{ أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ ْ } حيث يستدرجهم من حيث لا يعلمون ، ويملي لهم ، إن كيده متين ، { فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ ْ } فإن من أمن من عذاب اللّه ، فهو لم{[320]} يصدق بالجزاء على الأعمال ، ولا آمن بالرسل حقيقة الإيمان .
وهذه الآية الكريمة فيها من التخويف البليغ ، على أن العبد لا ينبغي له أن يكون آمنا على ما معه من الإيمان .
بل لا يزال خائفا وجلا أن يبتلى ببلية تسلب ما معه من الإيمان ، وأن لا يزال داعيا بقوله : { يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك ْ } وأن يعمل ويسعى ، في كل سبب يخلصه من الشر ، عند وقوع الفتن ، فإن العبد - ولو بلغت به الحال ما بلغت - فليس على يقين من السلامة .
وقوله : { أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ الله } تكرير لمجموع الإنكارين السابقين ، جمعا بين التفريق قصدا إلى زيادة التحذير والإنذار .
والمكر في الأصل الخداع ، ويطلق على الستر يقال : مكر الليل أى : ستر بظلمته ما هو فيه ، وإذا نسب إليه - سبحانه - فالمراد به استدراجه للعبد العاصى حتى يهلكه في غفلته تشبيها لذلك بالخداع .
قال صاحب الكشاف : فإن قلت : فلم رجع فعطف بالفاء قوله : { أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ الله } ؟
قلت : هو تكرير لقوله : { أَفَأَمِنَ أَهْلُ القرى } ومكر الله : استعارة لأخذه العبد من حيث لا يشعر ولاستدراجه ، فعلى العاقل أن يكون في خوفه من مكر الله كالمحارب الذي يخاف من عدوه الكمين والبيات والغيلة . وعن الربيع بن خثعم أن ابنته قالت له : مالى أراك لا تنام والناس ينامون ؟ فقال : با بنتاه إن إباك يخاف البيات . أراد قوله : { أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً } .
والمعنى : أفأمنوا مكر الله وتدبيره الخفى الذي لا يعلمه البشر فغفلوا عن قدرتنا على إنزال العذاب بهم بياتاً أو ضحوة ؟ لئن كانوا كذلك فهم بلا ريب عن الصراط لناكبون ، وعن سنن الله في خلقه غافلون ، فإنه { فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ الله إِلاَّ القوم الخاسرون } أى : إلا القوم الذين خسروا أنفسهم وعقولهم ، ولم يستفيدوا شيئا من أنواع العبر والعظات التي بثها الله في أنحاء هذا الكون .
هذا ، ويرى الإمام الشافعى وأتباعه أن الأمن من مكر الله كبيرة من الكبائر ، لأنه استرسال في المعاصى اتكالا على عفو الله .
وقال الحنفية إن الأمن من مكر الله كفر كاليأس ، لقوله - تعالى - : { إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ الله إِلاَّ القوم الكافرون } وقوله : { فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ الله إِلاَّ القوم الخاسرون } .
ثم بين - سبحانه - أن من الواجب على الأحياء الذين يرثون الأرض من أهلها الذاهبين المهلكين ، الذين أهلكتهم ذنوبهم ، وجنت عليهم غفلتهمن وعوقبوا على استهتارهم وغرورهم من الواجب على هؤلاء الأحياء أن يعتبروا ويتعظوا وسحنوا القول والعمل حتى ينجوا من العقوبات .
وتدبيره الخفي المغيب على البشر . . ليتقوه ويحذروه . .
( فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون ) . .
