤمن به فذلك لأنهم خسروا أنفسهم ، فهم لا يؤمنون . شأنهم في هذا شأن المشركين ، الذين خسروا أنفسهم ، فلم يدخلوا في هذا الدين ! والسياق قبل هذه الآية وبعدها كله عن المشركين . مما يرجح مكيتها كما قلنا من قبل في التعريف بالسورة . .
وقد جرى المفسرون على تفسير مثل هذا التقرير : ( الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ) . . على أنهم يعرفون أنه منزل من عند الله حقا ؛ أو على أن النبى [ ص ] رسول من عندالله حقا ، يوحى إليه بهذا القرآن . .
وهذا جانب من مدلول النص فعلا ولكنا نلمح - باستصحاب الواقع التاريخي وموقف أهل الكتاب من هذاالدين فيه - أن هناك جانبا آخر من مدلول النص ؛ لعل الله - سبحانه - أراد أن يعلمه للجماعة المسلمة ، ليستقر في وعيها على مدار التاريخ ، وهي تواجه أهل الكتاب بهذا الدين . .
إن أهل الكتاب يعرفون أن هذا الكتاب حق من عند الله ؛ ويعرفون - من ثم - ما فيه من سلطان وقوة ؛ ومن خير وصلاح ؛ ومن طاقة دافعة للأمة التي تدين بالعقيدة التي جاء بها ؛ وبالأخلاق التي تنبثق منها ؛ وبالنظام الذي يقوم عليها . ويحسبون كل حساب لهذا الكتاب وأهله ؛ ويعلمون جيدا أن الأرض لا تسعهم وتسع أهل الدين ! . . إنهم يعرفون ما فيه من حق ، ويعرفون ما هم فيه من باطل . . ويعرفون أن الجاهلية التي صاروا إليها ، وصارت إليها أوضاع قومهم وأخلاقهم وأنظمتهم ، لا يمكن أن يهادنها هذا الدين ، أو يبقى عليها . . وأنها - من ثم - معركة لا تهدأ حتى تجلو الجاهلية عن هذه الأرض ، ويستعلي هذا الدين ، ويكون الدين كله لله . . أي أن يكون السلطان في الأرض كله لله ؛ وأن يطارد المعتدون على سلطان الله في الأرض كلها . وبذلك وحده يكون الدين كله لله . .
إن أهل الكتاب يعلمون جيدا هذه الحقيقة في هذا الدين . . ويعرفونه بها كما يعرفون أبناءهم . . وهم جيلا بعد جيل يدرسون هذا الدين دراسة دقيقة عميقة ؛ وينقبون عن أسرار قوته ؛ وعن مداخلة إلى النفوس ومساربه فيها ؛ ويبحثون بجد : كيف يستطيعون أن يفسدوا القوة الموجهة في هذا الدين ؟ كيف يلقون بالريب والشكوك في قلوب أهله ؟ كيف يحرفون الكلم فيه عن مواضعه ؟ كيف يصدون أهله عن العلم الحقيقي به ؟ كيف يحولونه من حركة دافعة تحطم الباطل والجاهلية وتسترد سلطان الله في الأرض وتطارد المعتدين على هذا السلطان ، وتجعل الدين كله لله . . إلى حركة ثقافية بارده ، وإلى بحوث نظرية ميتة ، وإلى جدل لاهوتي أو فقهي أو طائفي فارغ ؟ كيف يفرغون مفهوماته في اوضاع وأنظمة وتصورات غريبة عنه مدمرة له ، مع إيهام أهله أن عقيدتهم محترمة مصونة ؟ ! كيف في النهاية يملأون فراغ العقيدة بتصورات أخرى ومفهومات أخرى واهتمامات أخرى ، ليجهزوا على الجذور العاطفية الباقية من العقيدة الباهتة ؟ !
