قوله تعالى : { فأنجيناه } ، يعني : لوطاً .
قوله تعالى : { وأهله } ، المؤمنين ، وقيل : أهله ابنتاه .
قوله تعالى : { إلا امرأته كانت من الغابرين } ، يعني : الباقين في العذاب ، وقيل : معناه كانت من الباقين المعمرين ، قد أتى عليها دهر طويل فهلكت مع من هلك من قوم لوط ، وإنما قال : ( من الغابرين ) لأنه أراد : ممن بقي من الرجال ، فلما ضم ذكرها إلى ذكر الرجال قال : ( من الغابرين ) .
ثم حكت السورة عاقبة الفريقين فقالت : { فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ } أى : أنجينا لوطا ومن يختص به من ذويه أو من المؤمنين به .
قالوا : ولم يؤمن به أحد منهم سوى أهل بيته فقط ، كما قال - تعالى - : { فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ المؤمنين فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ المسلمين } وقوله : { إِلاَّ امرأته } استثناء من أهله ، أى : فأنجيناه وأهله إلا امرأته فإنا لم ننجها لخبثها وعدم إيمانها .
قال ابن كثير : إنها لم تؤمن به ، بل كانت على دين قومها ، تمالئهم عليه وتخبرهم بمن يقدم عليه من ضيفانه بإشارات بينها وبينهم ، ولهذا لما أمر لوط - عليه السلام - ليسرى بأهله أمر أن لا يعلمها ولا يخرجها من البلد ، ومنهم من يقول بل اتبعتهم ، فلما جاء العذاب التفتت هى فأصابها ما أصابهم ، والأظهر أنها لم تخرج من البلد ولا أعلمها لوط بل بقيت معهم ، ولهذا قال ها هنا : { إِلاَّ امرأته كَانَتْ مِنَ الغابرين } أى : " الباقين في العذاب " .
والغابر : الباقى . يقال : غبر الشىء يغبر غبورا ، أى " بقى " . وقد يستعمل فيما مضى - أيضا - فيكون من الأضداد ، ومنه قول الأعشى : في الزمن الغابر . أى : الماضى .
وتعرض الخاتمة سريعاً بلا تفصيل ولا تطويل كالذي يجيء في السياقات الأخرى :
( فأنجيناه وأهله - إلا امرأته كانت من الغابرين ) –
إنها النجاة لمن تهددهم العصاة . كما أنها هي الفصل بين القوم على أساس العقيدة والمنهج . فامرأته - وهي ألصق الناس به - لم تنج من الهلاك . لأن صلتها كانت بالغابرين المهلكين من قومه في المنهج والاعتقاد .
يقول تعالى : فأنجينا لوطًا وأهله ، ولم يؤمن به أحد منهم سوى أهل بيته فقط ، كما قال تعالى : { فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ } [ الذريات : 35 ، 36 ] إلا امرأته فإنها لم تؤمن به ، بل كانت على دين قومها ، تمالئهم عليه وتُعْلمهم بمن يَقْدم عليه من ضيفانه بإشارات بينها وبينهم ؛ ولهذا لما أمر لوط ، عليه السلام ، أن يُسْري بأهله أمر ألا يعلم امرأته ولا يخرجها من البلد . ومنهم من يقول : بل اتبعتهم ، فلما جاء العذابُ التفتت هي فأصابها ما أصابهم . والأظهر أنها لم تخرج من البلد ، ولا أعلمها لوط ، بل بقيت معهم ؛ ولهذا قال هاهنا : { إِلا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ } أي : الباقين . ومنهم من فسر ذلك { مِنَ الْغَابِرِينَ } [ من ]{[11954]} الهالكين ، وهو تفسير باللازم .
واستثنى الله امرأة «لوط » عليه السلام من الناجين وأخبر أنها هلكت ، والغابر الباقي هذا المشهور في اللغة ، ومنه غير الحيض كما قال أبو كبير الهذلي : [ الكامل ]
ومبرأ من كل ُغَّبِر َحْيَضة*** وفساد من ضعة وداء مغيل
وغبر اللبن في الضرع بقيته ، فقال بعض المفسرين : { كانت من الغابرين } في العذاب والعقاب أي مع الباقين ممن لم ينج ، وقال أبو عبيدة معمر : ذكرها الله بأنها كانت ممن أسن وبقي من عصره إلى عصر غيره فكانت غابرة إلى أن هلكت مع قومها .
