قوله تعالى : { وما أظن الساعة قائمة } كائنة { ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيراً منها منقلباً } ، قرأ أهل الحجاز والشام هكذا على التثنية ، يعني من الجنتين ، وكذلك هو في مصاحفهم ، وقرأ الآخرون { منها } أي : من الجنة التي دخلها { منقلباً } أي : مرجعاً . إن قيل : كيف قال : ولئن رددت إلى ربي وهو منكر البعث ؟ قيل : معناه : ولئن رددت إلى ربي - على ما تزعم أنت - يعطيني هنالك خيراً منها ، فإنه لم يعطني هذه الجنة في الدنيا إلا ليعطيني في الآخرة أفضل منها .
{ وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي } على ضرب المثل { لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا } أي ليعطيني خيرا من هاتين الجنتين ، وهذا لا يخلو من أمرين : إما أن يكون عالما بحقيقة الحال ، فيكون كلامه هذا على وجه التهكم والاستهزاء فيكون زيادة كفر إلى كفره ، وإما أن يكون هذا ظنه في الحقيقة ، فيكون من أجهل الناس ، وأبخسهم حظا من العقل ، فأي : تلازم بين عطاء الدنيا وعطاء الآخرة ، حتى يظن بجهله أن من أعطي في الدنيا أعطي في الآخرة ، بل الغالب ، أن الله تعالى يزوي الدنيا عن أوليائه وأصفيائه ، ويوسعها على أعدائه الذين ليس لهم في الآخرة نصيب ، والظاهر أنه يعلم حقيقة الحال ، ولكنه قال هذا الكلام ، على وجه التهكم والاستهزاء ، بدليل قوله : { وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ } فإثبات أن وصفه الظلم ، في حال دخوله ، الذي جرى منه ، من القول ما جرى ، يدل على تمرده وعناده .
ثم ختم هذا الكافر محاورته لصاحبه بقوله : { وَمَآ أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً } أى : كائنة ومتحققة . فهو قد أنكر البعث وما يترتب عليه من حساب بعد إنكاره لفناء جنته ، ثم أكد كلامه بجملة قسمية فقال : { وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي } أى : والله لئن رددت إلى ربى على سبيل الفرض والتقدير كما أخبرتنى يا صاحبى بأن هناك بعثا وحسابا { لأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا } أى : من هذه الجنة { منقلبا } أى : مرجعاً وعاقبة . اسم مكان من الانقلاب بمعنى الرجوع والانصراف عن الشئ إلى غيره .
وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - :
{ أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً }
{ وَقَالُواْ نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاَداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ }
والمتدبر لحال صاحب الجنتين يراه ، - أولا - قد زعم أن مدار التفاضل هو الثروة والعشيرة ، ويراه - ثانيا - قد بنى حياته على الغرور والبطر ، واعتقاد الخلود لزينة الحياة الدنيا ، ويراه - ثالثاً - قد أنكر البعث والحساب ، والثواب والعقاب .
ويراه - رابعا - قد توهم أن غناه فى الدنيا سيكون معه مثله فى الآخرة :
قال صاحب الكشاف : " وأخبر عن نفسه بالشك فى بيدودة جنته ، لطول أمله ، واستيلاء الحرص عليه ، وتمادى غفلته ، واغتراره بالمهلة ، واطراحه النظر فى عواقب أمثاله ، وترى أكثر الأغنياء من المسلمين ، وإن لم يطلقوا بمثل هذا ألسنتهم ، فإن ألسنة أحوالهم ناطقة به ، منادية عليه .
وأقسم على أنه إن رد إلى ربه - على سبيل الفرض والتقدير - ليجدن فى الآخرة خيراً من جنته فى الدنيا ، تطمعا وتمنيا على الله . . " .
أنكر قيام الساعة أصلا ، وهبها قامت فسيجد هنالك الرعاية والإيثار ! أليس من أصحاب الجنان في الدنيا فلا بد أن يكون جنابه ملحوظا في الآخرة !
( وما أظن الساعة قائمة . ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا ) !
إنه الغرور يخيل لذوي الجاه والسلطان والمتاع والثراء ، أن القيم التي يعاملهم بها أهل هذه الدنيا الفانية تظل محفوظة لهم حتى في الملأ الأعلى ! فما داموا يستطيلون على أهل هذه الأرض فلا بد أن يكون لهم عند السماء مكان ملحوظا !
{ وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لأجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا } أي : ولئن كان معاد ورجعة وَمَرَدٌّ إلى الله ، ليكونَنّ لي هناك أحسن من هذا لأني مُحظى{[18179]} عند ربي ، ولولا كرامتي{[18180]} عليه ما أعطاني هذا ، كما قال في الآية الأخرى : { وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى } [ فصلت : 50 ] ، وقال { أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأوتَيَنَّ مَالا وَوَلَدًا } [ مريم : 77 ] أي : في الدار الآخرة ، تألى على الله ، عز وجل ، وكان سبب نزولها في العاص بن وائل ، كما سيأتي بيانه في موضعه إن شاء الله تعالى ، وبه الثقة .
ثم قاس أيضاً الآخرة على الدنيا ، وظن أنه لم يمل{[1]} له في دنياه إلا لكرامة يستوجبها في نفسه ، قال : فإن كان ثم رجوع كما يزعم فستكون حالي كذا وكذا ، وليست مقالة العاصي بن وائل لخباب على حد هذه ، بل قصد العاصي الاستخفاف على جهة التصميم على التكذيب وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر وابن الزبير ، وثبت في مصاحف المدينة «منهما » يريد الجنتين المذكورتين أولاً ، وقرأ أبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي والعامة ، وكذلك هو مصحف أهل البصرة «منها » يريد الجنة المدخولة .
انتقل من الإخبار عن اعتقاده دوامَ تلك الجنة إلى الإخبار عن اعتقاده بنفي قيام الساعة .
ولا تلازم بين المعتقَدَيْن . ولكنه أراد التورك على صاحبه المؤمن تخطئة إياه ، ولذلك عقب ذلك بقوله : { ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيراً منها منقلباً } تهكماً بصاحبه . وقرينة التهكم قوله : { وما أظن الساعة قائمة } . وهذا كقول العاصي بن وائل السهمي لخباب بن الأرت « ليكونن لي مال هنالك فأقضيكَ دينك منه » .
وأكد كلامه بلام القسم ونون التوكيد مبالغة في التهكم .
وانتصب { منقلباً } على تمييز نسبة الخبر . والمنقلب : المكان الذي يُنقلب إليه ، أي يُرجع .
وضمير { منهما } للجنتين عوداً إلى أول الكلام تفننا في حكاية كلامه على قراءة الجمهور { منهما } بالتثنية ، وقرأ أبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي ويعقوب وخلف منها } بالإفراد جرياً على قوله : { ودخل جنته } وقولهِ : { أن تبيد هذه } .