فما وراء الأمن والغفلة والاستهتار إلا الخسار . وما يغفل عن مكر الله هكذا إلا الذين يستحقون هذا الخسار ! أفأمنوا مكر الله ؛ وهم يرثون الأرض من بعد أهلها الذاهبين ، الذين هلكوا بذنوبهم ، وجنت عليهم غفلتهم ؟ أما كانت مصارع الغابرين تهديهم وتنير لهم طريقهم ؟
المعنى : { أفأمنوا } هذه أو هذا كما تقول : أجاء زيد أو عمرو وليست هذه أو التي هي للإضراب عن الأول كما تقول : أنا أقوم أو أجلس وأنت تقصد الإضراب عن القيام والإثبات للجلوس وتقريره ، وقولنا التي هي لأحد الشيئين يعم الإباحة والتخيير كقولك : جالس الحسن أو ابن سيرين أو قولك : جالس الحسن أو جالس ابن سيرين ، وقوله { يلعبون } يريد في غاية الغفلة والإعراض .
و { مكر الله } هي إضافة مخلوق إلى الخالق كما تقول : ناقة الله وبيت الله ، والمراد فعل يعاقب به مكرة الكفار ، وأضيف إلى الله لما كان عقوبة الذنب فإن العرب تسمي العقوبة على أي وجه كانت باسم الذنب الذي وقعت عليه العقوبة ، وهذا نص في قوله { ومكروا ومكر الله } ، وهذا الموضع أيضاً كان كفرهم بعد الرسالة وظهور دعوة الله مكر وخديعة واستخفاف ، وقيل عومل في مثل هذا وغيره اللفظ دون المعنى في مثل قوله { الله يستهزىء بهم } و «أن الله لا يمل حتى تملوا » وغير ذلك .
قوله : { أفأمنوا مكر الله } تكرير لقوله : { أفأمنَ أهل القرى } قصد منه تقرير التعجيب من غفلتهم ، وتقرير معنى التعريض بالسامعين من المشركين ، مع زيادة التذكير بأن ما حل بأولئك من عذاب الله يماثل هيئة مكر الماكر بالممكور فلا يحسبوا الإمهال إعراضاً عنهم ، وليحذروا أن يكون ذلك كفعل الماكر بعدوّه .
والمكر حقيقته : فعل يقصد به ضر أحد في هيئة تخفَى أو هيئة يحسبها منفعة . وهو هنا استعارة للإمهال والإنعام في حال الإمهال ، فهي تمثيلية ، شبه حال الإنعام مع الإمهال وتعقيبه بالانتقام بحال المكر ، وتقدم في سورة آل عمران ( 54 ) عند قوله : { ومكَروا ومكر الله والله خير الماكرين } وقوله : { فلا يأمن مكر الله إلاّ القوم الخاسرون } مُترتب ومتفرع عن التعجيب في قوله : { أفأمنوا مكر الله } لأن المقصود منه تفريع أن أهل القرى المذكورين خاسرون لثبوت أنهم أمنوا مكر الله ، والتقدير : أفأمنوا مكر الله فهم قوم خاسرون .
وإنما صيغ هذا التفريع بصيغة تعُم المخبَر عنهم وغيرهم ليجري مجرى المثل ويصير تذييلاً للكلام ، ويدخل فيه المعرّض بهم في هذه الموعظة وهم المشركون الحاضرون ، والتقدير : فهم قوم خاسرون ، إذ لا يأمن مكر الله إلاّ القوم الخاسرون .
والخسران هنا هو إضاعة ما فيه نفعهم بسوء اعتقادهم ، شُبه ذلك بالخسران وهو إضاعة التاجر رأس ماله بسوء تصرفه ، لأنهم باطمئنانهم إلى السلامة الحاضرة ، وإعراضهم عن التفكر فيما يعقبها من الأخذ الشبيه بفعل الماكر قد خسروا الانتفاع بعقولهم وخسروا أنفسهم .
وتقدم قوله تعالى : { الذين خسروا أنفسهم } في سورة الأنعام ( 12 ) ، وقوله : { فأولئك الذين خسروا أنفسهم } في أول السورة ( 9 ) .
وتقدم أن إطلاق المَكْر على أخذ الله مستحقي العقاب بعد إمهالهم : أن ذلك تمثيل عند قوله تعالى : { ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين } في سورة آل عمران ( 54 ) .
