قوله تعالى : { هؤلاء قومنا } ، يعني : أهل بلده ، { اتخذوا من دونه } أي : من دون الله { آلهة } يعني : الأصنام يعبدونها { لولا } ، أي :هلا ، { يأتون عليهم } أي : على عبادتهم{ بسلطان بين } بحجة واضحة تبين وتوضح أن الأصنام لا تستحق العبادة من دون الله ، { فمن أظلم ممن افترى على الله كذباً } ، وزعم أن له شريكاً وولداً .
{ 15 } { هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا }
لما ذكروا ما من الله به عليهم من الإيمان والهدى ، والتفتوا{[484]} إلى ما كان عليه قومهم ، من اتخاذ الآلهة من دون الله ، فمقتوهم ، وبينوا أنهم ليسوا على يقين من أمرهم ، بل في غاية الجهل والضلال فقالوا : { لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ } أي : بحجة وبرهان ، على ما هم عليه من الباطل ، ولا يستطيعون سبيلا إلى ذلك ، وإنما ذلك افتراء منهم على الله وكذب عليه ، وهذا أعظم الظلم ، ولهذا قال : { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا }
ثم حكى - سبحانه - عن هؤلاء الفتية أنهم لم يكتفوا بإعلان إيمانهم الصادق ، بل أضافوا إلى ذلك استنكارهم لما عليه قومهم من شرك فقال : { هؤلاء قَوْمُنَا اتخذوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّوْلاَ يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ } .
و { هؤلاء } مبتدأ ، و { قومنا } عطف بيان ، وجملة { اتخذوا مِن دُونِهِ آلِهَةً } هى الخبر .
و " لولا " للتحضيض ، وهو الطلب بشدة والمقصود بالتحضيض هنا : الإِنكار والتعجيز ، إذ من المعلوم أن قومهم لن يستطيعوا أن يقيموا الدليل على صحة ما هم عليه من شرك .
والمراد بالسلطان البين : الحجة الواضحة .
أى : أن أولئك الفتية بعد أن اجتمعوا ، وتعاهدوا على عبادة الله - تعالى - وحده ، ونبذ الشرك والشركاء قالوا على سبيل الإِنكار والاحتقار لما عليه قومهم : هؤلاء قومنا بلغ بهم السفه والجهل ، أنهم اتخذوا مع الله - تعالى - أصناما يشركونها معه فى العبادة ، هلا أتى هؤلاء السفهاء بحجة ظاهرة تؤيد دعواهم بأن هذه الأصنام تصلح آلهة لا شك أنهم لن يستطيعوا ذلك .
قال صاحب الكشاف وقوله : { لَّوْلاَ يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ } تبكيت لأن الإِتيان بالسلطان على صحة عبادة الأوثان محال ، وهو دليل على فساد التقليد ، وأنه لا بد فى الدين من حجة حتى يصح ويثبت .
وشبيه بهذه الآية فى تعجيز المشركين وتجهيلهم قوله تعالى : { قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَآ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ } وقوله - سبحانه - : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ الله أَرُونِي مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الأرض أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السماوات ائتوني بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هاذآ أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بما يدل على تكذيبهم لقومهم ، ووصفهم إياهم بالظلم فقال : { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً } .
أى : لا أحد أشد ظلماً من قوم افتروا على الله - تعالى- الكذب ، حيث زعموا أن له شريكا فى العبادة والطاعة ، مع انه - جل وعلا - منزه عن الشريك والشركاء : { أَلاَ لَهُ الخلق والأمر تَبَارَكَ الله رَبُّ العالمين }
ثم يلتفتون إلى ما عليه قومهم فيستنكرونه ، ويستنكرون المنهج الذي يسلكونه في تكوين العقيدة :
( هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة . لولا يأتون عليهم بسلطان بين ? ) . .
فهذا هو طريق الاعتقاد : أن يكون للإنسان دليل قوي يستند إليه ، وبرهان له سلطان على النفوس والعقول . وإلا فهو الكذب الشنيع ، لأنه الكذب على الله : ( فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ? ) . .
وإلى هنا يبدو موقف الفتية واضحا صريحا حاسما ، لا تردد فيه ولا تلعثم . . إنهم فتية ، أشداء في أجسامهم ، أشداء في إيمانهم . أشداء في استنكار ما عليه قومهم . .
{ هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ } أي : هَلا أقاموا على صحة ما ذهبوا إليه دليلا واضحًا صحيحًا ؟ ! { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا } يقولون : بل هم ظالمون كاذبون في قولهم ذلك ، فيقال : إن ملكهم لما دعوه إلى الإيمان بالله ، أبى عليهم ، وتَهَدّدهم وتوعدهم ، وأمر بنزع لباسهم عنهم الذي كان عليهم من زينة قومهم ، وأجَّلهم لينظروا في أمرهم ، لعلهم يراجعون دينهم الذي كانوا عليه . وكان هذا من لطف الله بهم ، فإنهم في تلك النظرة توصلوا إلى الهرب منه . والفرار بدينهم من الفتنة .
وهذا هو المشروع عند وقوع الفتن في الناس ، أن يفر العبد منهم خوفًا على دينه ، كما جاء في الحديث : " يوشك أن يكون خيرُ مال أحدكم غنمًا يتبع بها شغف الجبال ومواقع القَطْر ، يفر بدينه من الفتن " {[18019]} ففي هذه الحال تشرع العزلة عن الناس ، ولا تشرع فيما عداها ، لما يفوت بها من ترك الجماعات والجمع .
وقولهم : { هؤلاء قومنا } مقالة تصلح أن تكون مما قالوا في مقامهم بين يدي الملك ، وتصلح أن تكون من قول بعضهم لبعض عند قيامهم للأمر الذي عزموا عليه ، وقولهم : { لولا يأتون } تحضيض بمعنى التعجيز ، لأنه تحضيض على ما لا يمكن ، وإذا لم يمكنهم ذلك لم يجب أن تلفت دعواهم ، و «السلطان » الحجة ، وقال قتادة : المعنى بعذر بين ، وهذه عبارة محلقة ، ثم عظموا جرم الداعين مع الله آلهة وظلمهم بقوله على جهة التقرير { فمن أظلم ممن افترى على الله كذباً } .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم قال سبحانه: {هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه ءالهة}، يعبدونها،
{لولا}، يعني: هلا، {يأتون عليهم بسلطان بيّن}، يعني: على الآلهة بحجة بينة بأنها آلهة.
{فمن}، يعني: فلا أحد، {أظلم ممن افترى على الله كذبا}، بأن معه آلهة.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول عزّ ذكره مخبرا عن قيل الفتية من أصحاب الكهف: هؤلاء قومنا اتخذوا من دون الله آلهة يعبدونها من دونه "لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهمْ بسُلْطانٍ بَيّنٍ "يقول: هلا يأتون على عبادتهم إياها بحجة بينة. وفي الكلام محذوف اجتزئ بما ظهر عما حذف، وذلك في قوله: "لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهمْ بسُلْطانٍ بَيّنٍ" فالهاء والميم في عليهم من ذكر الآلِهة، والآلهة لا يؤتى عليها بسلطان، ولا يُسأل السلطان عليها، وإنما يسأل عابدوها السلطان على عبادتهموها، فمعلوم إذ كان الأمر كذلك، أن معنى الكلام: لولا يأتون على عبادتهموها، واتخاذهموها آلهة من دون الله بسلطان بين...
وعنى بقوله عزّ ذكره: "فَمَنْ أظْلَمُ مِمّنْ افْتَرَى على اللّهِ كَذِبا": ومن أشدّ اعتداء وإشراكا بالله، ممن اختلق فتخرّص على الله كذبا، وأشرك مع الله في سلطانه شريكا يعبده دونه، ويتخذه إلها.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
ثم حرف هلا يستعمل في الماضي، ويستعمل في المستقبل. فإن كان المضي (فهو) على الإنكار، أي لم يكن، وإن كان على المستقبل فهو على السؤال، أي ائتوا بحجة بينة أي بأنها آلهة كما أتوا هم بأن الله هو الإله الحق، وأنه خالق السماوات والأرض، ورب ما فيهما.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
... وفى قصة أصحاب الكهف دلالة على أنه لا يجوز المقام في دار الكفر إذا كان لا يمكن المقام فيه إلا بإظهار كلمة الكفر، وأنه يجب الهجرة إلى دار الإسلام أو بحيث لا يحتاجون إلى التلفظ بكلمة الكفر.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{اتخذوا}... إخبارٌ في معنى إنكارٍ...