إن أهل الكتاب يدرسون هذا الدين دراسة جادة عميقة فاحصة ؛ لا لأنهم يبحثون عن الحقيقية - كما يتوهم السذج من أهل هذا الدين ! - ولا لينصفوا هذا الدين وأصله - كما يتصور بعض المخدوعين حينما يرون اعترافا من باحث أو مستشرق بجانب طيب في هذا الدين ! - كلا ! إنما هم يقومون بهذه الدراسة الجادة العميقة الفاحصة ، لأنهم يبحثون عن مقتل لهذا الدين ! لأنهم يبحثون عن منافذه ومساربه إلى الفطرة ليسدوها أو يميعوها ! لأنهم يبحثون عن أسرار قوته ليقاوموه منها ! لأنهم يريدون أن يعرفوا كيف يبني نفسه في النفوس ليبنوا على غراره التصورات المضادة التي يريدون ملء فراغ الناس بها !
وهم من أجل هذه الأهداف والملابسات كلها يعرفونه كما يعرفون أبناءهم !
ومن واجبنا نحن أن نعرف ذلك . . وأن نعرف معه أننا نحن الأولى بأن نعرف ديننا كما نعرف أباءنا !
إن الواقع التاريخي من خلال أربعة عشر قرنا ينطق بحقيقة واحدة . . هي هذه الحقيقة التي يقررها القرآن الكريم في هذه الآية : ( الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ) . . ولكن هذه الحقيقة تتضح في هذه الفترة وتتجلى بصورة خاصة . . إن البحوث التي تكتب عن الإسلام في هذه الفترة تصدر بمعدل كتاب كل أسبوع ؛ بلغة من اللغات الأجنبية . . وتنطق هذه البحوث بمدى معرفة أهل الكتاب بكل صغيرة وكبيرة عن طبيعة هذا الدين وتاريخه ، ومصادر قوته ، ووسائل مقاومته ، وطرق إفساد توجيهه ! ومعظمهم - بطبيعة الحال - لا يفصح عن نيته هذه ؛ فهم يعلمون أن الهجوم الصريح على هذا الدين كان يثير حماسة الدفاعوالمقاومة ؛ وأن الحركات التي قامت لطرد الهجوم المسلح على هذا الدين - الممثل في الاستعمار - إنما كانت ترتكز على قاعدة من الوعي الديني أو على الأقل العاطفة الدينية ؛ وأن استمرار الهجوم على الإسلام - ولو في الصورة الفكرية - سيظل يثير حماسة الدفاع والمقاومة ! لذلك يلجأ معظمهم إلى طريقة أخبث . . يلجأ إلى إزجاء الثناء لهذا الدين ، حتى ينوم المشاعر المتوفزة ، ويخدر الحماسة المتحفزة ، وينال ثقة القارى ء واطمئنانه . .
ثم يضع السم في الكأس ويقدمها مترعة . . هذا الدين نعم عظيم . . ولكنه ينبغي أن يتطور بمفهوماته ويتطور كذلك بتنظيماته ليجاري الحضارة " الإنسانية " الحديثة ! وينبغي ألا يقف موقف المعارضة للتطورات التي وقعت في أوضاع المجتمع ، وفي أشكال الحكم ، وفي قيم الأخلاق ! وينبغي - في النهاية - أن يتمثل في صورة عقيدة في القلوب ، ويدع الحياة الواقعية تنظمها نظريات وتجارب وأساليب الحضارة " الإنسانية " الحديثة ! ويقف فقط ليبارك ما تقرره الأرباب الأرضية من هذه التجارب والأساليب . . وبذلك يظل دينا عظيما . . ! ! !
وفي أثناء عرض مواضع القوة والعمق في هذا الدين - وهي ظاهريا تبدو في صورة الإنصاف الخادع والثناء المخدر - يقصد المؤلف قومه من أهل الكتاب ؛ لينبههم إلى خطورة هذا الدين ، وإلى أسرار قوته ؛ ويسير أمام الأجهزة المدمرة بهذا الضوء الكشاف ، ليسددوا ضرباتهم على الهدف . وليعرفوا هذا الدين كما يعرفون أبناءهم !
إن أسرار هذا القرآن ستظل تتكشف لأصحابه ؛ جديده دائما ؛ كلما عاشوا في ظلاله ؛ وهم يخوضون معركة العقيدة ؛ ويتدبرون بوعي أحداث التاريخ ؛ ويطالعون بوعي أحداث الحاضر . ويرون بنور الله . الذي يكشف الحق ، وينير الطريق . .