واعلم أن المراد بأمن مكر الله في هذه الآية هو الأمن الذي من نوع أمن أهل القرى المكذبين ، الذي ابتُدىء الحديث عنه من قوله : { وما أرسلنا في قرية من نبيء إلاّ أخذنا أهلها بالبأساء والضّراء لعلهم يضرّعون } [ الأعراف : 94 ] ثم قوله : { أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتاً } الآياتتِ ، وهو الأمن الناشىء عن تكذيب خبر الرسول صلى الله عليه وسلم ، وعن الغرور بأن دين الشرك هو الحق فهو أمن ناشىء عن كفر ، والمأمون منه هو وعيد الرسل إياهم وما أطلق عليه أنه مكر الله .
ومن الأمن من عذاب الله أصنْاف أخرى تُغاير هذا الأمن ، وتتقارب منه ، وتتباعد ، بحسب اختلاف ضمائر الناس ومبالغ نياتهم ، فأما ما كان منها مستنداً لدليل شرعي فلا تَبعةَ على صاحبه ، وذلك مثل أمن المسلمين من أمثال عذاب الأمم الماضية المستند إلى قوله تعالى : { وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون } [ الأنفال : 33 ] ، وإلى قول النبي صلى الله عليه وسلم لما نزل قوله تعالى : { قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم } فقال النبي عليه الصلاة والسلام : أعوذ بسبحات وجهك الكريم { أَوْ مِن تحت أرجلكم } فقال : " أعوذ بسبحات وجهك الكريم { أو يلبسكم شيعا } [ الأنعام : 65 ] الآية فقال : هذه أهون " كما تقدم في تفسيرها في سورة الأنعام ومثل ، أمن أهل بدر من عذاب الآخرة لقول النبي صلى الله عليه وسلم " ما يدريك لعل الله اطّلع على أهل بدر فقال : « اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم " في قصة حاطب بن أبي بلتعة .
ومثل إخبار النبي صلى الله عليه وسلم عبدَ الله بن سلام أنه لا يزال آخذاً بالعروة الوثقى ، ومثل الأنبياء فإنهم آمنون من مكر الله بإخبار الله إياهم بذلك ، وأولياءُ الله كذلك ، قال تعالى : { ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون } [ يونس : 62 ، 63 ] فمن العجيب ما ذكره الخفاجي أن الحنفية قالوا : الأمنُ من مكر الله كفر لقوله تعالى : { فلا يأمن مكر الله إلاّ القوم الخاسرون } .
والأمنُ مجمل ومكر الله تمثيل والخسران مشكك الحقيقة . وقال الخفاجي : الأمنُ من مكر الله كبيرة عند الشافعية ، وهو الاسترسال على المعاصي اتكالاً على عفو الله وذلك مما نسبه الزركشي في « شرح جمع الجوامع » إلى ولي الدين ، وروى البزار وابن أبي حاتم عن ابن عباس : " أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل : ما الكبائر فقال : الشرك بالله واليأس من روح الله والأمنُ من مكر الله " ولم أقف على مبلغ هذا الحديث من الصحة ، وقد ذكرنا غير مرة أن ما يأتي في القرآن من الوعيد لأهل الكفر على أعمال لهم مرادٌ منه أيضاً تحذير المسلمين مما يشبه تلك الأعمال بقدر اقتراب شبهه .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
يعني عذاب الله، {إلا القوم الخاسرون}.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 97]
يقول تعالى ذكره: أفأمن يا محمد هؤلاء الذين يكذّبون الله ورسوله ويجحدون آياته، استدراج الله إياهم بما أنعم به عليهم في دنياهم من صحة الأبدان ورخاء العيش، كما استدرج الذين قصّ عليهم قصصهم من الأمم قبلهم، فإن مكر الله لا يأمنه، يقول: لا يأمن ذلك أن يكون استدراجا مع مقامهم على كفرهم وإصرارهم على معصيتهم إلاّ القوم الخاسرون وهم الهالكون.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
المكر في الشاهد هو أن يراقب من عدوّه حال غفلة لينتقم منه، وينتصر. فإذا كان ما ذكرنا، سمّى ما ينزل بهم من العذاب في حال الغفلة مكرا،... وقوله تعالى: {أفأمنوا مكر الله} هو جزاء مكرهم؛ سمّى جزاء المكر مكرا [كما] سمّى جزاء السيئة سيئة وجزاء الاعتداء اعتداء، وإن لم يكن الثاني اعتداء ولا سيئة...