{بسلطان بَيّنٍ} وهو تبكيت؛ لأنّ الإتيان بالسلطان على عبادة الأوثان محال
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{هؤلاء قومنا} مقالةٌ تصلح أن تكون.. من قول بعضهم لبعض عند قيامهم للأمر الذي عزموا عليه.
{لولا يأتون} تحضيض بمعنى التعجيز، لأنه تحضيض على ما لا يمكن...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ثم شرعوا يستدلون على كونه شططاً بأنه لا دليل عليه، ويجوز أن يكونوا لما قالوا ذلك عرض لهم الشيطان بشبهة التقليد فقالوا مجيبين عنها: {هؤلاء} وأن يكونوا قالوا ذلك للملك إنقاذاً له من شرك الجهل، وبين المشار إليهم بقولهم: {قومنا} أي وإن كانوا أسن منا وأقوى وأجل في الدنيا {اتخذوا} أي مخالفين مع منهاج العقل داعي الفطرة الأولى {من دونه ءالهة} أشركوهم معه لشبهة واهية استغواهم بها الشيطان؛ ثم استأنفوا على طريق التخصيص ما ينبه على أنهم من حين عبادتهم إلى الآن لم يأتوا على ذلك بدليل، فقالوا منبهين على فساد التقليد في أصول الدين وأنه لا مقنع فيه بدون القطع: {لولا} أي هلا {يأتون} الآن.
ولما كانوا بعبادتهم لهم قد أحلوهم محل العلماء، قال تعالى: {عليهم} أي على عبادتهم إياهم، وحققوا ما أرادوا من الاستعلاء بقولهم: {بسلطان} أي دليل قاهر {بين} مثل ما نأتي نحن على تفرد معبودنا بالأدلة الظاهرة، والبراهين الباهرة، فإن مثل هذا الأمر لا يقنع فيه بدون ذلك، وقد جمعنا الأدلة كلها في الاستدلال على تفرد الله باستحقاقه للعبادة بأنه تفرد بخلق الوجود، فتسبب عن عجزهم عن دليل أنهم أظلم الظالمين لافتعالهم الكذب عن ملك الملوك ومالك الملك، فلذلك قالوا: {فمن أظلم ممن افترى} أي تعمد {على الله} أي الملك الأعظم {كذباً} فالآية دالة على فساد التقليد في الوحدانية.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة. لولا يأتون عليهم بسلطان بين؟)... (فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا؟)... وإلى هنا يبدو موقف الفتية واضحا صريحا حاسما، لا تردد فيه ولا تلعثم.. إنهم فتية، أشداء في أجسامهم، أشداء في إيمانهم. أشداء في استنكار ما عليه قومهم...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وجملة {لولا يأتون عليهم بسلطان بين} مؤكدة للجملة التي قبلها باعتبار أنها مستعملة في الإنكار، لأن مضمون هذه الجملة يقوي الإنكار عليهم. إن كان الكلام من مبدئه خطاباً لقومهم أعلنوا به إيمانهم بينهم كما تقدم كانت الإشارة في قولهم: {هؤلاء قومنا} على ظاهرها، وكان ارتقاء في التعريض لهم بالموعظة، وإن كان الكلام من مبدئه دائراً بينهم في خاصتهم كانت الإشارة إلى حاضر في الذهن كقوله تعالى: {فإن يكفر بها هؤلاء} [الأنعام: 89] أي مشركو مكة.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذْواْ مِن دُونِهِ آلِهَةً} نتيجةَ ما توهّموه من خلال أجواء القوة الظاهرة لبعض الأشخاص، أمام الضعف الذاتي لأنفسهم، ما أدّى إلى أن يتحرك الوهم لتضخيم الصورة، بالمستوى الذي يمنحونها الكثير من الخيال والمزيد من الأسرار، ثم يعبدونها، وهم بذلك يعبدون خيالاتهم وأوهامهم. وهكذا فإنهم يُسْبِغون صفات الألوهة على أحجارٍ معينة، يتفنّنون في تلوينها وتحسينها وإتقانها وإبداعها في الصورة، ثم يتصورون لها عمقاً في السرّ، أو معنىً في القوّة...
{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} لأنه يَظلم الحقيقة الإيمانية التي تُمَثِّل خلاصَ الناس كلِّهم في جميع قضايا المصير في الدنيا والآخرة، ويَظلم الله في حقه في العبودية له، بالاستسلام له في كل شيء، والسير مع تعاليمه في خط الصدق الذي لا يهتز ولا ينحرف عن الحق...