قال القاضي أبو محمد : فكأن قوله : { إلا امرأته } اكتفى به في أنها لم تنج ثم ابتدأ وصفها بعد ذلك بصفة لا تتعلق بها النجاة ولا الهلكة ، والأول أظهر ، وقد يجيء الغابر بمعنى الماضي ، وكذلك حكى أهل اللغة غبر بمعنى بقي وبمعنى مضى ، وأما قوله الأعشى : [ السريع ]
عض بما أبقى المواسي له*** من أمه في الزمن الغابر
فالظاهر أنه أراد الماضي وذلك بالنسبة إلى وقت الهجاء ، ويحتمل أن يريد في الزمن الباقي وذلك بالنسبة إلى الحين هو غابر بعد الإبقاء ، ويحتمل أن يعلق في الزمن بعض فيكون الباقي على الإطلاق والأول أظهر .
قوله تعالى : { فأنجيناه } تعقيب لجملة : { وما كان جواب قومه } [ الأعراف : 82 ] أو لجملة : { قال لقومه } [ الأعراف : 80 ] وهذا التّعقيب يؤذن بأنّ لوطاً عليه السّلام أُرسل إلى قومه قبل حلول العذاب بهم بزمن قليل .
و { أنجيّناه } مقدّم من تأخير . والتّقدير : فأمطرنا عليهم مطراً وأنجيناه وأهلَه ، فقدم الخبر بإنجاء لوط عليه السّلام على الخبر بإمطارهم مطرَ العذاب ، لقصد إظهار الاهتمام بأمر إنجاء لوط عليه السّلام ، ولتعجيل المسّرة للسّامعين من المؤمنين ، فتطمئنّ قلوبهم لحسن عواقب أسلافهم من مؤمني الأمم الماضية ، فيعلموا أنّ تلك سنّة الله في عباده ، وقد تقدّم بيان ذلك عند قوله تعالى : { فكذّبوه فأنجيناه والذين معه في الفلك } في هذه السّورة ( 64 ) .
وأهل لوط عليه السّلام هم زوجه وابنتان له بكران ، وكان له ابنتان متزوّجتان كما ورد في التّوراة امتنع زوجاهما من الخروج مع لوط عليه السّلام فهلكتا مع أهل القرية .
وأمّا امرأة لوط عليه السّلام فقد أخبر الله عنها هنا أنّ الله لم ينجها ، فهلكت مع قوم لوط ، وذكر في سورة هود ما ظاهره أنّها لم تمتثل ما أمر الله لوطاً عليه السّلام أن لا يلتفت هو ولا أحد من أهله الخارجين معه إلى المدن حين يصيبها العذاب فالتفتت امرأته فأصابها العذاب ، وذكر في سورة التّحريم أنّ امرأة لوط عليه السّلام كانت كافرة . وقال المفسّرون : كانت تُسِرّ الكفر وتظهر الإيمان ، ولعلّ ذلك سبب التفاتها لأنّها كانت غير موقنة بنزول العذاب على قوم لوط ، ويحتمل أنّها لم تخرج مع لوط عليه السّلام وإن قوله : { إلاّ امرأتك } في سورة هود ( 81 ) ، استثناء من أهلك } لا من { أحد } . لعلّ امرأة لوط عليه السّلام كانت من أهل ( سَدوم ) تزوّجها لوط عليه السّلام هنالك بعد هجرته ، فإنّه أقام في ( سدوم ) سنين طويلة بعد أن هلكت أمّ بناته وقبل أن يرسل ، وليست هي أمّ بنتيه فإنّ التّوراة لم تذكر امرأة لوط عليه السّلام إلاّ في آخر القصّة .
ومعنى { من الغابرين } من الهالكين ، والغابر يطلق على المنقضي ، ويطلق على الآتي ، فهو من أسماء الأضداد ، وأشهر إطلاقيه هو المنقضي ، ولذلك يقال : غَبر بمعنى هلك ، وهو المراد هنا : أي كانت من الهالكين ، أي هلكت مع من هلك من أهل ( سدوم ) .