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
ومعني (مكر) استدراج القوم بما أراهم في دنياهم. قال قتادة: مكر الله استدراجه بطول الصحة وتظاهر النعم، وقال عطيّة: يعني أخذه وعذابه...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
ومعنى الآية الإبانة عما يجب أن يكون عليه المكلف من الخوف لعقاب الله، ليسارع إلى طاعته واجتناب معاصيه، ولا يستشعر الأمن من ذلك، فيكون قد خسر في دنياه وآخرته بالتهالك في القبائح.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
يقال مَنْ عرف علوّ قدره -سبحانه- خشي خفيّ مكره، ومَنْ أمِنَ خفيّ مكره نَسِيَ عظيم قَدْرِه.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
ومكر الله: استعارة لأخذه العبد من حيث لا يشعر، ولاستدراجه. فعلى العاقل أن يكون في خوفه من مكر الله، كالمحارب الذي يخاف من عدوّه الكمين والبيات والغيلة.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
.. و {مكر الله} هي إضافة مخلوق إلى الخالق كما تقول: ناقة الله وبيت الله، والمراد فعل يعاقب به مكرة الكفار، وأضيف إلى الله لما كان عقوبة الذنب فإن العرب تسمي العقوبة على أي وجه كانت باسم الذنب الذي وقعت عليه العقوبة، وهذا نص في قوله {ومكروا ومكر الله}، وهذا الموضع أيضاً كان كفرهم بعد الرسالة وظهور دعوة الله مكر وخديعة واستخفاف.
وقيل عومل في مثل هذا وغيره اللفظ دون المعنى في مثل قوله {الله يستهزئ بهم} و «أن الله لا يمل حتى تملوا» وغير ذلك.
... ويدل قوله: {أفأمنوا مكر الله} أن المراد أن يأتيهم عذابه من حيث لا يشعرون. قاله على وجه التحذير، وسمي هذا العذاب مكرا توسعا، لأن الواحد منا إذا أراد المكر بصاحبه، فإنه يوقعه في البلاء من حيث لا يشعر به، فسمي العذاب مكرا لنزوله بهم من حيث لا يشعرون، وبين أنه لا يأمن من نزول عذاب الله على هذا الوجه {إلا القوم الخاسرون} وهم الذين لغفلتهم وجهلهم لا يعرفون ربهم، فلا يخافونه، ومن هذه سبيله، فهو أخسر الخاسرين في الدنيا والآخرة، لأنه أوقع نفسه في الدنيا في الضرر، وفي الآخرة في أشد العذاب.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
ولهذا قال الحسن البصري، رحمه الله: المؤمن يعمل بالطاعات وهو مُشْفِق وَجِل خائف، والفاجر يعمل بالمعاصي وهو آمن.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان ضلالهم -الذي نسبوا فيه الأمر إلى غير أهله- أشنع ضلال لتضمنه التعطيل وما يجر إليه من الأباطيل، كرر الإنكار عليهم على وجه أشد من الأول فقال مسبباً الإنكار عما أثبت هذا الكلام من العظمة التي لا يتمارى فيها ذو لب: {أفأمنوا مكر الله} أي فعله الذي يشبه المكر بأخذ الإنسان من حيث لا يشعر بالاستدراج بما يريد من النعم والنقم؛ وسبب عن ذلك قوله: {فلا يأمن مكر الله} أي الذي لا أعظم منه فلا يرد له أمر {إلا القوم الخاسرون} أي الذين كانت قواهم سبباً لعراقتهم في الأفعال الضارة والخصال المهلكة.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون} قال الراغب المكر صرف الغير عما تقصده بحيلة. وقسمه إلى محمود ومذموم. وأصح منه وأدق قولنا في تفسير {ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين} [آل عمران: 54]: المكر في الأصل التدبير الخفي المفضي بالممكور به إلى ما لا يحتسب. وقفينا على هذا التعريف ببيان السيئ والحسن من المكر ولو الأكثر فيه أن يكون سيئا كالشأن غيره من الأمور التي يتحرى إخفاؤها، وفيه أن مكر الله تعالى وهو تدبيره الذي يخفى على الناس إنما يكون بإقامة سننه وإتمام حكمه، وكلها خير في أنفسها وإن قصر كثير من الناس في الاستفادة منها بجهلهم وسوء اختيارهم اه والمراد بالجهل ما يتعلق بصفات الله تعالى وسننه اغترارا بالظواهر، كأن يغتر القوي بقوته، والغني بثروته، والعالم بعلمه والعابد بعبادته، فيخطئ تقديره ما قدره الله تعالى فيظن أن ما عنده يبقى، وما يترتب عليه من الآثار في ظنه لا يتخلف، كما أخطأ الألمان في تقدير قوتهم وقوة من يقاتلهم من الدول فلم يحسبوا أن تكون دولة الولايات المتحدة منهم.
والمعنى أكان سبب أمنهم إتيان بأسنا بياتا أو ضحى وهم غافلون أنهم أمنوا مكر الله بهم بإتيانهم من حيث لم يحتسبوا ولم يقدروا؟ إن كان الأمر كذلك فقد خسروا أنفسهم فإنه لا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون. وقد سبق الكلام في خسران النفس في غير هذا الموضع.
وإذا كان أمن العالم المدبر والصالح المتعبد من مكر الله تعالى جهلا يورث الخسر، فكيف حال من يأمن مكر الله وهو مسترسل في معاصيه اتكالا على عفوه ومغفرته ورحمته؟ قال تعالى: {وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين} [فصلت: 23] فأعلم الناس بالله وأعبدهم له وأقربهم إليه هم أبعد خلقه عن الأمن من مكره، إذ لا يصح أن يأمن منه إلا من أحاط بعلمه ومشيئته وليس هذا لملك مقرب ولا لنبي مرسل، {يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما} [طه: 110] ألم تر إلى الرسل الكرام كيف كانوا يستثنون مشيئته حتى فيما عصمهم منه؟ كقول شعيب الذي حكاه الله عنه قبيل هذه الآيات {قد افترينا على اللّه كذبا إن عدنا في ملّتكم بعد إذ نجّانا اللّه منها وما يكون لنا أن نعود فيها إلّا أن يشاء اللّه ربّنا وسع ربّنا كلّ شيء علما على اللّه توكّلنا} [الأعراف: 89] وقد كان أصلح البشر وخاتم الرسل صلى الله عليه وسلم يكثر من الدعاء بقوله "يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلبي على دينك "كما ثبت في الصحاح وقد ذكر تعالى أن الراسخين في العلم يدعونه بقوله: {ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب} [آل عمران: 8] وقال: {إنما يخشى الله من عباده العلماء} [فاطر: 28] ويقابل الأمن من مكر الله ضده وهو اليأس من رحمة الله. فكل منهما مفسدة تتبعها مفاسد كثيرة.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والخسران هنا هو إضاعة ما فيه نفعهم بسوء اعتقادهم، شُبه ذلك بالخسران وهو إضاعة التاجر رأس ماله بسوء تصرفه، لأنهم باطمئنانهم إلى السلامة الحاضرة، وإعراضهم عن التفكر فيما يعقبها من الأخذ الشبيه بفعل الماكر قد خسروا الانتفاع بعقولهم وخسروا أنفسهم... واعلم أن المراد بأمن مكر الله في هذه الآية هو الأمن الذي من نوع أمن أهل القرى المكذبين، الذي ابتُدئ الحديث عنه من قوله: {وما أرسلنا في قرية من نبيء إلاّ أخذنا أهلها بالبأساء والضّراء لعلهم يضرّعون} [الأعراف: 94] ثم قوله: {أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتاً} الآيات، وهو الأمن الناشئ عن تكذيب خبر الرسول صلى الله عليه وسلم، وعن الغرور بأن دين الشرك هو الحق فهو أمن ناشئ عن كفر، والمأمون منه هو وعيد الرسل إياهم وما أطلق عليه أنه مكر الله. ومن الأمن من عذاب الله أصنْاف أخرى تُغاير هذا الأمن، وتتقارب منه، وتتباعد، بحسب اختلاف ضمائر الناس ومبالغ نياتهم...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
إن المؤمن يتفطن دائما لمقام قدرته تعالى بجوار قدرته، وإذا عصى يتوقع عذاب الله تعالى من عصيانه، ويتخوف ولا يأمن أن تنزل به العقوبة، وإن المؤمن لفرط حسه بمعصيته، وإيمانه بالله يخاف دائما عذابه، ولا يرجوا إهماله وقد عصاه؛ ولذا كان من المبادئ الصوفية (تغليب) الخوف على الرجاء؛ لأن الخوف من غير إسراف على النفس من ورائه التقوى، والرجاء من غير أسبابه يفضي إلى الغرور، ووراء الغرور الاستهانة بأمر الله تعالى ونهيه. والكافر يعصي، ويرى عصيانه حسنا، وينسى قوة الله، وأنه يعاند ويحارب أمره ونهيه، ناسيا أنه يعاند القوي القهار الذي هو غالب كل شيء، وأنه لا إرادة لمخلوق بجوار إرادته – سبحانه وتعالى – وعلى ذلك يأمن عذاب الله وتدبيره، وغن ذلك هو الخسران المبين؛ ولذا حكم الله تعالى بأنه: {فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون}. وحكم الله تعالى بخسارتهم، مؤكدا الخسارة بالقصر، وأن الخسارة مقصورة عليهم، وخسارتهم في أنهم خسروا أنفسهم فليسوا في حال عقلية مدركة، وخسروا أنفسهم بالاستمرار على غيهم، وخسروا بالعذاب الأليم الذي ينزل والله سبحانه هو الذي يقي المؤمنين شر الغفلة والنسيان وأن عذاب الله، وجعلهم في فطنة دائمة واعتبار بأمر الله ونهيه، وهو الهادي إلى سواء السبيل...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللَّهِ} في ما يدبّره ويقضيه ويقدّره ضدّ هؤلاء الذين عاشوا الكبرياء والخيلاء والشعور بالقدرة المطلقة في ما يمكرون ويخططون من خطط الاحتيال، وكيف يغفلون عن إحاطة الله بهم من كل جانب، ويأمنون مكره؟ {فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} الذين لا يعيشون الخوف منه، ولا يستعدّون للتراجع عن المواقف التي تثير ذلك كله، فيخسرون دنياهم وآخرتهم.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
إنّ عدم الأمن من المكر الإِلهي في الحقيقة يعني الخوف من المسؤوليات والخوف من التقصير فيها، ومن المعلوم أن الخوف يجب أن يكون في قلوب المؤمنين دائماً إلى جانب الأمل بالرحمة الإلهية بشكل متساو، وأن التوازن بين هذين هو منشأ كلّ حركة ونشاط، وهو الذي يعبّر عنه في الرّوايات بالخوف والرجاء. وقد جاء التصريح في هذه الرّوايات بوجوب أن يكون المؤمنون دائماً بين الخوف والرجاء، ولكن المجرمين الخاسرين نسوا العقوبات الإِلهية بحيث صاروا يرون أنفسهم في منتهى الأمن من المكر الإِلهي.